فريد صالح
صدرت الطبعة العربية لكتاب هربرت ريد (الفن اليوم: مدخل إلى نظرية التصوير والنحت المعاصرين) عام 1981م عن دار المعارف بالقاهرة، ترجمة محمد فتحي وجرجس عبده، وهي ترجمة الطبعة المنقحة من الكتاب التي صدرت عام 1968م بعد ثلاث طبعات أعوام 1933م و1936م، و1948م.
ويُعدُّ هذا الكتاب من الكتب الهامة والمؤسِسة عند محاولة التعرف إلى ما يمكن اعتباره انفجارا في مذاهب واتجاهات الفن التشكيلي مطلع القرن العشرين بأوروبا. إذ حرص الكاتب على الموازنة بين المدخل النظري والتطبيق العملي على المذاهب الفنية التي عايش بزوغها وتطورها وأعلامها بنفسه، ملقيًا الضوء على ما أنجزه كل مذهب في إطار المبادئ العامة، متوخيًا التأكيد على أنَّ "الإدراك الحسي والبصري الفكري والابتكار الفني والتصميم الفلسفي ترتبط جميعها ارتباطا ديالكتيكيا، وتكوّن معانيها اللُّحمةَ لنسيج التاريخ الفني". والمؤلف ينطلق من مسلَّمةٍ مفادها "أن الفن الحديث يفترض حتمية انحلال القيم الثقافية في الماضى القريب؛ فالفنان يعمل على مستوى آخر، حيث يتحكم في أنشطته المصيرُ الأوسع الذى يهيمن على كل أنشطة الروح الإنسانية، وبقدر ما تزيد عصرية روحه بقدر ما يزداد تباعدًا ونزاهة" ص6. ذلك أن " الفنانين العظماء الذين يرجع إليهم معظم الفضل فى توجيه مسار الفن يخلو فنهم تمامًا -وبصورة ملفتة للنظر وعلى طول المدى- من الدوافع الأيديولوجية. استغرقتهم الرؤيا والرسم فعاشوا فيهما واختطوا المسار المحتوم الذى أملته عليهم دقة حسهم" ص 7.
يشتمل الكتاب على ستة فصول وخاتمة إضافة إلى ملحق بنماذج من اللوحات التي تحدث عنها الكاتب تصل إلى ما يقرب من نصف الكتاب، بالأبيض والأسود، وكان يفضل طباعتها بالألوان.
جاءت عناوين الفصول كاشفة عن مضمونها، وهي تتوخى السرد التاريخي الكورنولوجي من الأقدام إلى الأحدث؛ ففي الفصل الاول يؤكد الكاتب أنه "فات أوان النظر للفن كمدرَك عقلي مثالي، إنما يُنظر إلى الفن كمرحلة في التاريخ المثالي للنوع الإنساني، كأسلوب في التعبير سابق لعهد المنطق، شئ ضروري حتمي، جزء لا يتجزأ من كل. لغة عصر البطولات والملاحم والتعبير عن بطولة خيالية في حياة الفنان في أي عصر".ص 18. مشيرًا إلى العلاقة الجدلية بين الجمال والحق، فالجمال هو الحق، والحق هو الجمال "ولكن فقط بمعنى أن الجميل هو المظهر الحسي للفكرة". (ص 20). وجوهر العملية التشكيلية هو التلوين وليس التخطيط "فاللون وفن التلوين هما اللذان يجعلان المصور مصورًا. ولا شك أننا نقف أمام الرسم، فنتأمله بسرور، ولكن قل أن نفعل ذلك مع الدراسة أو التخطيط السريع، وإنما نفعل ذلك بالنسبة لما يكشف بأجلى بيان عن خاصية العبقرية". (ص 20)
وبرغم أهمية الفكر الهيجلي، ينتقد الكاتب هيجل ورؤيته للفن؛ لأنه "لم يستطع أن يقف في وجه قيود مذهبه المتحكمة؛ ولأن مبادئ مذهب هيجل كما وضح كروتشه "عقلية في صميمها، ومعادية للدين، ومعادية بنفس القدر للفن" فالفن عند هيجل لم يكن سوى مرحلة، ومرحلة أدنى، في ارتقاء العقل نحو الحقيقة. (ص 21) . "غير أن الأمر يختلف بالنسبة لجوستاف تيودور فخنر الذى نُشرت الطبعة الأولى من كتابه (مدخل لدراسة علم الجمال) حوالي عام 1876، ففخنر هو المؤسس الحقيقى للعلم الحديث للفن، وهو أول فيلسوف درس الفن دراسة أساسية بحيث يُقِيم الجماليةَ على أساس بحث تجريبي أو استقرائيٍّ للأعمال الفنية". (ص 22).
ويهتم الكاتب بالإشارة إلى جانب التلقي في سيكولوجية الفن، لأن العملية الفنية بدون التلقي ناقصة، مؤكدًا على أن "الشعور الجمالي بالتعاطف ليس مجرد أسلوب في التذوق الجمالي، بل هو التذوق ذاته، فكل تذوق جمالي يقوم في التحليل النهائي جزئيًا وكليًا على هذا التعاطف، حتى ذلك الناشئ عن الخطوط والأشكال الهندسية وفنية العمارة وغيرها من الخطوط والأشكال التجريدية". (ص 29). ويرى أن التجربة الجمالية الكاملة تجاه العمل الفني تتكون من ثلاث مراحل "أولًا: الإحساس أو الإدراك الفوري للموضوع، ثانيًا: رد فعل الجهاز العاطفي لشكل الموضوع المدرك، وثالثًا: رد فعل عقل المشاهِد لطبيعة المفهوم الفكري للموضوع، أي: لمضمون العمل الفني ولجميع ما يثيره من تداعيات ثانوية" (ص 29).
وفى نهاية الفصل يخلُص هربرت ريد إلى "قصور أي مصطلح يحاول أن يشخِّص الخيال الإنساني المبدع، أو أن يسِمَهُ بصفة مميزة. الحقيقة أن الفن اكتشاف وتأسيس لعالم جديد من الأشكال، والشكل شيء معقول، لكنَّ الفن تغيير وتحويل مستمر للشكل عن طريق قوى حيوية غريزية لا تستند إلى شئ من العقل" (ص 35).
وفى الفصل الثاني يؤكد الكاتب الانفصال المعرفي بين حركات الفن التشكيلي الحديثة وما سبقها، بطرحه سؤالا محددا، ثم يجيب عليه إجابة قاطعة بقوله: "أين في الأسلاف المباشرين للفن الحديث من ورث عنهم بيكاسو وماكس إرنست وغيرهم من الفنانين الكثيرين الذين قد نُشِيدُ بأعمالهم المتنوعة والفريدة؟ يبدو أن ثمّةَ انفصالًا واضحًا في التطور التاريخي للموهبة الفنية". (ص 36).
ثم يشير إلى أن جوهر الرمزية هو أن "الفنان يبحث عن شيء كامن تحت الظواهر، عن رمز تشكيلى يكون أكثر دلالة على الحقيقة من أي نسخ مطابقة للأصل". (ص 43). ويؤطر ما كتبه جوجان: في الرسم كما الموسيقى يتعين على المرء أن يبحث عن الإيحاء وليس عن الوصف. (ص 43).
فالعمل الفني ينطوي على انسجام جميع العناصر مع بعضها بعضًا، فهو مجموعة يوجد بين أجزائها الانسجام. أي تفاصيل زائدة ستحتل في ذهن المشاهد بعض التفاصيل الأخرى الرئيسة". (ص 47). وأي تعريف للرسم لا يتضمن بصورة من الصور مفهوم الشكل لا يمكن أن يصمد في التطبيق زمانًا طويلًا. (ص 47).
ويشير هربرت رايد في الفصل الثالث إلى الموضوعية الجديدة باعتبارها "في صميمها سخرية مُرة قل أن يتقبلها أولئك الذين يطلبون من الفن أن يكون مليحًا أو حتى جميلًا بالمعنى الكلاسيكي". (ص 61). ثم يحلل تلك المغالطة التي الفيلسوفة المعاصرة هانا أرندت الأنظار