حسن عبد الموجود
لا أحد يعرفُ بالضبط مَن كان أول كاتبٍ يهتم اهتماما غير عادي بالجملة الافتتاحية لروايته، أي التمهيد لها بعبارة مختلفة، صادمة أو مجنونة، غريبة أو عبثية، متهكِّمة أو حكيمة، متفلسفة أو بسيطة، لكننا نعرف أن أي كاتب الآن يجب أن يبني عمله على تلك الجملة المفتاحية، التي صار الأدباء يتفاخرون بها، أيها نال إعجاباً، وأيها صار أكبر تأثيراً من الآخر، أيها من الذهب وأيها من النحاس!
تصيب الجملةُ المفتاحيةُ القارئَ بالصدمة أحيانا، ويكون ذلك التأثير أشبه بضربة لا يفيق منها إلا في الصفحة الأخيرة. فمثلاً استفاد الكاتب الفرنسي من أصل جزائري ألبير كامو في روايته «الغريب» من التأثير المُزلزِل لجملته الافتتاحية: «توفيت أمي اليوم، أو ربما بالأمس لا أدري. فقد تسلَّمت البرقية التالية من الوطن: توفيت الوالدة. الجنازة غداً»، وبنى عليها عالمه بالكامل، فأي عاقل لا يمكن أن يقبل أو يفهم الشعور المحايد في كلمات البطل "ميرسو"، فمن المفترض أن خبر وفاة الأم هو "الطامة الكبرى" في حياة الإنسان، وحتى الأشخاص البلداء يجب أن يتأثروا به، لكن ميرسو شخص عدمي، بارد وجاف، لكنه، يا للغرابة، صادق مع نفسه إلى أقصى درجة، يكره الكذب، ولا يجيد ارتداء الأقنعة، حتى ولو تعلق الأمر باهتزاز صورته أمام سكان مدينة كاملة استنكروا تعامله مع جثمان أمه.
ميرسو طلب من مدير دار المسنين أن يرى الجثمان، وحين رآه ممدداً في التابوت أمامه شعر بالانزعاج وبأنه لا يريد هذا وأن وقوفه أمامها الآن يبدو بلا معنى، ثم قضى الليل ساهراً بجوار الجثمان إلى جانب أصدقائها في الدار، وقد بدا عليهم التأثر البالغ، لكنه كان يتعامل بعادية، ثم شارك في دفنها، مرتكباً مزيداً من الأخطاء الصغيرة، فحين سأله الحارس عن عمر والدته أجاب بأنه لا يعرف، ثم خرج إلى السينما مع صديقته في نفس اليوم. يستعيد ألبير كامو هذه التفاصيل في النصف الثاني من الرواية، بعد أن يقتل ميرسو رجلاً جزائرياً كان يتتبعه، ففي المحاكمة، يأتي الشهود الذين أزعجتهم لا مبالاته وعدم اكتراثه بأمه ويقصُّون على القضاة وهيئة المحلفين حكايات تخص بلادة مشاعره. كانوا متحمسين للغاية وهم يحاولون أن يثبتوا أمام المحكمة أن هذا القاتل يستحق العقاب مرتين، مرة لأنه قتل، ومرة لأنه استهان بجثمان أمه!
صدمة البدايات تبدو ماثلة أيضاً في الجملة الافتتاحية لرواية «المسخ» للكاتب التشيكي فرانز كافكا: «عندما استيقظ غريغور سامسا في الصباح وجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة». هنا يضعك الكاتب مباشرة أمام الحدث، وفي قلب الغرابة، كأنه يختصر فصولاً يمكن أن نقرأ فيها الطريقة التي تحول بها إنسان إلى مسخ، لكن كافكا يعرف أن الكاتب ليس مطلوباً منه التبرير، ولا التمهيد، وأن الأدب في أحد وجوهه لُعبة، ويدرك القارئ، بمرور الوقت، وبتعاقب الصفحات والأحداث، قوانينها البسيطة، فينهمك فيها، مطالعاً بشغف كيف يحاول أفراد العائلة إخفاء غريغور عن الناس، لأن ظهوره على هيئته الجديدة، يجلب لهم الخزي والعار، مع أنه أفنى عمره بالكامل في العمل القاسي المنهك لينفق عليهم.
تعمل الجملة الافتتاحية كذلك عمل الملخَّص، وبذلك تهيئ القارئ تماماً للأجواء النفسية لعالم الرواية، كما هو الحال في «آنا كارنينا» للكاتب الروسي ليو تولستوي حيث يطل العالم الكئيب من ثناياها. يكتب: «كل العائلات السعيدة متشابهة، كل عائلة غير سعيدة، غير سعيدة بطريقتها الخاصة». نطالع تفاصيل حياة المرأة الجميلة سيدة المجتمع النبيل آنا كارنينا، وكيف وقعت في حب عشيقها فرونسكي وحملت منه، ثم يعلم زوجها بالخيانة ويسامحها، ومع هذا تطلب منه المضي في إجراءات الطلاق، حتى تعيش حياتها مع عشيقها الذي يشعر بأنها أصبحت قيداً يعوق تقدمه المهني في الجيش فيبتعد عنها، لنصل إلى واحدة من أصعب النهايات الأدبية حين تلقي آنا كارنينا نفسها أمام القطار، ونعيش معها اللحظة الأكثر قتامة في الرواية.