ياسر الأطرش
تتجاوز الترجمة كونها فعلَ إبداعٍ ومثاقفة وتبادل معلومات إلى دورٍ حضاري سياسي يتعلق بالسطوة والسيطرة، فالأمم الغالبة -عبر التاريخ- تلجأ إلى ترويج مفردات هويتها، بما يضمن لها سيطرة على المدى الطويل، بعد زوال أو تخفيف أدوات القوة، ومن هنا صارت مصطلحات "فَرنَسَة"، "تتريك"، "تعريب"؛ مصطلحاتٍ سياسيةً تعني السيطرة من طريق اللغة، فاللغة هنا ليست مجرد أداة توصيل أو تفاهم، وإنما هي حامل ثقافي عام، فأنت اللغةُ التي تفكر وتنتج بها.
ومن هنا؛ حرصت اللغات على التجذر في أبنائها، بوصفها هُويةً ودليلَ انتماءٍ وحاملَ معرفةٍ وأداةَ دفاعٍ عن الشخصية الحضارية.
العرب والترجمة بين عصرين
بدأ اهتمام العرب بالترجمة بداية العصر الأموي، مع الخليفة معاوية بن أبي سفيان، على أن المؤسس لحركة الترجمة إلى العربية، هو خالد بن يزيد بن معاوية، الذي ترك الحكم وانصرف إلى العلم، لتبلغ هذه الحركة أوجها في العصر العباسي الأول (132-232 هجرية)، مع المنصور وهارون الرشيد وابنه المأمون، وفي حكم الأخيرين تحولت بغداد منارةَ علم تشع على العالم، إذ تُرجمتُ أهم العلوم المعروفة وقتها إلى العربية، وبدأ تصديرها مع توسع الدولة الإسلامية العربية، لتغدو اللغة العربية مرجعًا ومصدرًا، وفق ما تؤكده الباحثة الأميركية (إلين رانيلا) في كتابها (ماضينا المشترك)، حين تقول: "إن أشهر الكتب في تاريخ البشرية تُرجمت إلى سائر اللغات عن العربية، وإن لم تكن كُتبت بالعربية في الأصل. ومثال ذلك كتاب البشرية الأشهر (ألف ليلة وليلة)، وكتاب ابن المقفع (كليلة ودمنة)، وغيرهما كثير من الكتب المُؤسِّسة للفكر والأدب العالمي، حتى إن كتاب (عُهدة النُسَّاك) للكاتب الموريسكي الحاخام (موسى سِفردي)، الذي تحول إلى المسيحية وصار (بطرس ألفونس)؛ يكشف لنا بوضوح تأثير اللغة العربية -ثقافيًا وحضاريًا- في باقي لغات العالم آنذاك، إذ اتخذ الكتاب من الشخصيات العربية أبطالًا، ومن المدن والبلدان العربية ذات الدلالات الدينية والحضارية؛ مسرحًا لأحداث حكاياته."
والذي تأكيده في هذا المقام؛ فكرة أنَّ العربية هضمت علوم وآداب العالم كله آنذاك، من الصين وفارس إلى اليونان وروما، وما بين ذلك، وأبعد، محافِظةً على نقائها وأساليبها، من دون أن تدخلها عُجمة تؤثر في بنيانها، وإن كان العامة قد تأثروا بالاختلاط وطغيان لهجاتٍ هجينة فرضتها ظروف الاختلاط مع مكوناتٍ اجتماعية ثقافية دخلت المجتمع العربي في الحواضر الكبرى.
إلا أن اللغة المعتمدة المدوَّنة حافظت على قواعدها ورصانتها، على الرغم من عدم وجود مؤسسات رسمية تُعنى بها، وربما يعود ذلك إلى كثرة استعمالها، والبُعد الديني المقدس، وعلوِّ مكانة الشعر العربي عند الناس، قبل أن يتغير الحال في العصر الحديث، وتستسلم العربية لأساليب الترجمة وجهل كثير من المترجمين، على الرغم من وجود مؤسسات رسمية مُتبنّاة من الحكومات ترعى اللغة وتسعى إلى تطويرها والحفاظ عليها.
ولعل أقلَّ الأخطار المحدقة بالعربية يتمثل في دخول آلاف المفردات والمصطلحات الجديدة من لغات أخرى، لغاتِ الذين يصنعون وينتجون، ويفرضون على المستهلك أسماءَ منتجاتهم، بل الخطر الأكبر هو هدم بنية اللغة العربية وتقويض أساليبها وإدخال ما لا يمكن إدخاله عليها.
الترجمة وتغريب اللغة العربية
"إذا القوم قالوا مَن فتىً خلتُ أنني
عُنيتُ فلم أكسل ولم أتبلّدِ"
لو كلفنا اليوم المترجمين أو من يقتدي بلغتهم، بشرح بيت طرفة بن العبد هذا، لا ريب في أنهم سيشرحون الفعل (عُنيتُ) بقولهم: "تمَّ استهدافي أو تمَّ تقصّدي". وسيضعون -غالبا- الفعل "تمَّ" الذي أصبح عندهم وعند غالبيتنا "ملح اللغة"!