د. عبير علي الجربوع
لا يمكن للمرء أن يزعم أنه وقع على سر الشعر، أو ما يجعل المرء شاعرا، حيث ينظر الشعراء إلى العالم نظرة تختلف عن نظرة الإنسان العادي، ويعبرون عنه بما لا يستطيعه. ويفرض الشعر على الشاعر شيئا عصيًّا على التحديد، شيئا يجعله يعبّر بهذه الطريقة الشعرية.
يرى الشعراء أن سلطة الشعر تستحوذ عليهم، فيقولون شيئا يتفق تماما مع ما يمكن أن يقوله الإنسان العادي، لكنه يختلف عنه كثيرا في طريقة قوله. يغوص الشاعر في عمق الأشياء، ويستند إلى حدسه في رؤيتها.
ومع قِدَمِ الشعر إلا أنه ما زال مثيرا للحيرة، والكثير من التساؤلات والأسرار. فكيف يفكر الشاعر؟ وكيف يرى العالم؟ وكيف يكون الحدس الشعري هو المحرك لقول الشعر؟ وكيف يتكون هذا الإدراك الذي لا يفصل بين العالمين الداخلي والخارجي للشاعر؟
أتعجب حينما أتأمل قصيدة وأظن أني وصلت لما يريد الشاعر قوله، واقتربت كثيرا من طريقة وصوله للمعنى، فأتفاجأ بعد نقاش مع الشاعر نفسِه، أو مع شخص تأمل هذه القصيدة، بأن ما وصلت إليه مختلفٌ عما قصده الشاعر وأراده.
حاول باومجارتن في كتابه علم الجمال أن يفهم منطق الخيال الذي هو أساس الشعر، لكنه لم يستطع، وهو وإن اقترب من كشف شيءٍ من أسراره، إلا أنه لم يتمكن من صياغته والإبانة عنه في صورة منطق فكريٍّ خالص .[1]
يمكن القول إن الشعر إعادة خارجية للشعور والفكر، ومحاولة للتعبير عنهما، يبحث فيها الشاعر عن خصائص الأشياء ويفسرها وفق حدسه، يعيها ويجعلها تمر من خلاله وتُعجن بذاته ثم يعيد إنشاءها. وليست هذه الإعادة تكرارا لشيء معروف، بل هو كشف حقيقي أصيل لها كما يقول كاسيرر[2] ، يتحقق من خلال هذه الإعادة الخَلق الفني عبر الكلمات. وتكمن وظيفة الشاعر في هذه الإعادة بعقد المقارنات بين الأشياء، إلا أن وظيفته الحقيقية أن يستمر في القول، أن يحقق أهمية الشعر:
أرضُ الخيال تجود
معنىً أخضرا
هذي الحياةُ جميلةٌ وثمينةٌ
مادام فيها :
شاعرٌ لا يُشترى
لا تسألوا الشعراءَ أن يتوقفوا
مادام هذا القتلُ
يَعبثُ في الورى
ما جرى (ديوان ما لا يجيء)
- [1] الاستطيقا، ألكسندر باومجارتن.
- [2] فلسفة الأشكال الرمزية ج1، أرنست كاسيرر.