تأثيرات الداء الفرنسي على الأدب العالمي وفق النظرية البورخيسية

ليلى عبد الله (ناقدة عمانية)

"النقد هو (كولسترول الثقافة) كما تقول الناقدة والمنظرة الأدبية الأمريكية "سوزان سونتاج".

يتبدى هذا المفهوم في نقد الكاتب الأرجنتيني "بورخيس" للأدب الفرنسي مذ بسط سيادته على مقاليد الكتابات الأوروبية والأمريكية. وقد عرض ذلك بإسهاب الباحث الفرنسي "جاك رانسيير" في كتابه "سياسة الأدب" مستعرضا آراء "بورخيس" عن التشويه الذي تعرض له الأدب الأرجنتيني خاصة والأوروبي عامة بسبب الأدب الباريسي؛ فبورخيس ينتقد فكرة خصوصية الأدب الأرجنتيني المتجذر في التقاليد الشعبية وشعر الغوشو؛ فهذا التبجيل من وجهة نظره هو تقليد أوروبي ولا يملك الأدب الأرجنتيني سوى تقاليد الأدب العالمي المتجذر في لغة أهل الريف الأرجنتيني، ويندد من هنا بالأدب الفرنسي في الإساءة إلى التقاليد الأدبية، مستعرضًا سوءات هذا " الداء الفرنسي" وتأثيره على الأدب العالمي عمومًا وعلى توجهاته أيضا، ومضمون هذا النقد مرتكز وفق رؤى بورخيس في كونه يُخفي تحت مسمى الأدب تطويعًا سياسيًّا أكثر من كونه فنيًّا!

ضاربا المثال على الثقافة الأمريكية التي تأثرت بهذا البعد الفرنسي، وهو المعجب بالأدب الأمريكي كما عبر عن ذلك في حوار أجرته معه الكاتبة " سوزان سونتاج" حيث قال بأنه مدين لهم بالكثير، ويعتبر أمريكا إنجلترا الجديدة. وتتزاحم في خاطره مجموعة كبيرة من الأشخاص المرموقين، لذا تزعجه تأثيرات الأدب الفرنسي على شعر " والت ويتمان" الذي عُرف شعره بالإيجاز والتعريض، ولكنَّ تأثير الثقافة الباريسية نسخت منه " ويتمان آخر" وصار يتغنى في شعره بالأشياء اليومية المبتذلة، فيصف مطولاً الطرق السريعة، والموانئ المزدحمة بالعمل ومداخن المصانع والحشود الجديدة التي لا تنتهي، وهذه الازدواجية في شعره ظهرت؛ لأن أمريكا الشمالية صارت تخاطب أمريكا الجنوبية عبر مصفاة أوروبية، وأوروبا نفسها لا تحكي لنفسها إلا من خلال مصفاة خاصة تدعى "باريس"، وهي نفسها تُغرق الفن في الوفرة " الديمقراطية" لأشياء العالم.

وعلى هذا النحو يرى بورخيس بأن فرنسا " تقف كعقبة بين العالم الجديد والعالم نفسه"؛ وهنا يُنصِفُ الأدبَ الانجليزي ولا يقاربه في نقده كما الأدب الفرنسي؛ لأن الأدب المكتوب باللغة الانجليزية مهما بالغ في حشد التفاصيل كرواية "عوليس " على سبيل المثال، أو تعقدت حبكته كروايتي " لورد جيم" و" أبسالون"، إلا أنه يُصنَّف " ضمن التقليد الستيفنسوني الواضح والرائع"، مقابل الأدب الفرنسي المفرط في التفاصيل اليومية المبتذلة كما في كتابات بلزاك وبروست وفلوبير وغيرهم، ليجعل من فرنسا " بلد منشأ كل القطيعات مع التقاليد الأدبية".

وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا يرى بورخيس فرنسا عقبة أمام آداب العالم؟

يضع بورخيس اعتبارات عديدة يبيّن من خلالها حكمه تجاه الأدب الفرنسي، يكمن إحداها في أن فرنسا تهتم بــــ" سياسة الفن" أكثر من اهتمامها بــــ" الفن نفسه" وهذا التشويه نفسه جاء بطريقتين، تكمن الطريقة الأولى في حشد تفاصيل مفرطة في رواياتهم وأشعارهم أيضا، وهذا يتعارض كما يرى بورخيس مع الاصطفاء والإيجاز اللذين يميزّان الفن، وثمة سبب آخر يعتبره " عيّبًا وطنيًّا" وهو " الواقعية"؛ فأدباء فرنسا يضحّون بالحبكة الفنية من أجل دقة التفاصيل حتى تبدو الواقعية سوقية، ضاربًا المثال على كتابات بروست الذي يثقل كاهل القراء بتفاصيل لا طعم لها ولا فائدة، ولا يمكن القبول بها كابتكارات مثلها مثل حكايات بلزاك لاسيما في رحلاته، فهذه الواقعية الفجّة تناقض فكرة البراعة والابتكار في الأدب كما يذهب بورخيس.

ويبدو أن الناقد الفرنسي " إميل زولا" له رأي مغاير ويخالف انتقاد بورخيس في ذم " الواقعية" في الروايات الفرنسية في القرن التاسع عشر، فهو عكس بورخيس يعدّ " الواقعية" في الروايات ميزة في مقابل الآداب القائمة على التخييل، ففي الماضي كان أفضلُ ثناءٍ يناله الكاتب الروائي أن يُوصف بأنه ذو مخيّلة خصبة، غير أنَّ أسس كتابة الرواية تغيّرت مع الزمن، وصارت "الواقعية" وفق زولا هي ما تجعل موهبة الكاتب معتبرة وبارزة، فالكاتب هنا لا يعتمد على استدعاء حكايات خيالية فحسب بل يستقي موضوعاته من الواقع الخام؛ لدرجة أنه يشبّه كتابة الرواية بكتابة " المحضر"، معزّزًا رأيه بروايات بلزاك وستندال وفلوبير.

ولكن على الرغم من ذلك يرى بورخيس بأن الأدب الفرنسي من جهة أخرى رغم عيوب الواقعية والإفراط في التفاصيل وتسييس الفن، فله ما يميّزه في هذا التناقض، وهذا راجع للبحث عن الكلمة النادرة والتطيّر من الأسلوب مما شكّلَ ظاهرةَ " الكمال الأدبي" التي تميّز بها أدب " غوستاف فلوبير"، لاسيما رواية " مدام بوفاري" حيث يقول "إميل زولا" في مقدمة مقالته عن هذا العمل الخالد: "شكلت رواية مدام بوفاري لدى ظهورها علامة على تطور أدبي كامل، لقد اكتملت صياغة قانون الفن الروائي الجديد، فرواية مدام بوفاري تتمتع بالدقة والكمال اللذين جعلا منهما أنموذجًا للرواية".

رغم ذلك لم يسْلَم فلوبير ولا بروست من نقد بورخيس بشكل أوسع حول أسلوب كتابتهما، فهو يتفق مع رأي بعض نقاد القرن التاسع عشر حين عابوا عليهما الإفراط في التفاصيل مما يسبب إرهاقًا للذات، لدرجة ذكر المشرط والطست في مقطع فصد دم سائس رودولف الذي يعتبر حشوًا في رواية مدام بوفاري أو رزمة الحلويات في كنيسة كومبرى في رواية من ناحية منزل سوان، هذه الوفرة وهذا الهوس لوصف كل شيء يحوّلان الكتب على حد تعبير بورخيس إلى "غابة كثيفة ينقصها ما يلزم للمتعة الأدبية".

ويبدو أنَّ كتّاب نافحوا عن "سوء الفهم الأدبي" الذي تعرضوا له من قبل نقاد القرن التاسع عشر حول أساليبهم الكتابية في حشد التفاصيل، مصرحين بأن غايتهم تمثلت في تقديم "نموذج مثالي للأدب".

وأقول: إنَّ العمل بوصفه حيوانًا جميلاً متّسق الأعضاء على حد تعبير "أفلاطون"، يتطلب شرطين هما وفق رأي بورخيس، اختيار المادة التخييلية التي تنتقي من وفرة الحياة الحبكات الصالحة الحسنة البناء وفق مخطط منطقي ومدهش، والثاني اختيار التعبير القادر على جودة القص وإيصال المشاعر مقابل البحث عن الكلمة النادرة.

غير أن نقد بورخيس للأدب الفرنسي مقابل دفاعه المستميت عن أدب موطنه الأرجنتيني يتبلّور أكثر حين يوضح كيف أن حبكات الأدب الفرنسي غير مرضية كما في حالة بلزاك، وغير مبتكرة كما في حالة بروست، مقابل الحبكة المتكاملة والابتكار الذي يجده القارئ في رواية "ابتكار موريل" للكاتب الأرجنتيني "أدولفو بيوى كازاريس". فتظهر هنا أصالة الأدب الأرجنتيني مقابل التشويه الذي فرضته الروايات الباريسية على تقاليد الكتابة الأوروبية طوال سنوات.

لكنَّ النقاد المعاصرين كانوا أيضا يربطون مبالغات الأدب الفرنسي في وصف الواقع الخام للمجتمع بمخالفتها للتراتبية، بمعنى أنَّ روايات فلوبير تلقت هجومًا صارخًا بل وصلت لسدة التحقيقات في محاكم باريس؛ بسبب اختراعه لشخصية مثيرة للجدل المجتمعي كـــ" إيما بوفاري" التي كانت نهايتها مأساوية في الرواية مراعاة للضغط المجتمعي؛ نتيجة غلوّها في التخييل بين الأدب الذي كانت تطالعه كفتاة من خلفية قروية والحياة البرجوازية التي كانت تطمع أن تعيشها!

وبهذا الشأن تحدث "سارتر" عن أنَّ كتّاب القرن التاسع عشر كانوا أمام خيارين، إما الامتثال للأيديولوجيا البرجوازية أو نبذها وتحويل أنفسهم إلى جماعة من المنبوذين بلا أي تأثير سياسي، لذلك انحاز كلٌّ من فلوبير و مالارميه إلى " الأدب النخبوي"؛ وبذلك صار كتّاب أواخر القرن الثامن عشر آخرَ من حظوا بدورٍ حقيقي ومؤثر حين قدموا رؤية تقدمية للجمهور ورؤية طبقتهم الخاصة في آن.

بينما يرى المنظر والناقد الفرنسي "رولان بارت" الذي عُرف بتجلياته الثاقبة غير المبجِّلة للثقافة الفرنسية، بأن كتاب فرنسا منذ القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر عمدوا إلى توظيف كتابة كلاسيكية منفردة، تميّزت في المقام الأول بالثقة في الوظيفة التمثيلية للغة مستشهدًا بمضامين بعض الروايات؛ ليثبت بارت من خلالها الاختلافات الواسعة على صعيد الفكر والأسلوب داخل الكتابة الكلاسيكية لاسيما بين "بلزاك" و" فلوبير" المتعارضين تقريبا، فثمة تمايز جوهري بين كتابتهما، فبعد عام 1848م أضحت السمة الانتهازية للأيديولوجيا البرجوازية بادية للعيان، بينما الكتاب في السابق كانوا يتحرون الشمولية، فالكتابة صارت مرادفا لخوض صراع واع بذاته ضد الأدب.

لكن بورخيس لا ينتقد الطبقية هنا ولا التراتيبية بقدر ما تعنيه "قوة الحكاية" التي تكون وفق بورخيس "نتيجة إرادة واعية تنتقي الموضوع الذي يتيح للأثر أن يبلغ حده الأقصى"، وذلك على نقيض ما سعى له أدباء فرنسا من إطالة في التفاصيل المعيشة اليومية، ممثلا برواية ابتكار موريل الذي يسخر بدوره من نفسانية بروست وبلزاك، ورغم ذلك يدافع بورخيس عن فلوبير بفلوبير نفسه، ففي فلوبير وقدره النموذجي "يظهر فلوبير كمبتكر الشكل الجديد للكاتب القس والشهيد والممثل المرموق لـــ" تطيّر اللغة" الذي يطابق بين التعبير الدقيق والتعبير الموسيقي". ربما فلوبير بشهادة الناقد إميل زولا يمثل الكمال الأدبي، لكن بورخيس يعود ليؤكد بأن العلاقة ما بين الحداثة والملحمة في الرواية الفرنسية تكاد تكون تقليدية وغير مبتكرة؛ وذلك لأن الشعر على نقيض النثر، كان أكثر حداثة وابتكارًا في الشأن الملحمي، بينما النثر ما يزال في سن الطفولة. فالرواية إذن تنتظر هوميروسها، أي هوميروس جديدا.

فالنثر تكمن قوته في الأسلوب، في التوافق ما بين هذا الأسلوب والفكر لا في الإفراط في حشد تفاصيل مبتذلة، وهذا ما لم يعمل عليه فلوبير حتى نهاية كتاباته؛ وذلك لأن الأسلوب عند فلوبير "ليس طريقة في الكتابة وإنما هو طريقة في الرؤية، طريقة مطلقة في رؤية الأشياء"؛ لذا فإنَّ "الداء الفرنسي" كما يؤكد بورخيس يعود لضعف الأسلوب والحبكة غير المبتكرة على حساب الإفراط في التفاصيل، واتكائها على الواقع الخام في وصف الواقع، بينما الأدب الأصيل هو الذي يسعى إلى الابتكار لا عن طريق رواية أحداث واقعية بل تتداعى التفاصيل أثناء التخييل كما يفعل معظم أدباء الأرجنتين، ما يخلق صلة إبداعية بين الأدب والحياة.

وفي الختام يمكن القول بأن أدباء فرنسا ظلوا ردحًا من الزمن يحاذرون ويراعون طبيعة الحياة البرجوازية خلال انتقائهم لشخصيات من الواقع، دون تغذيتهم بأي طموح شخصي، كي لا يتعرضوا للمحاكمات والتنديد المجتمعي كما سبق وحصل مع " فلوبير" الذي تجاوز الأمر بحزم وشجاعة، إلا أن بورخيس نبذ هذه القيود والتقاليد الأدبية الصارمة، متسائلاً في النهاية عن مغزى الأدب عمومًا وصلته بالحياة: "ما الأدب إن لم يكن إلا تلك القدرة العريقة على نسخ حكاية العالم وتقاسم تلك القدرة مع البشرية كلها؟".


    المصادر التي اعتمدت عليها المقالة:
  • 1- سياسة الأدب، جاك رانسيير، ترجمة د. رضوان ظاظا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2007م.
  • 2- في الرواية ومسائل أخرى، مقالات نقدية، إميل زولا، ترجمة حسين عجّة، مشروع كلمة، ط1، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، 2015م.
  • 3- رولان بارت " مقدمة قصيرة جدا"، جوناثان كولر، ترجمة سامح سمير فرج، مؤسسة هنداوي لتعليم والثقافة، ط1، القاهرة، 2016م.