«مساحات من الأفكار... شكلٌ واحتمال ... البداياتُ أنا والنهاياتُ أنا.»
— قصيدة «الرمل»، محمود درويش
«المشهد الطبيعي نقيض المكان. وإنْ ارتبطَ المكانُ بالوجهة... يبقى المشهد الطبيعي مكانًا لا وجهةَ له.»
— كتاب «Scapeland»، جان فرانسوا ليوتار
العلاقة بين المشهد الطبيعي والوسط السينمائي علاقة قائمة على تفاعل تتمازج فيه الجماليات البصرية، والبناء السردي، وتجسيد الرمزيات. لطالما أدرك صُناع الأفلام قدرةَ المشهد الطبيعي على إثارة المشاعر وإضفاء جوٍّ خاص، وتعزيز القصص. من خلال الانتقاء وموالفة بيئات طبيعية أو مصطنعة، يُسخِّر صناع الأفلام قوةَ المشهد الطبيعي لتعزيز تأثير الفيلم سرديًا وموضوعيًا، حيث يَشْغلُ المشهد الطبيعي دورَين، كستار خلفيّ ومشارك فاعل في لغة السينما البصرية، إذ يشكل حالة السرد ونبرته ومعناه. عندما يوظف صُناع الأفلام مختلفَ التقنيات السينمائية كالتأطير والإنارة وحركة الكاميرا، فإنهم يتلاعبون بالمشهد الطبيعي لإثارة عددٍ من المشاعر. أيضًا، غالبًا ما يحمل المشهد الطبيعي دلالة رمزية، والتي تعرض سياقات اجتماعية وثقافية وتاريخية داخل الفيلم — وكما هي حال السينما، فإنَّ المشهد الطبيعي يُعدُّ سجلًّا على مرور الزمن.
المشهد الطبيعي يحيط بنا؛ فلسنا خارجه أبدًا. تشكل مدينة أبها، دارًا لمناظر سينمائية: حيث الجبال الشامخة، الوديان الواسعة، والمساحات الخضراء، وبالإضافة إلى إطلالتَين بحريةٍ وصحراوية — العناصر الأساسية التي تتكون من بر وبحر وسماء. وبينما نستمتع بالمشهد الطبيعي — إذ يمكن أن يكون مثيرًا للرهبة، أخّاذًا، ساحرًا، لا يُقاوم —، فإننا أيضًا نُسائِلُ علاقتنا مع العالم الطبيعي. ولهذا السبب يجب أن نسأل: كيف لنا أن نغوص في المشهد الطبيعي الذي نسكنه دون أن نلاحظ هذا؟
عروض الأفلام والعروض التقديمية في هذه الجلسة من ملتقى النقد السينمائي تحضر هذه الخلفية إلى الأمام، لاستكشاف المشهد الطبيعي كشكلٍ من أشكال المجاز، وكشيءٍ محسوس، وكشبكةٍ من العلاقات.
إميل عواد، مصمم صوت ومؤلّف موسيقى تصويرية
ركّزت هذه الورشة على فكرةٍ مفادها أن «الأماكن ليست صامتة، بل فيها حياة، وعليه فإن لها أصواتا»، وطرحت أساليبَ متعددةً لاستخدام ما يُعرف بالمحيط الصوتي في الفيلم وأهميته القصوى، فللأصوات قدرة على إثارة بعض الأفكار والمشاعر في نفسية المُشاهد، وقد تغيّر كلّيّا فهمه لمَشهدٍ ما. إنّ فهمنا للصوت يتعدّى حواجز اللغة، فلو استمع أحدهم إلى أغنية بلغةٍ لا يعرفها ولكنه ركّز على الموسيقى والمشاعر التي ينقلها الصوت فسيمكنه أن يفهم تلك الأغنية إلى حدٍّ ما، كما أن الإصغاء إلى كل الأصوات بما فيها الصدى، يعطي إيحاءات ويقدم معلومات عن بيئة الفيلم، مثل موقعه ومحيطه وغيرها بالإضافة إلى أنه يثري تجربة المُشاهد في جوانبها الفكرية والعاطفية على حد سواء. إن تصميم الصوت في السينما عالم عميق إذ أنه أثناء عملية صناعة الفيلم يمكن أن نستخدم مصفوفة من المعادلات في لغة الصوت لتشكيل المحيط الصوتي الذي نريد خلقه والأثر الذي نريد إحداثه.
سميرة القاسم، أستاذة مساعدة لنظرية الأفلام، جامعة جورج ميسن
التاريخ والذاكرة في المشاهد الطبيعية في الأفلام» (باللغة الإنجليزية مع ترجمة عربية فورية)
لطالما تجاوزت المناظر الطبيعية الإطارات الجمالية في الأفلام، فهي تجمع العديد من العناصر لتنقل مجموعة من المفاهيم الفلسفية والروحانية والجسدية. ففي فيلم «المتسللون» على سبيل المثال، صُوّرت المناظر الطبيعية بطريقة تعكس حالة معينة من الانتظار والترقب، حيث يظهر أفراد الشعب الفلسطيني وهم يعيشون في ظلّ ظروف صعبة وتحديات مستمرة تتطلب منهم اتخاذ تدابير احترازية تضمن بقاءهم على قيد الحياة، بدءًا من إقامة الصلوات ووصولاً إلى الروتين اليومي وتناول الوجبات. من خلال هذه العدسة المؤثرة يُظهر المصوّر رحلتهم المستمرة للتغلب على تأثيرات الماضي المؤلم، وكذلك التحديات الجديدة التي يواجهونها في حياتهم اليومية، ما يكشف عن الإرادة القوية والروح البشرية المتجددة التي يتمتعون بها في مواجهة الصعاب. عن طريق دراسة هذه المشاهد استطاعت الدكتورة سميرة القاسم إبراز تأثير الفن السينمائي في إيصال رسائل عميقة باستخدام المناظر الطبيعية استخداما إبداعيا لتجسيد تجارب الإنسان وقوّته في مواجهة شتى التحديات والمحن.
حمادي كيروم، أستاذ استطيقا السينما جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء
تجليات الفضاء الصحراوي في السينما» (باللغة العربية مع ترجمة إنجليزية فورية)
يحمل الفضاء الطبيعي في طياته كثيرا من الدلالات والمعاني، حيث يصوّر فيلم «المخدوعون» (1972) هذا المفهوم من خلال انتقال شخصياته الثلاث الأساسية (وهم شبّان فلسطينيون) من الصحراء إلى الماء بطريقهم إلى الكويت، وتصوير تلك الرحلة على أنها بمثابة إنقاذ للذات. تمثّل الصحراء الشاسعة العديد من المعاني والمفاهيم في الأفلام، فظلامها الدامس وتضاريسها القاسية وانتشار الضوء فيها وظلام عواصفها كل هذه ملامح تبعث مختلف المشاعر في نفس المُشاهد، الأمر الذي يجعلها تصوّر حالة روحانية في بعض المشاهد، بينما تصورّ متاهة في بعضها الآخر.
في هذا السياق قدّم الدكتور حمّادي كيروم عرضا عن «تجليات الفضاء الصحراوي في السينما» ذاكرًا فيها بأن فيلم «االمخدوعون» هو فيلم يصوّر المكان باعتباره عنصرا أساسيا مقدّسا فيه، مضيفًا أن: «السينما هي مكوّن لمخيلة فردية»، كما طرح سؤالًا يدعو فيه الحضور إلى ضرورة البحث عن الناقد السينمائي داخل كل فرد منهم، واستحثّهم بجملةٍ من الأسئلة من قبيل: ما النقد السينمائي؟ هل هو انعكاس لرؤى أخلاقية وسلوكية؟ أم أنه يعتبر نقدًا للعقل الدقيق؟
أحمد القاسمي، أستاذ محاضر في كلية الآداب والفنون والإنسانيات، جامعة منوبة، تونس
«من الفضاء السينمائي المدرك إلى فضاء الهلوسة والاستيهام والأحلام» (باللغة العربية مع ترجمة إنجليزية فورية)
انطلق الدكتور أحمد القاسمي في عرضه من هذا السؤال: «كيف يمكننا أن نجعل الشاشة المسطّحة تستوعب كلّ هذا الكون الواسع بأبعاده المتعددة؟» وأجاب عليه بأنّ عناصر الفيلم تحمل معاني ودلالات متنوعة، بناء على تأثيرها على مشاعر الإنسان وعلى سياق الفيلم وفضائه. إن استخدام المشاهد التي تصوّر الجليد قد تمثّل لحظات الجمود الذي يصيب تجربة الإنسان في مراحل معينة من حياته، كما قد تمثّل المشاهد التي يكسوها بياض الثلج البداياتٍ الواعدة. وكذلك فإن حضور عناصر المشهد الطبيعي في الفيلم كالهضاب والسيول والجبال وخلافها يتجاوز وظيفته الجمالية ويترك أثرًا كبيرًا على فهم المشاهد للفيلم وتحليله، إضافة إلى دوره في رسم تسلسل الأحداث وتحكّمه في دفع رسالة الفيلم إلى الأمام أو عرقلتها. لقد ناقش العرض موضوعًا يجمع ما بين الفن والفلسفة وعلم النفس، مسلطًا الضوء على كيفية استخدام عناصر الفضاء الطبيعي في سبيل إيصال معانٍ عميقة وتأملاتٍ إنسانية تتعلق بالحياة والتجربة الإنسانية.
يديرها
علي المجنوني
الدكتورة سميرة القاسم والدكتور حمادي كيروم والدكتور أحمد القاسمي مدير الحوار: الأستاذ علي المجنوني
دارت الأسئلة التي طُرحت في الجلسة حول استثمار الفضاء الطبيعي في الأفلام والفرق بين حضوره بوصفه معطى تلقائيا في الطبيعة وبين استخدامه سينمائيا لإيصال أفكار أو مواقف أو مشاعر معينة. وكإجابة لسؤال كيفية استثمار الفضاء الطبيعي بوصفه عاملا مؤثرا في الأعمال السينمائية التي تُقتبس من أعمال سردية كالروايات، استشهد الدكتور حمّادي كيروم بأحد الأفلام التي عُرضت خلال الجولة من أحد أعمال الروائي نجيب محفوظ، وهو «ثرثرة فوق النيل»، مؤكدًا على أهمية دور المخرج في تحويل تلك الرواية إلى لغة سينمائية تجسّد المشاعر والأفكار تجسيدا مشوّقا، كما أشار إلى أن «الفيلم ليس الحياة نفسها، بل هو اقتراح لحياة أخرى قادمة.» أيضا طُرح في هذه الجلسة سؤال آخر عن الكيفية التي يمكن أن يستغل بها المخرج بيئة الفيلم من أجل طرح أفكار وإثارة مشاعر على المُشاهد، فأشار الدكتور أحمد القاسمي في إجابته عن هذا السؤال إلى أهمية الرؤية السينمائية والزوايا التصويرية في تحقيق هذا الهدف، فالمنظر الطبيعي أو البيئة القديمة أو البسيطة يمكن أن تكون مثيرة ومؤثرة إنْ صُوّرت تصويرا مبتكرا بحيث تنقل المشاهدين إلى عوالم جديدة من المشاعر والتجارب. واتفق المتحاورون على أهمية وضع المقاييس والمعايير في الاعتبار التي يجري الاستناد إليها في تقييم المشاهد عند نقد فيلمٍ أو تحليله، فذلك يعزّز من فهمنا لتأثير البيئة والفضاء الطبيعي في السينما.
إخراج: ناجي أبو نوار، الأردن/الإمارات العربية المتحدة/قطر/المملكة المتحدة، 100 دقيقة. (باللغة العربية مع ترجمة نصية باللغة الإنجليزية)
مع ثابت خميس ورشيد الحميدي. (باللغة العربية مع ترجمة إنجليزية فورية)
في ظل الاستعمار البريطاني في شبه الجزيرة العربية عام (1916), في البادية الأردنية، يصور فيلم «ذيب» حكاية الفتى البدوي ذيب ذو العشرة سنوات وشقيقه الأكبر حسين الذي يتعلم منه عادات أجداده. وفي ليلة من الليالي، يأتي ضابط بريطاني يحتاج مساعدة لقطع الصحراء. يوافق حسين ليكون دليله في هذه الرحلة الشاقة بحثًا عن بئر، ولكن ذيب الفتى الذي يأبى عن مفارقة أخيه، يقرر اللحاق بهما من بعيد.
تواصل معنا
Get In Touch
