تحولات النقد العربي الحديث

فريق المختبر السعودي للنقد

إنَّ وضع اليدِ على المعنى المراد من الأعمال الأدبية والفنية ليس أمرا يسيرا، فالآداب والفنون نظرا لارتباطها الشديد بالإنسان وتعقيداته؛ تحملُ شيئا من هذه التعقيدات الممزوجة بالمتعة؛ ولذا فهي مصادر عظيمة للتفكر وإثارة الأسئلة. ومن هنا يأتي جزءٌ أصيلٌ يتنافس فيه النقاد؛ حيث يطرحون رؤاهم وقراءاتهم التي تتباين مقدرتها التفسيرية، ولكلٍّ زاويته ومناهجه.

وقد مرّ النقد بالعديد من التحولات، فابتداءً كان التركيز على الكاتب أو المبدع، ثم تحول التركيز إلى النص، وأخيرا إلى القارئ. وظهرت في سياق ذلك مناهج نقدية مختلفة خاصة في القرن العشرين، كالنقد النسوي والماركسي ومدرسة النقد الجديد والبنيوية والتفكيكية وغيرها. والنقد قد يكون قائما في الأساس على دراسة معمَّقةٍ للنص من ناحية لغته وفكرته وما تضمنه من عواطف. وقد يعتمد على أفكار مسبَّقة أيديولوجية كالنقد الماركسي مثلا الذي صدّرَ ما يُسمّى بالأدب الملتزم، ومن زاويةٍ أخرى قد يؤخذ في الاعتبار كل ما ساهم في صنع وتبلور هذا النص من ظروف تاريخية أو اجتماعية ونفسية.

وسنسعى في هذه المقالة لتسليط الضوء على النقد الأدبي العربي الحديث الذي اتجه نحو ترسيخ المناهج العلمية وتوظيفها حتى صار علما مستقلا؛ لأنه تجلٍّ عن موقف متكامل ونظرة شمولية للحياة والقيم ومصادر المعرفة. ويرى معظم الباحثين أن مصطلح "حديث" يُستعمل للدلالة على الكتابات النقدية منذ بداية النهضة العربية. واستمد النقد الأدبي العربي الحديث مقوماته من الحياة المعاصرة وما استجدَّ فيها، وتركزت معالم التجديد في ثلاثة تيارات رئيسة:

  • اتجاه يرى وجوب الاستناد للأدب العربي القديم، والاستعانة بروائعه لبناء نهضة أدبية حديثة. مع ما يحتفُّ بهذه المحاولة من صور التقليد.
  • اتجاه رأى السبيل الصحيح في النقد من خلال دفعه ناحية المبادئ الإسلامية ودعوة الكتاب والشعراء لالتزام هذه السبيل والسير في طريقها. وغلب على هذا الاتجاه الأدبي شيءٌ من الجمود والمحافظة.
  • اتجاه أوروبي ظهرت أماراته واضحة على الأدب والنقد، تبناه بعض الأدباء الشاميين ثم المصريين، داعين إلى الأخذ بأسباب التطور الغربية، ومن أمثلة ذلك صنيع الأديب والناقد الدكتور طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي توسّل فيه بمنهج الشك الديكارتي، وممن وازن بين التراثين العربي والغربي في النقد الدكتور أمين الخولي.

لكنَّ الإرهاصات الحقيقية التجديدية في النقد الحديث ظهرت مع اتصال الأدب العربي الحديث بالمذاهب النقدية الغربية. ويتلخص مفهوم (النقد التجديدي) في تبني واعتماد النظريات الغربية، وإن أدّى ذلك لمحو القواعد التقليدية في النقد. ومن أبرز المذاهب والمدارس النقدية الغربية التي أثّرت في النقد العربي: مذهب التطور الذي ولِدَ على يد داروين، وطبّقه سبنسر على الأخلاق وعلم النفس وعلم الاجتماع، ثم نقله برونتيير للأدب ودوّن عن تطور النقد والشعر الغنائي والمسرحي، حيث رأى أنَّ الوعظ الديني في القرن السابع عشر صار شعرا غنائيا رومنسيا في القرن التاسع عشر.

ومن المذاهب النقدية الغربية اتجاه التحليل النفسي الذي عُرِفَ مع فرويد، ثم أصبحت الفرويدية من أكبر الأسباب الموجّهة للأدب والفكر في أوروبا، ومن أشهر ممثلي النقد النفسي باشلار، وعند العرب عز الدين إسماعيل في كتابه: (التفسير النفسي للأدب). ومن المذاهب والمدارس الحديثة الفلسفة الجمالية، وحضرت فلسفة الجماليات في كل الفنون الأدبية، وصار يُحكم على الأثر الأدبي من حيث قيمته الفنية. ومن رواد هذا المذهب: الفيلسوف الألماني الكبير كانط، ومن النقاد العرب الأستاذ محمد مندور في كتابه (منهج البحث في الأدب). ومن المذاهب النقدية كذلك الفلسفة الواقعية وهي تُعنى بمضمون الفن والأدب وصلته بالعصر والجماهير المخاطَبة. وتركز الفلسفة الواقعية في الأدب على دور الأديب في التعبير عن المجتمع وظروفه، ومن فلاسفتها: أفلاطون وأرسطو، ومن شعرائها العرب: بدر شاكر السيَّاب وعبد الوهاب البيّاتي، ومن نقّاد الاتجاه الواقعي: محمد هلال وجورج طرابيشي.

وكذا أثّرت الرومانسية كثيرا في النقد العربي الحديث تأثيرا بعيدا، إذ صار الرومانتيكيون العرب ينظرون للأدب بوصفه نتاج العبقرية الفردية، وهو بهذا الاعتبار قد يتغير وتتفاوت جمالياته باختلاف الأفراد والأمم.

ومن المدارس النقدية العربية الشهيرة (مدرسة الديوان) التي مثّلها شكري والعقاد والمازني، وقد ظهرت مدرسة الديوان في العقد الثاني من القرن العشرين، تزّعمت حركة التجديد الشعرية، وقام روادها بدور محوري في خدمة الأدب وتحريك مياهه الراكدة. ويمكن إيجاز المعالم النقدية لمدرسة الديوان في ربط الشعر بالعاطفة والخيال، والنظر إليه باعتباره انعكاسا للحياة. والنأي عن طريقة القدماء في الشعر، ومعارضة التوظيف المبالغ فيه للصور البيانية، والتأكيد على الوحدة العضوية والموضوعية للقصيدة، والإعلاء من شأن موسيقى الشعر وأوزانه، دون القافية، وبيان أنَّ هدف الشعر الأسمى تحصيل اللذة النفسية والعقلية، ومحاربة شعر المناسبات؛ لأنه خالف مفهوم الشعر عند الغربيين.

ومن مدارس الشعر واتجاهاته الحديثة في العالم العربي التي تبنّت التجديد ونافحت عنه (جماعة أبولو) التي ظهرت سنة 1932م على يد الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي. وهي مدرسة أدبية ضمت مجموعة من الأدباء والنقاد والشعراء، وذاع صيتها. أكدت هذه المدرسة على الإبداع وتنمية الخيال، ونادت بمبدأ الفن للفن، وحرصت على الإفادة من الأدبين العربي والغربي، وراعت مناهج الشعر ومذاهبه، ومن هنا رأى بعض الدارسين أنه لم يكن هناك منهج واحد محدد يجمع أعضاء هذه المدرسة، وإن غلبت عليها الرومانسية. ومن أعضائها: حسن الصيرفي وإبراهيم ناجي وزكي مبارك. وتبنت مدرسة أبولو مناهج الرومانسية نفسِها كالثورة على التقليد والارتباط بالأصالة والفطرة الشعرية، والبعد عن التشبيهات المبتذلة وغير ذلك مما مرَّ معنا بعضه.

ومن المدارس النقدية التي ظهرت على الساحة العربية في بدايات القرن العشرين مدرسة (الرابطة القلمية) وسبب ظهورها يرجع لأدباء المهجر الذين رحلوا لأمريكا الشمالية رافضين للتقليد داعين للابتكار والتجديد. ولم يقتصر عمل هذه الرابطة أو المدرسة على الشعر بل امتدَّ للنثر، وأبرز أعضائها: نسيب عريضة، جبران خليل جبران، وأمين الريحاني، وانضمَّ لهم ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي وغيرهم.

وقد تباينت الإسهامات الأدبية التي قدمها أعضاء الرابطة، وتتلخص ركائز هذه المدرسة في الثورة على القديم والدعوة للتجديد شكلا ومضمونا، كتب بعض المنتمين لها الموشحات والأزجال، ورفضوا استخدام الألفاظ القديمة المتكلَّفة، مراعين سهولة اللفظ وجمال العبارة ورشاقتها. وعُرفت هذه المدرسة بالشعر الملحمي والمسرحي، مع حرية كبيرة في الإنتاج الأدبي بصورة عامة، وبدتْ في قصائدهم تأملات كونية حياتية تجديدية لافتة. يُضاف إلى ذلك تبنّي الرابطة للشعر القصصي، حيث وُظِّفت القصة الشعرية كوسيلة تعبيرية في نتاجهم، مع تركيز كبير على النزعة الإنسانية، والتغني بالطبيعة.

هذه لمحة خاطفة موجزة عن أهمِّ تحولات النقد العربي الحديث، أوجزنا فيها أشهر المدارس التي ظهرت خلاله بصورة مقتضبة ومركزة.