أ. حسين إسماعيل
لما وقعتُ أول مرة على رواية (الحي اللاتيني) لكاتبها (سهيل إدريس)، أشارت كل الدلائل لكونها عطية سماوية. أولًا، تعتبر الرواية من أفضل مئة رواية عربية على الإطلاق.[1] ثانيًا، تصنف أحيانًا على أنها رواية نشأة (Bildungsroman)، وهو صنف استهوتني قراءة ما يندرج تحته يوم وقعت على (الحي اللاتيني).[2] ثالثًا، وربما كان السبب الأهم بالنسبة لي، استرعت اهتمامي العلاقة ما بين سنة نشر الرواية (١٩٥٣) وثيمتها الرئيسة المتمثلة في ثنائية الشرق والغرب، وما يصحبها من تقدم وتخلف وحداثة وتقليد. كنت متطلعًا لقراءة الكيفية التي عولجت بها الثيمة على يد أحد أبزر أدباء جيله آنذاك.
لكن حماس البداية أخذ يتلاشى سريعًا بتوالي الصفحات. وجدتني لا شعوريًا أقرأ الرواية بصفتها نموذجًا أوليًا لأزمة ما تزال قائمة لحظة قراءتي لها، أي بعد أكثر من نصف قرن على صدورها أول مرة. تراجعت عندي أهمية تأثر (سهيل إدريس) بالوجودية الفرنسية، ولم أعر اهتمامًا حقيقيًا لرحلة بطل الرواية الداخلية والخارجية، ولا بأسلوب تيار الوعي (stream of consciousness) الذي قولبت الرحلة فيه. ما طغى على قراءتي الأولى لـ (الحي اللاتيني) هو تغلغل الخطاب الذكوري في جميع مستوياتها، الخطاب الذي أزعم أنه ما يزال جزءًا من أزمة راهنة، لاسيما من حيث كونه امتدادًا لهيمنة أطر معرفية استعمارية.
فسواء تعلق الأمر بعدم مناسبة القصيدة العمودية "الخشنة" للمرأة الناعمة "الرقيقة"[3] ، أو بوصف إسقاطات رواية (سيدات القمر) على إنها إسقاطات أنثوية ناعمة[4]، أو باعتبار حجاب المرأة مقياسًا لثقافة بلدٍ ما[5]، ليس ثمة شك في وجود خطاب يصنف الموجودات على طول حدود تمايزٍ جوهريٍّ بين الذكورة والأنوثة. مقتضى هذا الخطاب هو أن الفروقات البيولوجية بين الذكر والأنثى (خصوصًا ما ارتبط منها بالأجهزة التناسلية) تفضي بالضرورة إلى تمايز ثقافي بينهما، الأمر الذي يشرعن بدوره إرجاع علة الأفعال والتعبيرات الفكرية لسمات فطرية ثابتة. ويتضاعف الأمر سوءًا حين تُزاوج الثقافة بهذه السمات الفطرية، أي حين تُعتَبَر ثقافة شعبٍ ما امتدادًا لسمات بيولوجية كامنة فيه.
لا يسع المجال هنا لتقصي أسس هذا الخطاب الذكوري ورواجه في الأوساط العربية، ويكفي الإشارة للدور الذي يلعبه على يد مختلف التيارات منذ منتصف القرن التاسع عشر، سواء ما صنف داخل المجال التداولي العربي أو خارجه[6]. بطبيعة الحال، اتخذت إعادة إنتاج الخطاب أشكالًا وأطروحات مختلفة؛ منها ما هو واع بتكريس ثنائية الذكورة/الأنوثة (كالمؤلفات التي تبرر وضعًا راهنًا بالإحالة للحتمية البيولوجية)، ومنها ما يكرسها بطريقة ضمنية عن طريق تبني نفس الإطار المعرفي الذي ينطوي تحته الخطاب، حتى وإن حاولت هذه المؤلفات نقد الثنائية مفاهيميًا.
تنتمي رواية (الحي اللاتيني) للنوع الثاني، أي للمؤلفات التي تكرس الثنائية ضمنيًا من خلال تبني نفس الإطار الذي تكتسب معناها فيه. فليس الأمر متعلقًا هنا بنقد صريح للذكورة أو للأنوثة أو للعلاقة بينهما، بقدر ما هو مناط باستخدام مصطلحات وشبكات مفاهيمية تعيد إنتاج الخطاب نفسه. بعبارة أخرى، بالرغم من محاولة السرد الواعية لإعادة صياغة مفهوم الأنوثة داخل عملية استجوابٍ حضارية، إلا أن بنية الرواية بحد ذاتها قائمة على قبول الافتراضات التي تسوّغ فطرية الاختلافات الجندرية الثقافية، وتفسر المقاربات الجوهرانية للثقافات. سأعلل في السطور القادمة دوافع تسليط الضوء على بنية الرواية تحديدًا من بين العناصر الأخرى، ثم سأتناول الكيفية التي أعيد من خلالها إنتاج الخطاب الذكوري في (الحي اللاتيني).
قبل البدء، هنالك إشكاليتان ينبغي توضيحهما لئلا يدور الطرح في فلك الافتراضات الشاطحة. أولى هذه الإشكاليات هو زعمي بذكورية خطاب الرواية. ليس من الصعب إدراك الاعتراض المحتمل على هذا الزعم، متمثلًا في توجيه أصابع الاتهام لمغالطة القراءة التي تُحمّل الكاتب ما يرد في النص. فحين أقول إن (الحي اللاتيني) تكرس خطابًا ذكوريًا، فكأنما أنسبُ ما يرد في سطورها إلى قناعات (سهيل إدريس)، وتعد مثل هذه الموازاة بين السارد والكاتب من الكبائر في عين أهل النقد الأدبي.
- [1] انظر مثلًا قائمة اتحاد الكتاب العرب: https://www.arageek.com/20-century-best-novels
- [2] al-Mousa, Nedal M. “The Arabic Bildungsroman: A Generic Appraisal.” International Journal of Middle East Studies, vol. 25, no. 2, 1993, pp. 223–40.
- [3] "شاعر يقصي المرأة من القصيدة العمودية، والسبب الخشونة!" https://www.okaz.com.sa/culture/na/1698456
- [4] "سيدات القمر: تهافت الأرض واستحالة النجوم" https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/19250
- [5] "أدونيس من طنجة: فوجئت بأن النساء لا يرتدين الحجاب في السعودية" https://www.youtube.com/watch?v=iOMLJQsPMKg
- [6] انظر مثلًا: مسعد، جوزيف. الإسلام في الليبرالية. جداول للنشر والترجمة والتوزيع. بيروت، 2018. محمود، صبا. سياسة التقوى. ترجمة: عبير العبيداء. جداول للنشر والترجمة والتوزيع. بيروت، 2019. مشبال، محمد. تحرير المرأة العربية في عصر النهضة. العين للنشر والتوزيع. القاهرة، 2023.