الخطاب الذكوري في كلاسيكيات الرواية العربية: الحي اللاتيني أنموذجًا

أ. حسين إسماعيل

لما وقعتُ أول مرة على رواية (الحي اللاتيني) لكاتبها (سهيل إدريس)، أشارت كل الدلائل لكونها عطية سماوية. أولًا، تعتبر الرواية من أفضل مئة رواية عربية على الإطلاق.[1] ثانيًا، تصنف أحيانًا على أنها رواية نشأة (Bildungsroman)، وهو صنف استهوتني قراءة ما يندرج تحته يوم وقعت على (الحي اللاتيني).[2] ثالثًا، وربما كان السبب الأهم بالنسبة لي، استرعت اهتمامي العلاقة ما بين سنة نشر الرواية (١٩٥٣) وثيمتها الرئيسة المتمثلة في ثنائية الشرق والغرب، وما يصحبها من تقدم وتخلف وحداثة وتقليد. كنت متطلعًا لقراءة الكيفية التي عولجت بها الثيمة على يد أحد أبزر أدباء جيله آنذاك.

لكن حماس البداية أخذ يتلاشى سريعًا بتوالي الصفحات. وجدتني لا شعوريًا أقرأ الرواية بصفتها نموذجًا أوليًا لأزمة ما تزال قائمة لحظة قراءتي لها، أي بعد أكثر من نصف قرن على صدورها أول مرة. تراجعت عندي أهمية تأثر (سهيل إدريس) بالوجودية الفرنسية، ولم أعر اهتمامًا حقيقيًا لرحلة بطل الرواية الداخلية والخارجية، ولا بأسلوب تيار الوعي (stream of consciousness) الذي قولبت الرحلة فيه. ما طغى على قراءتي الأولى لـ (الحي اللاتيني) هو تغلغل الخطاب الذكوري في جميع مستوياتها، الخطاب الذي أزعم أنه ما يزال جزءًا من أزمة راهنة، لاسيما من حيث كونه امتدادًا لهيمنة أطر معرفية استعمارية.

فسواء تعلق الأمر بعدم مناسبة القصيدة العمودية "الخشنة" للمرأة الناعمة "الرقيقة"[3] ، أو بوصف إسقاطات رواية (سيدات القمر) على إنها إسقاطات أنثوية ناعمة[4]، أو باعتبار حجاب المرأة مقياسًا لثقافة بلدٍ ما[5]، ليس ثمة شك في وجود خطاب يصنف الموجودات على طول حدود تمايزٍ جوهريٍّ بين الذكورة والأنوثة. مقتضى هذا الخطاب هو أن الفروقات البيولوجية بين الذكر والأنثى (خصوصًا ما ارتبط منها بالأجهزة التناسلية) تفضي بالضرورة إلى تمايز ثقافي بينهما، الأمر الذي يشرعن بدوره إرجاع علة الأفعال والتعبيرات الفكرية لسمات فطرية ثابتة. ويتضاعف الأمر سوءًا حين تُزاوج الثقافة بهذه السمات الفطرية، أي حين تُعتَبَر ثقافة شعبٍ ما امتدادًا لسمات بيولوجية كامنة فيه.

لا يسع المجال هنا لتقصي أسس هذا الخطاب الذكوري ورواجه في الأوساط العربية، ويكفي الإشارة للدور الذي يلعبه على يد مختلف التيارات منذ منتصف القرن التاسع عشر، سواء ما صنف داخل المجال التداولي العربي أو خارجه[6]. بطبيعة الحال، اتخذت إعادة إنتاج الخطاب أشكالًا وأطروحات مختلفة؛ منها ما هو واع بتكريس ثنائية الذكورة/الأنوثة (كالمؤلفات التي تبرر وضعًا راهنًا بالإحالة للحتمية البيولوجية)، ومنها ما يكرسها بطريقة ضمنية عن طريق تبني نفس الإطار المعرفي الذي ينطوي تحته الخطاب، حتى وإن حاولت هذه المؤلفات نقد الثنائية مفاهيميًا.

تنتمي رواية (الحي اللاتيني) للنوع الثاني، أي للمؤلفات التي تكرس الثنائية ضمنيًا من خلال تبني نفس الإطار الذي تكتسب معناها فيه. فليس الأمر متعلقًا هنا بنقد صريح للذكورة أو للأنوثة أو للعلاقة بينهما، بقدر ما هو مناط باستخدام مصطلحات وشبكات مفاهيمية تعيد إنتاج الخطاب نفسه. بعبارة أخرى، بالرغم من محاولة السرد الواعية لإعادة صياغة مفهوم الأنوثة داخل عملية استجوابٍ حضارية، إلا أن بنية الرواية بحد ذاتها قائمة على قبول الافتراضات التي تسوّغ فطرية الاختلافات الجندرية الثقافية، وتفسر المقاربات الجوهرانية للثقافات. سأعلل في السطور القادمة دوافع تسليط الضوء على بنية الرواية تحديدًا من بين العناصر الأخرى، ثم سأتناول الكيفية التي أعيد من خلالها إنتاج الخطاب الذكوري في (الحي اللاتيني).

قبل البدء، هنالك إشكاليتان ينبغي توضيحهما لئلا يدور الطرح في فلك الافتراضات الشاطحة. أولى هذه الإشكاليات هو زعمي بذكورية خطاب الرواية. ليس من الصعب إدراك الاعتراض المحتمل على هذا الزعم، متمثلًا في توجيه أصابع الاتهام لمغالطة القراءة التي تُحمّل الكاتب ما يرد في النص. فحين أقول إن (الحي اللاتيني) تكرس خطابًا ذكوريًا، فكأنما أنسبُ ما يرد في سطورها إلى قناعات (سهيل إدريس)، وتعد مثل هذه الموازاة بين السارد والكاتب من الكبائر في عين أهل النقد الأدبي.


  • [1] انظر مثلًا قائمة اتحاد الكتاب العرب: https://www.arageek.com/20-century-best-novels
  • [2] al-Mousa, Nedal M. “The Arabic Bildungsroman: A Generic Appraisal.” International Journal of Middle East Studies, vol. 25, no. 2, 1993, pp. 223–40.
  • [3] "شاعر يقصي المرأة من القصيدة العمودية، والسبب الخشونة!" https://www.okaz.com.sa/culture/na/1698456
  • [4] "سيدات القمر: تهافت الأرض واستحالة النجوم" https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/19250
  • [5] "أدونيس من طنجة: فوجئت بأن النساء لا يرتدين الحجاب في السعودية" https://www.youtube.com/watch?v=iOMLJQsPMKg
  • [6] انظر مثلًا: مسعد، جوزيف. الإسلام في الليبرالية. جداول للنشر والترجمة والتوزيع. بيروت، 2018. محمود، صبا. سياسة التقوى. ترجمة: عبير العبيداء. جداول للنشر والترجمة والتوزيع. بيروت، 2019. مشبال، محمد. تحرير المرأة العربية في عصر النهضة. العين للنشر والتوزيع. القاهرة، 2023.

ثمة وجهة نظر معتبرة في هذا الاعتراض. ولكن يمكن رفعه في هذه المقالة من خلال الإشارة لنقطتين: أولًا، أستخدم مصطلح الخطاب من باب قدرته على تجاوز ظاهر اللغة والولوج في مبطنات نُظُمها المشكّلة للمعنى. ففي حين يركز التحليل النصي (بما فيه النقد الأدبي) على ظواهر اللغة وآليات عملها داخل النص دون التطرق بالضرورة لتاريخانية علائقها إبان عملية التنصيص، ينطلق التحليل الخطابي من اعتبار النص برمته حدثًا داخل شبكة معقدة من العلائق التي تربط مكوّناتها وتسبغ عليها المعاني في الآن نفسه[7]. ذلك أن المعنى ليس مونادًا (monad) قابلًا للتقرير منفردًا، وإنما هو عَرَضٌ يصاغ على ضوء علائقه بغيره؛ بتغير بعض أجزاء التوليفة التي تضمه يتغير معناه، تمامًا مثلما يؤدي تغير معناه لتغير أجزاء التوليفة كذلك[8]. وبالتالي يمكن -تحليليًا- التعاطي مع عناصر العمل الروائي بصفتها شواهد تحيل وتعيد تشكيل ما يكمن خارجه.

في حالة (الحي اللاتيني)، حتى لو انطلقنا من الانفصال النظري بين الكاتب والسارد وأردنا حصر الطرح على ما يرد بين دفتي العمل، سرعان ما نجد أنفسنا في مأزق أمام التفاصيل التي تحيل إلى ما هو خارجه، أي إلى الأبعاد السِيَرية والإشارات التاريخية تحديدًا. هنالك مزاوجة بين أسلوب الرواية السردي المتمثل في تيار الوعي ومنظور السارد شبه العليم (quasi-omniscient narrator)، وبين تفاصيل حياتية مرتبطة بـ (سهيل إدريس)، وهي مزاوجة تصعّب تبرير الفصل التام ما بين السارد والكاتب.

فحتى وإن بُنيَ السرد عمومًا على منظور يلاحق بطل الرواية ويتعمق في دواخله حينًا، نجده حينًا آخر يستحضر تفاصيل موجهة لقارئ مفترض، أي تفاصيل وظيفتها الأساسية إخبار القارئ بما يملأ الفراغات التي يخلفها السرد. يشير ذلك لوجود حيّز ضبابي في بنية السرد يُمكّن الكاتب من التدخل دون أن يبدو تدخله ملحوظًا، أو دون أن يبدو كأنه جزء من العملية أساسًا[9]. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار الرواية نتاج ثلاث ذوات متداخلة: الكاتب، السارد، والكاتب/السارد. ولو أردت إعادة صياغة الفكرة بشكل أكثر تجريدًا، لقلت إن النص (الحي اللاتيني) هو نتاج ناص (سهيل إدريس) بواسطة منصوص به (السارد)، سوى أن الناص والمنصوص به يتداخلان في بعض أجزاء النص. هذا الحيّز الضبابي الأخير هو مدخلي للحديث عن خطابية تتضمنها بنية الرواية.

أما ثاني النقاط التي ينبغي الإشارة لها فهي أن حضور الخطاب الذكوري في الرواية غير مقتصر على لسان الشخصيات صراحةً في حواراتهم. حضور الخطاب يتخلل السرد برمته. وكما سيتجلى في الاقتباسات أدناه، تحضر المرأة من بداية الرواية بصفتها جسدًا مُجنسنًا خاضعًا لنظرة الرجل ومخياله عنها، حتى وإن كانت المتحدثة امرأة. وليس ذلك مستغربًا أخذًا بعين الاعتبار كون الذكورية حجر أساس يلامس مختلف ثيمات الرواية، سواء ما تعلق منها بالعلاقات بين الجنسين أو بثيمات الشرق/الغرب والحضارة/التخلف وغيرها. ففكرة المرأة في الرواية مرتهنة أشد الارتهان بثقافتي الشرق والغرب المتخيَّلتيْن؛ أي أنها المحور الذي ما يفتأ السرد يستحضره[10]. وبالتالي تصبح المرأة في النص -شرقية كانت أم غربية- ناطقة بلسان مضمرات الخطاب الذكوري ومؤكدة له إن صح التعبير.

كان الهدف الرئيس من وراء هاتين النقطتين تبرير تسليط الضوء على الخطاب الذكوري المهيمن على (الحي اللاتيني) وإعادة تقويمه على ضوء ثيمات الرواية. بشكلٍ عام، عطفًا على كون ثيمة المرأة جزءًا رئيسًا من مخيال الشرق والغرب؛ نراها تكتسي ذات الرداء الأنطولوجي الذي يشرعن اعتبارها نقطة انطلاق تحاك حولها مختلف الأوصاف[11]. هنا تحديدًا تكمن ذكورية خطاب الرواية؛ أي في الكيفية التي تُمَوْضَع فيها فكرة المرأة ضمن المنظومة الأبوية القائمة على منظور تاريخي تطوري، والتي تحتل فيها ثنائية الذكورة/الأنوثة (وعواقبها الاجتماعية والثقافية) مرتبة أساسية[12].


  • [7] على الرغم من استخدامي مصطلح التحليل الخطابي الذي يحمل أصداء طرح (ميشيل فوكو)، إلا أنه ينبغي التنويه إلى أني أضيف إليه أبعادًا تتجاوز تصوير الممارسات الثقافية كما لو أنها نتاج نظام مغلق.
  • [8] Lacapra, Dominick. “Rethinking Intellectual History and Reading Texts.” History and Theory, vol. 19, no. 3, 1980, pp. 245–76. Somers, Margaret. "The Privatization of Citizenship: How to Unthink a Knowledge Culture", in Bonnell, Victoria E. and Hunt, Lynn. Beyond the Cultural Turn: New Directions in the Study of Society and Culture, Berkeley: University of California Press, 1999.
  • [9] يحدث هذا حين يورد السارد تفاصيل تستطرد قليلًا من سير الأحداث لتلبي فضول القارئ. انظر مثلًا الجمل التالية: "ودلفوا -أول ما دلفوا- إلى مقهى (ديبون) عند ملتقى (رو ديزيكول) و (بولفار سان ميشال)" في ص١٣، أو "وما لبثوا أن طرقوا باب منزل في ضاحية (فانسين) أخذوا عنوانه من أحد المكاتب" في ص٦٢، أو "رآها بعد لحظات تتحول عن الكتب فتقف أمام مصباح كهربائي صغير كان قد جلبه معه من بيروت" في ص٦٨. في هاته الجمل، نجد السارد يضيف تفصيلًا مع أنه معروف مسبقًا عند البطل (موقع المقهى، كون العنوان مأخوذًا من أحد المكاتب، وكون المصباح من بيروت). وكل هذه التفاصيل تخرج السرد من منظور السارد شبه العليم وما صاحبه من دواخل البطل.
  • [10] كتب جورج طرابيشي دراسة مستفيضة يحلل فيها لاوعي بطل (الحي اللاتيني) فيما يتعلق بصورة المرأتين الشرقية والغربية، متناولًا أفكار البطل وتصرفاته قياسًا على تموقعه بين منظومات قيم مختلفة. لكن تحليل طرابيشي -رغم حصافته- تحليل نفسي نصي قائم على انغلاق عالم الرواية، وذلك ليس سوى جزء من خطابية ما أسلط الضوء عليه في هذه المقالة. انظر: طرابيشي، جورج. شرق وغرب، رجولة وأنوثة: دراسة في أزمنة الجنس والحضارة في الرواية العربية. دار الطليعة. بيروت، 1997، ص71-112.
  • [11] أحد تعاريف إدوارد سعيد للاستشراق هو كونه "أسلوب تفكير ينطلق من تمييز أنطولوجي وابستمولوجي بين "الشرق" و (في أغلب الأحيان) "الغرب""، ويوظف هذا الأسلوب في اعتبار الشرق والغرب حجر أساس تنبني عليه "النظريات والملاحم والروايات والأوصاف الاجتماعية" وغيرها. انظر: Said, Edward. Orientalism. New York, Vintage Books, 2003, p. 10.
  • [12] هناك العديد من الأطروحات التي تناولت تاريخ تشكل الابستمولوجيّة الحداثية التي يلعب فيها التمييز العرقي والجندري دورًا رئيسيًا. انظر مثلًا: Lugones, María. Pilgrimages/Peregrinajes. Maryland, Rowman & Littlefield Publishers, 2003. Mignolo, Walter. Local Histories/Global Designs: Coloniality, Subaltern Knowledges, and Border Thinking. New Jersey, Princeton University Publishers, 2012. Weinbaum, Alys Eve, et al., editors. The Modern Girl Around the World: Consumption, Modernity, and Globalization. Duke University Press, 2008.

في (الحي اللاتيني)، نجد السرد من الصفحات الأولى يوازي ما بين ثلاثة عناصر مختلفة: مخيال الشرق بصفته جوهرًا اجتماعيًا ينشأ في كنفه الأفراد، والحضارة (الغربية تحديدًا) بصفتها موقعًا ماديًا-جغرافيًا-ثقافيًا، إضافة إلى المرأة بصفتها رابط العنصرين السابقين وتجليهما. ولا أوضح من ذلك دليلًا ما يرد في الفصل الأول، حين يصف السارد شوارع باريس التي وصلها البطل -غير المسمى- حديثًا من بلده، قائلًا إنها "شوارع فسيحة ليس في بلاده، ولا في الشرق كله، مثلها جمالًا ونظافة وانتظامًا"[13]. نلاحظ هنا استخدام فكرة الشرق بازدواجية معنى: فهو الشرق المقابل للغرب جغرافيًا، وهو الشرق الذي يتسم بالقبح والقذارة والفوضى ثقافيًا. تتضح الفكرة بشكل أكبر لاحقًا حين يتوغل السارد في تأملات البطل حول مجيئه لباريس ومعنى حياته الجديدة فيها: "أفيكون إطار الحياة في شرقك ذاك أضيق من أن تجدي فيه هذه التجارب؟"[14]، وتأملاته حول مكانة الفنون الرفيعة كالمسرح والحضارة الغربية[15]، وحول العادات الشرقية "السخيفة" كالعناق بين الرجال (عوضًا عن العناق بين الرجل والمرأة كما في الغرب)[16]. وفي صدد كل ذلك، نجد السارد يضع المرأة في قلب هذين العالمين المتباينين، كما في وصف خيبة البطل: "أجل شرقك ذاك، لم يغرك بالهرب منه سوى خيال المرأة الغربية، سوى اختفاء المرأة الشرقية في حياتك"[17]. بل يوظف الانتقال من الشرق (بيروت) إلى الغرب (باريس) كما لو أنه رحلة مادية ووجودية تستوجب ذاتًا حديثة:

"كأنما هم ألقوا أثقال الرصانة التي كانت ترهق أكتافهم في بلادهم، وشعروا شعورًا عميقًا بأنهم مدعوون إلى أن يسوقوا في باريس حياة منطلقة لا يحد من حريتها قيد، فاستجابوا لهذه الدعوة بكل ذرة من ذرات وجودهم، وخلفوا وراءهم أغلال ماضيهم" .[18]

وبمجرد تأسس هذا الإطار الذي يضم العناصر الثلاثة، يصبح من الممكن فهم مكانة المرأة في السرد جسدًا مجنسنًا ليس ذا معنى إلا بارتباطه بنظرة الذكر. وكما أسلفت ذِكرًا، يتخلل الخطاب الذكوري السرد برمته، بمعنى أنه غير مقتصرٍ على الحوارات ولا على دواخل البطل الذي يُبنى تيار الوعي حوله. وبالتالي يمكن تقسيم تجليات الخطاب في الرواية إلى ثلاثة أقسام لتسهيل مقاربتها: أولها ما يحضر على لسان البطل صراحةً وضمنًا، وثانيها ما يرد على لسان الشخصيات صراحة، وثالثها ما يرد في المناطق الضبابية التي تتخندق ذات الكاتب/السارد فيها.

فمما يرد على لسان البطل، نجد عبارات من قبيل: "تبحث عنها، عن المرأة، تلك هي الحقيقة التي تنساها، بل تتجاهلها. لقد أتيت إلى باريس من أجلها"[19]، وأيضًا: "وأخذ ينقل نظره خفية بين الفتيات: سيمون وحدها، كانت الجذابة فيهن. أما سوزان وجانيت وهيلين، فكن فقط جميلات"[20]، أو حتى: "إذن مارغريت هي صاحبة كامل؟ لا ريب في أنه ينعم بلذائذ جنتها الناضجة. إنه جدير بأن يحسد. هذا الجسد، ذانك النهدان"[21]. في الاقتباسات أعلاه، لا تمثل المرأة منتهى غايات البطل وحسب، بل مصداقًا لنظرته الذكورية التي تصبح الأنثى معها كائنًا جنسيًا في المقام الأول. من هذا الباب يمكن فهم تصور البطل التشييئي -دون مواربة - للمرأة الفرنسية: "إن قصارى ما ينبغي له أن يفعل، هو أن يأخذها بين يديه، فيعصرها ويعصرها ويمتص كل حلاوتها، ثم يلفظها كما تلفظ النواة" .[22]

يسهل طبعًا تعليل مثل هذه التصورات من باب ذكورية البطل وحده، لا سيما حين تضاف إليها مشاهد لاحقة من قبيل حنقه على شخصية (جانين مونرو) كونها ثيّبًا حين عرفها (وما يستحضره من قيم العذرية والشرف)[23]، أو محاولته لوم الضحية التي تحرش بها في السينما حين نكثت وعدها بالحضور: "لماذا أعطته يدها في السينما، ولماذا تركته يلامس ساقها، ولماذا أخذت منه البطاقة، بل لماذا وعدته بأن تأتي، من غير أن يطلب إليها أن تعده بذلك؟"[24]. ولو اقتصرت التصورات على هذه المشاهد لحُقَّ فعلًا حصرها على البطل. ولكن لسان البطل ودواخله ليست وحدها التي تستبطن هذه المفردات والتصورات، بل تتشاركها الشخصيات الأخرى بشكل مطلق.

فعلى سبيل المثال، نجد (سامي) صديق البطل يقول له: "مهما يكن من أمر، فسأقدمك إلى ليليان. وأنت حاول أن تعجبها، فتظفر بها بعد ذهابي"[25]. ويقول إليه أيضًا متحدثًا عن (ليليان): "لا تمعن كثيرًا في خيالك. إنها هنا بقربك، فألق منذ الآن بصنارتك إن كانت قد أعجبتك"، قبل أن يستدرك: "بل أرجئ ذلك إلى الغد. إنها الليلة لي"[26]. وتتكرر عبارات شبيهة على لسان (صبحي) الذي وصف (ليليان) بأنها "صيد سمين"[27]، و(فؤاد) الذي يحتاج إلى المرأة كما حاجته إلى الكتب[28]، أو (أحمد) الذي يذم صديقته السابقة لأنها تركته لتعاشر زنجيًا من زنوج أفريقيا[29]. وتنضم الشخصيات من النساء للجوقة بين الحين والآخر، كتغزل (تيريز) -عاملة النظافة- بجمال ورشاقة (جانين) حبيبة البطل[30]، وتغزل أخت البطل هي الأخرى في شفتي (جانين) وجسدها المتناسق[31]. اقتباسات القسم الثاني هذه تبين تفشي النظرة الذكورية عند شخصيات الرواية جميعها، ذكورًا وإناثًا، شرقيين وغربيين. بل ربما تصور أيضًا كيف أن المرأة ما بين الشرق والغرب واقعةٌ في قلب كل الأفعال والتصرفات التي تأتي بها الشخصيات، حيث تصبح محور الأحاديث والأفكار مهما كان الزمان والمكان.


  • [13] إدريس، سهيل. الحي اللاتيني. دار الآداب، بيروت، 2006، ص9-10.
  • [14] المصدر نفسه.
  • [15] المصدر نفسه، ص٦٣.
  • [16] المصدر نفسه، ص٤٥.
  • [17] المصدر نفسه، ص٢٥.
  • [18] المصدر نفسه، ص١٧.
  • [19] المصدر نفسه، ص٢٣.
  • [20] المصدر نفسه، ص١٩.
  • [21] المصدر نفسه، ص٢١.
  • [22] المصدر نفسه، ص٣٨.
  • [23] المصدر نفسه، ص٢١٥. انظر أيضًا كيف حلل جورج طرابيشي تأملات بطل الرواية، موليًا أهمية خاصة للتبضيع والامتلاك: طرابيشي، جورج. شرق وغرب، رجولة وأنوثة: دراسة في أزمنة الجنس والحضارة في الرواية العربية. دار الطليعة. بيروت، 1997، ص84.
  • [24] الحي اللاتيني، ص٢٦-٣٧.
  • [25] المصدر نفسه، ص٤٥.
  • [26] المصدر نفسه، ص٤٦.
  • [27] المصدر نفسه، ص٥١.
  • [28] المصدر نفسه، ص١٢٢.
  • [29] المصدر نفسه، ص١٤١.
  • [30] المصدر نفسه، ص١٤٨.
  • [31] المصدر نفسه، ص٢١٠.

أما القسم الثالث والأخير من تجليات الخطاب؛ فهو ما يرد كجزء من السرد نفسه دون الانتماء بالضرورة لمنظور البطل أو شخصية أخرى، أي ذلك الكامن في حيز الكاتب/السارد. بطبيعة الحال، يصعب الفصل ما بين الاثنين أخذًا بعين الاعتبار أسلوب تيار الوعي ومنظور الراوي شبه العليم المرتبط بالبطل. ولكن كما أسلفت ذكرًا، يتضمن السرد إشارات وظيفتها ملء الفراغات عند قارئ مفترض، وهي نظريًا خارجة عن نطاق تقنيات السارد شبه العليم وتيار الوعي، الأمر الذي يعني بدوره وجود حيز لكاتب/سارد يثري السرد برؤاه.

ولكنه مهم لهذا السبب بعينه، أي لوجود مساحات الكاتب/السارد التي تبين حضور المرأة دومًا بصفتها جسدًا مجنسنًا خاضعًا لنظرة الذكر ومُعرّفًا بواسطته. يمكن التمثيل على ذلك بما ورد في مشهد تواجد الشخصيات في مقهى (ديبون) بداية الرواية: "وراحوا يغرقون صمتهم في البيرة، في كؤوس الأنصاف الثلاثة. كانوا بحاجة إلى ضحكة ترن في آذانهم فتشيع في جوهم المرح والحبور وتفلت ألسنتهم من عقالها. كانوا بحاجة إلى إحدى هاتيك الفتيات اللواتي..."[32] لا يكمل السارد الجملة، ولكن الفراغ بحد ذاته كافٍ لنقل الصورة للقارئ عن نوعية الفتيات التي تؤدي الغرض لدى الشخصيات. تتكرر فكرة شبيهة بمشهد لاحق: "ونهضت تشع على شفتيها الممتلئتين بسمة رائقة"[33]. يأتي وصف الشفتين هنا على لسان السارد شبه العليم بعد أقل من صفحة من ورود الفكرة نفسها في دواخل البطل: "وعلى شفتيها الريانتين شهوة تسيل"، أو كما في مشهد آخر: "قالت، وطيف ابتسامة يراود شفتيها الريانتين"[34]. وفي مشهد السينما الذي يتحرش فيه البطل بالفتاة الجالسة بجواره، نجد السارد مجددًا يصب تركيزه على خصال جسدية: "ثم تحركت بمهل، فخلعت سترتها المشمعة، فإذا تحتها قميص من الصوف الأخضر ينتفض لدى صدره، نهدان أرعنان" . [35]

حين توضع هذه التصورات في سياق ثنائية الشرق والغرب، نجدها تعيد تكريس علاقات القوى ما بين الذكر والأنثى كما لو أنها هي الأخرى امتداد لجوهرٍ ما. بعبارة أخرى، في نفس الوقت الذي يحضر فيه كلٌّ من الشرق والغرب بصفتهما جوهرين ثقافيين/حضاريين، نجد السرد يكرس فطرية الفروقات الجندرية ما بين متخيلي ذكورة وأنوثة، أي باعتبارهما امتدادًا لسمات بيولوجية مصاغة حضاريًا. على ضوء هذا الطرح، تتمايز الثقافات وفقًا لإدراكها مرحلة حضارية يتمازج فيها المفهومان بشكلٍ معين، الأمر الذي يعود بدوره لرفع الشعب المُعرّف عرقيًا على سلم التطور التاريخي. ولا أوضح على ذلك مثالًا من وصف الصداقات بين الفتيان والشابات في الشرق الذي تورده الرواية:

"أليس كذلك هو شأن الصداقة هناك، في بلاده، في الشرق، في بلاد العرب؟ ما قيمة تلك الصداقات بين الفتيان والشبان؟ ما قيمة تلك الصداقات بين الفتيان والشابات في الشرق؟ إن تلك الصداقات لا تقوم حقًا على أساس من المحبة الخالصة، وإنما تقوم على أساس من الحرمان المتبادل... الحرمان المنتصب حدًا فاصلًا بين المرأة والرجل، بين الذكر والأنثى" .[36]

ولا يقف عند هذا الحد، بل توصم الصداقات بين الجنس نفسه في بلاد الشرق على أنها انحراف، على عكس صداقات الغرب[37]. ونفس المنطق كامن وراء مشهد الفتاة "العربية" التي أشاحت ببصرها عن البطل لما عاد لوطنه في إجازة قصيرة:

"ثم رآها تتراجع فجأة وفي عينيها أثر من خوف، كأنما شعرت بأنها قريبة له قربًا لم تكن تقدره. ولا يدري أي عالم انفتح له في هذه الخطوة المتراجعة: لقد رأى الفتاة الشرقية، الفتاة العربية، تتراجع أمام الشاب، أي شاب، عربيًا كان أم أجنبيًا، أمام (الرجل) وعيناها طافحتان بالخوف منه، رواسب من الخوف تجمعت أجيالًا في هذه الخطوة" .[38]

رواسب الخوف المتجمعة جيلًا بعد جيل تشي بسمة لازمة للأجساد الواقعة ضمن هذا العالم الشرقي العربي، أي أنها توصف من حيث كونها جزءًا فطريًا من حياة وثقافة هذا الشرق.

يقول دوبري: "إن الصور التي تُرينا العالم هي التي تُعمينا عن النظر إليه"[9]


  • [32] المصدر نفسه، ص١٤.
  • [33] المصدر نفسه، ص٢٠.
  • [34] المصدر نفسه، ص١٩ وص٦٧.
  • [35] المصدر نفسه، ص٢٨-٢٩.
  • [36] المصدر نفسه، ص٦٥.
  • [37] المصدر نفسه.
  • [38] المصدر نفسه، ص١٩٦.