غسان عثمان
رواية محمد بركة (حَانة السِّت) سيرة روائية لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وهي سرد يُعيد كاتبه أمَّ كلثوم معتمدًا على شبح السِّت الذي استحضره الراوي ليُجري على لسانه السيرة الكلثومية كما أراد لها أن تكون، ورغم كثرة الكتابات والمؤلفات حول تاريخ أم كلثوم، وما راكمته الأقلام العربية والأجنبية فحصًا ودراسةً حول هذه الظاهرة؛ إلا أننا أمام أول عمل روائي يتتبع حياتها ومشوارها. ولم تكن الرواية "إعادة تدوير" لما كُتب عن سيدة شغلت الناس حيةً وميتة، بل يقع القارئ على الحكاية كما روتها الكتب التي ترجمت سيرة "السِّت"، حيث يحاول الكاتب تخييل حياة أم كلثوم من زوايا جديدة، جامعا بين المتعة والمعرفة، وهي متعة مختلفة مضادة للأسطورة كما يقول الراوي، وهنا تنفتح بوابات سرية لمتتبعي سيرة أم كلثوم، ففضاء الرواية مفتوح على عناصر لم تكن ضمن صيد الكتابات السابقة، وإن اعتمدت عليها؛ إذْ أثبت الراوي المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في كتابة هذه الرواية؛ فجاءت الرواية تحمل لنا حوارا بين المكان والوعي، إذ شكل المكان (=القاهرة، بكل ما يحتشد فيها من هويات متصارعة) هوية الفاعل؛ فاعل قَدِمَ حاملاً مكانه الخاص (الريف المتمثل في أم كلثوم، الريف بكل ما يحمل من مظلومية الإبعاد).
في الرواية ملامح نشأة وتشكل السِّت في عالمها الصغير: حروبها، انتصاراتها وهزائمها، وكيف واجهت معاصريها بإلقاء المزيد من النجاحات في وجه المؤامرة، بل كيف تسللت إلى الطبقة الجديدة بشروطها هي. إذن نحن أمام رواية تعتمد التحليل النفسي لشخصية قَدِمت من الريف المصري المنسي والمستبعَد من شروط المدينة؛ المدينة هنا قاهرة العشرينيات، وقد استطاع الراوي أن يكشف لنا عن مدينة متوحشة؛ متوحشة بحداثة مرتبكة بل مزيفة في كثير من جوانبها. فقاهرة العشرينيات مدينة متناقضة وتحتاج إلى تحسين وظيفة التحليل الاجتماعي لفهم طبائعها، مدينة -بل مدن متجاورة- هي باريس الخديوي إسماعيل، الذي نقل العمارة الفرنسية إلى وسط البلد؛ فولّدت هذه العمارة حداثة فنية مشوَّهة. قاهرة العشرينيات هي شارع محمد علي بعوالمه، وشارع عماد الدين بـ "مزيكاته" و"هرج المشخصاتية" المحترفين بالفطرة، ومسرح الأزبكية العريق، فهي قاهرة الطرب المجّاني والروايات التمثيلية المتأثرة بصدى الأدب الفرنسي، وهذا "الجيتو" كان انشغاله الرئيس يتعلق بتدبير الفن من أجل الفن، بل إنه يستهلك الفنون لأجل الانتساب بالقوة إلى مجال حداثي صنعته العمارة الخديوية.
كانت السيدة أم كلثوم -أو شبحها الذي استحضره المؤلف- تعيد الاعتبار لتاريخ الوعي عند " السِّت"، وليس تاريخها الفني بالمعنى التوثيقي الجاف، وقد استطاع المؤلف أن يجعل الشبح ناطقا بما يريده في روايته.