أثرُ اضطراب تبدد الشخصية على الفنون: قراءة في أعمال كلوي أزوباردي

معاذ الغضيّة

قبل البدء:



"يمكن لبداية غير واعدة أن تتحول إلى فن عظيم، ويمكن لأكثر بذرة واعدة أن تتحول إلى هراء."
– بريان إينو 'Brian Eno'[1]

Description missing for this image.

الفنون وسيلة تعبير للإنسان وتجسيد لخلاصة ثقافة وسياق أي عصر وزمان، ومع بدء اكتشاف إمكانات الإنتاج الصناعي والتسليع والعولمة وسهولة وسائل الاتصال- تغير الفن، وتغيرت معه مدارسه الحديثة وأصبح الجدل قائما بين من يريد استعادة التعبير الذاتي الفردي لإرجاع الفنون القديمة، وآخرين يرون ضرورة مواكبة أساليب التعبير الما بعد-حداثية حيث لا توجد حدود ولا قيود للإبداع.

يشير مصطلح الكابيتوسين 'Capitalocene' الفرنسي، بحسب تعريف موسوعة ويكيبيديا: لــ"عصر العاصمة: وهي حقبة من التاريخ البشري والطبيعي طُرحت كبديل لعصر "الأنثروبوسين". والأنثروبوسين عصرٌ جيولوجيٌّ يظهر فيه تأثير الجنس البشري على الأرض، ومن سمات هذا العصر إزالة الغابات والانقراض الجماعي لأنواع من الحيوانات، وإدخال النفايات التي يصنعها الإنسان إلى البيئة، وظهور آثار الانحباس الحراري العالمي الناتج عن النشاط البشري. في المقابل لا يعزو علماء عصر العاصمة هذه التغييرات إلى الإنسانية وحدها، بل إلى نمط الإنتاج الرأسمالي وحاجته إلى نموٍّ لا نهاية له، واعتماده على الوقود الأحفوري، والبحث عن الربح دون النظر إلى العواقب البعيدة."

Description missing for this image.

يلخص لنا هذا العصر التوجس من سيطرة الأداة والتقنية على الفنون التي هي وسيلة للتنفيس والتأمل والتعبير، بحيث أصبحت الفنون ذاتُها امتدادا لعبث الإنسان ورتابة الحياة.

تلك كانت توطئة للحديث عن الفنانة الشابة Chloé Milos Azzopardi وهي فنانة تشكيلية تعيش في ضواحي باريس، وتعمل في مشاريع تجمع بين التصوير الفوتوغرافي والأداء والتركيب.
والنقطة الجوهرية في أعمالها تتركز في كيفية تأثير اضطراب الاغتراب عن الواقع -تبدد الشخصية- في اكتشاف أساليب وطرائق فنية جديدة؟

Description missing for this image.

صورة للفنانة Chloé Milos Azzopardi كلوي ميلوس أزوباردي


  • [1] موسيقي وكاتب أغانٍ ومنتج تسجيلات وفنان تشكيلي إنجليزي.

وقبل الحديث عن بحث أزوباردي المتنوع بسماته الحسية، لابد أن نعرّف اضطراب الاغتراب عن الواقع (تبدد الشخصية)، وهو اضطراب عقلي يشبه في كثير من الأحيان شعورَ المريض بأنه يشاهد نفسه من خارج جسمه، أو أن الأشياء من حوله غير حقيقية، وقد يكون الشعور بتبدد الشخصية والانفصال عن الواقع مزعجا للغاية، وكأننا عالقون في دوامة حلم مزعج. يتعرض كثير من الأشخاص لتجربة تبدد الشخصية أو الانفصال عن الواقع في فترة ما من حياتهم بشكل عابر. ولكن عندما يستمر هذا الشعور فمن المرجح عندئذ أن نكون مصابين بهذا الاضطراب، وتشيع هذه الحالة لدى الأشخاص الذين تعرضوا لصدمة نفسية مثل العنف أو سوء المعاملة أو غيرهما من مسببات التوتر الشديد.

في لقاء مطول أجرته الفنانة أزوباردي مع بودكاست HIDDEN تقول: إنَّ سلسلتها الفنية المعروضة مستوحاة من تجربتها الشخصية مع اضطراب الاغتراب عن الواقع ومعانتها معه مذ كانت في السادسة عشرة من عمرها، وتصف كلوي أنها في بعض الأحيان لم تستطع التعرف على وجهها في المرآة، وفقدت إحساسها بذاتها مما سبب لها شعورًا بالارتباك والخوف.

استخدمت الفنانة التصوير وسيلةً للتعامل مع الاضطراب؛ فكانت الكاميرا تحميها من نفسها، وتعزلها عن المحيط مما ساعدها على التركيز ومنحها شعورا بالأمان. تتردد كلوي كثيرا في الحديث عن أعمالها بسبب طابعها الشخصي والحميمي، وفي سياق ردود الأفعال على الصور المعروضة في أحد المتاحف أشار بعض الزوار إلى أنَّ أعمال كلوي لمستهم بطريقة مختلفة؛ فهي تُظهر الأيدي أو الأشياء التي تلمس الجلد مما يعكس الإحساس باللمس، فكأنَّ تكرار ثيمة (اللمس) اعتُبِرَ طريقةً للهروب من آلام الاضطراب.

وتروي كلوي قصة لقائها مع حيوان "الغرير" في الغابة، وكيف كانت تجربتها مليئة بالفرح، وأنها تعرفت على شخص في بلدتها يربي الثعابين، ثم وجدت في تصوير الثعابين عنصرا جديدا مثيرًا للاهتمام؛ لأنَّ جلد الثعابين يعكس الضوء بشكل جميل، فالثعابين -من وجهة نظرها- نموذج مثالي للتصوير، بسبب بشرتها العاكسة وملمسها الفريد، بالإضافة لخطورة الثعابين، وثقل وزن بعضها، كلُّ هذا وغيره مثّل بالنسبة لها فرادة التجربة وما تضمنته من تحدٍّ وغرابة.

كانت كلوي في بداياتها الفنية رسامة، ثم انتقلت للتصوير الفوتوغرافي، وفي مقالاتها ومقابلاتها المحدودة تُفصح عن قدرتنا على التكيف والعيش رغم تسارع الحياة وتطورها وتغير أنماطها، بل إنَّ كلوي تؤكد أنَّ الاضطرابات نفسَها قد تكون نافذتنا لإيجاد وسائل تعبير مختلفة، فغاية الفن قد لا تكون تجسيدَ الجمال، بل عودتنا لذاتنا.

تعددت أعمال كلوي الفنية واختلفت طرائقها، فهي تمزج بين التصوير الفوتوغرافي والتركيب، وهي أعمال مفعَمة بالخيال والغرابة والحساسية العالية، ومرتبطة بعلم البيئة والتقنيات الجديدة وبناء تصورات ما بعد الكابالوسين. وقد عُرضت بعض أعمالها خلال الدورة العشرين لمهرجان كراكوف، ووصِفت بأنها تؤكد على فكرة الترابط العميق بين الأشياء الحية وغير الحية من ناحية، والبشر من ناحية أخرى، فالفنانة كلوي لديها اهتمام خاص بالأيدي، وفكرة اللمس مركزية وأساسية عندها.

Description missing for this image. Description missing for this image.

تؤكد كلوي على محورية اللمس في منجزها الفني والتصويري منه تحديدا، فاللمس تبادليٌّ بالضرورة، وهذا التبادل عموما آلية اتصال فعالة مع المحيط والكائنات الأخرى، وهذا يذكِرنا بالتأثيرات البصرية التي استمدتها كلوي من: أفلام المخرج الروسي أندري تاركوفسكي وأعمال عباس كياروستامي وماساو ياماموتو وغيرهم.

تحرص كلوي في أعمالها على ربط الإنسان بمحيطه الطبيعي، والتأكيد على أننا جزء من هذا النظام الكوني المتسق، وتُشير في مقابلة لها مع مجلة Atmos أنها أمضت شهرا في البحث عن فرس النبي طمعا في تصويره، وأخذ لقطات مميزة وفريدة له، وأنَّ لهذا الكائن نظرات غريبة وحادة للغاية. وتتخيل كلوي باستمرار علاقات عميقة مع أنواع من الحيوانات؛ فالفراشات تتوازن على أطراف الأصابع ببراعة، ولنبات الصبَّار عيونه التي يرى ويبصر بها، حتى انطلاقة بعض الأسماك في المياه الطينية الضحلة فنٌّ حقُّه أن يُلتقط ويُتأمَّل.

تقول كلوي: "لفترة طويلة بذلت الفلسفة الغربية كل ما في وسعها لتمييز الإنسان عن الحيوان، والطبيعة عن الثقافة، حتى ظننا أننا خارج نطاق الحياة".

من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه الفني الذي تتبناه كلوي ويترسخ أكثر، إذ تقدّر الأمم المتحدة أن 68% من سكان العالم سيعيشون في المناطق الحضرية بحلول عام 2050.

Description missing for this image.

تعوِّل كلوي في أعمالها ورؤاها الفنية على قيمة الخيال، ودوره الرئيس في إحداث تغيير هام وحقيقي، وفي هذا السياق يقول المفكر والفيلسوف المستقبلي جيسون لويس[2] مستشهدا بقوة الخيال وتحوله من فكرة إلى واقع: "أتذكر قول ريتش دويل في كتابه (صيدلية داروين) بأن الأحلام لا تنقصها الواقعية، فهي نماذج حقيقية للمعلومات." وحين يُوظَّف الخيال بصورة ملائمة في الفن؛ فهو يحمل معه إمكاناته الهائلة، الجامعة بين الإثارة والمتعة من ناحية، والقدرة على إنارة الحاضر وتغييره ناحية أخرى.

ولئن كان التطور التكنولوجي قد أفادنا من نواحٍ عدة، وحسّن من قدرتنا على التحكم بالعالم المادي- إلا أنه أضعف طاقاتنا التخيلية؛ فالتخيل مقرون بالانتظار، وقد قُتل الانتظار في زمن السرعة.

ختاما أقول: إنَّ قدر الإنسان واستمرار قصته على هذا الكوكب مرتبط بفعاليته في الاتصال بالأرض نفسِها وضيوفها الآخرين، وفي خلق حالة من محاكاة الطبيعة والاندماج معها. فاكتشاف أسرار الكون الفسيح سيُمدنا ويُلهمنا بإمكانات واسعة للانعتاق من مأزق ما بعد الحداثة كما فعلت كلوي في أعمالها. فقد يكون الخلاص في أسلوب فنيٍّ يتبنى حالة ما بعد الكابيتوسين، ويُرجِعنا للجذور.

Description missing for this image.