فريد صالح
اعتدنا وجود الألوان في حياتنا؛ في كل ما هو طبيعي وصناعي وبشري، حتى جعلها الاعتياد كأنها غير موجودة، أمر مسلم به أو تحصيل حاصل، لذلك سيدهشك هذا الكتاب عندما يعرض عليك تاريخ النظر إلى الألوان، وفلسفتها، والطابع الثقافي لها، والمعارك الفكرية والاجتماعية والدينية والسياسية التي دارت حولها أو بسببها.
كتاب "ألوان شيطانية ومقدسة. اللون والمعنى في العصور الوسطى" لمؤلفه هيرمان بلاي، ترجمة د. صديق جوهر، من الكتب المثيرة للتفكير. ربما الفكرة الأولى التي ترد ببال القارئ هي: يخلق الله الألوان ويمنحها الإنسان المعنى. ولأن الإنسان يختلف باختلاف المكان والزمان والجنس والطبقة الاجتماعية؛ تختلف المعاني التي يمنحها للألوان، فيصبح للون معنى وضده في الوقت نفسه، وتزول فكرة تبدو وكأنها شديدة الرسوخ في العقل الجمعي بأن لكل لون معنى محدد وجِدَ مع خلق هذا اللون. فالألوان مخلوقات طبيعية، والمعاني إضفاء ثقافي.
هيرمان بلاي مؤرخ هولندي وأستاذ التاريخ الهولندي بجامعة أمستردام، وكاتب روائي متخصص في الرواية التاريخية، ومن رواياته ذات الصلة بموضوع الكتاب رواية "نقابة الزورق الأزرق" التي تدور أحداثها وسط الاحتفالات الكرنفالية التي اشتهرت بها أوروبا إبان العصور الوسطى. صدرت الترجمة العربية للكتاب عام2010م عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث. بترجمة د. صديق جوهر الحاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة إنديانا الأمريكية، والمتخصص في الترجمة التحريرية والفورية.
يشتمل الكتاب على افتتاحية المترجم، ومقدمة المؤلف، وسبعة فصول وسؤاله المركزي: "هل الألوان جزء من جوهر الأشياء، أم أنها مجرد أقنعة زائفة تخفي وراءها الحقيقة وتطمس أصل الوجود وإبداع الخالق؟"
وفي سياق الإجابة على السؤال قدم المؤلف وجهات النظر المختلفة من أقصاها؛ الإيمان الشديد بالألوان، إلى أقصاها: اعتبار الألوان نوعًا من الخداع الشيطاني فقد "انتشرت عبادة الألوان في العصور الوسطى، المؤمنون بهذه المذاهب يعتقدون أن الألوان هي نتاج للضوء الإلهي المقدس الذي منح الحياة كينونتها المادية، حيث إن نشأة الخليقة اقتضت من الرب أن يفيض بنوره على الأرض، ويتضح أن الألوان كانت تعبيرًا عن قوى الرب الخلاقة حتى لو كانت زائفة وغير ملموسة". وفي المقابل فإن الكارهين للألوان يرونها "نتاج لتلاعب الشيطان بالأضواء السماوية...لاستخدام الألوان في سعيه إلى تضليل الناس وإبعادهم عن الحقائق الخالدة في الوجود عن طريق تحويل هذه الثوابت إلى ظواهر بصرية ذات طبيعة زائلة...إنَّ كل ما هو ملون يُعد زيفًا من عمل الشيطان يهدف من ورائه إبليس إلى إغواء الناس وإغراقهم في الملذات الآنية التي تبعدهم عن عالم الخلود".
ويؤكد المؤلف على أنه لا يوجد معنى واحد مطلق لأي لون، فمعاني الألوان ظاهرة ثقافية وليست أمرًا من أمور الطبيعة "تقديرنا وإدراكنا للألوان ليس أمرًا ثابتًا لا يتغير على مر العصور، فالألوان لها تاريخ، كما أنها عُرضة لتفسيرات وتأويلات متعددة، فنظرتنا إلى لون معين قد تتغير بسبب تغير أماكن إقامتنا والعصر الذي نعيش فيه ومركزنا الاجتماعي".
يستفيض المؤلف في مناقشة جوهر اللون؛ هل هو مادة؟ هل اللون يُقاس؟ وما علاقته بالضوء من حيث نوعية الضوء وشدته؟ ويقدم إجابات العصور الوسطى المعتمدة على العلم والتفلسف والخرافة والتدين معًا. ويُشير إلى التقسيم الكنسي للألوان الذي ظل سائدًا لفترة طويلة، فقد أصدر البابا "أنوسنت الثالث" مرسومًا بابويًا حدد أربعة ألوان رئيسة للأعياد الكنسية المختلفة كما يلي: الأبيض لعيد الميلاد وعيدي الفصح والصعود، ولباقي الأعياد التي تمجد الرب والعائلة المقدسة. الأحمر لأعياد العنصرة أو الخمسين والصليب المقدس وأيام الشهداء. الأخضر لأيام آحاد ما بعد الغطاس والثالوث الأقدس وسائر أيام الأعمال. الأسود لأيام الآحاد الأربعة السابقة للميلاد والصوم الكبير والجمعة الحزينة وعيد الموتى. أما القديس توما الإكويني فيُضفي معان نبيلة على بعض الألوان: البياض يعني الطهارة. الأرجواني يمثل الاستشهاد. الأزرق يرمز إلى التحرق للخلود. الأحمر يجسد عاطفة الحب. وقد كان الأحمر؛ وليس الأسود، في تلك الفترة نقيضَ الأبيض. في حين يرى البابا غريغوري الكبير في القرن السادس "أن أولئك الذين يذعنون لخداع الألوان في أي تصوير حمقى؛ لأنهم بذلك يعمَون عن حقيقة الموضوعات المصورة". وكان الشيطان يُصوَّر كمخلوق أحمر اللون أو أحمر الرأس، وبالتالي فذوو الشعر الأحمر ملعونون.