عن الجمالي والإنساني في الفن والأدب

د. عبدالله العقيبي

يظن بعض المهتمين بالفنون أن سبب الانحياز للفن، سواء الشعر أم الرواية أم السينما، أم غيرها من الفنون، هو انحياز للإنساني والأخلاقي في طِباع مُنتجِها، لكنَّ الواقع قد يُشكك في هذا الظن، فكثير من صانعي التحف الفنية الخالدة لم يكونوا إنسانيين ولا مدافعين عن القيم الإنسانية العليا، وإذا أردنا المبالغة؛ فيمكننا القول إنهم لم يكونوا أخلاقيين حتى، فخلود أسمائهم في مجال الفن إنما يُعزى إلى ذكائهم واهتمامهم العظيم بالبعد الجمالي في أعمالهم الفنية، لا بسبب واقع حياتهم القِيمي والأخلاقي، ولا بسبب تصوراتهم الشخصية المعلنة أو غير المعلنة عن الخير والمحبة والعدالة، وهذا الرأي عن تصوراتهم تلك قد نستدل عليه بسهولة من خلال سيرهم الذاتية، ومواقفهم تجاه القضايا الإنسانية الكبرى.

وقد لا ننتبه إلى هذا التفصيل بالنسبة لفنانين من أزمنة سابقة، لأن البُعد الزمني عنهم يُبقي الجزء الجمالي في نصوصهم ومنتجاتهم الفنية فقط، وقد لا نجد من يتتبع حياتهم بالدراسة والتقصي، والقلة التي ستفعل ذلك، ستشعر بحقيقة الجزء الأخلاقي المرتبك أو المُختلَف عليه في واقع حياتهم الفعلية، لكن انتباهنا قد يخدمنا في موضوع الفنانين المعاصرين، الذين نراهم أمام أعيننا، عبر الإعلام، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة

هذه المفاجأة، وهذا الغضب العارم جراء سماع أو قراءة أو رؤية الفنان، يقول أو يصرح أو يكتب ما يتناقض مع صورته الإنسانية المحببة لدى الناس، والتي أشاعها منتجه الجمالي عنه؛ سببها جمالي بحت، وليس -بالضرورة- إنسانيًا ولا أخلاقيًا في طبعه، لكنَّ الطابع البشري في العموم، قد لا يفرق في إعجابه بين منتَج فني جمالي، وبين خطاب إنساني وأخلاقي لدى المُنتِج، هذا إذا ما انتبهنا قبل كل شيء إلى أن المبدأ الإنساني والأخلاقي نفسه قد يُستثمر من أجل البعد الجمالي في الفن، وفضلًا عن كونه نسبي، يمكننا أن نلاحظ اختلافه من حيث الجهة التي يقف أو يتموضع فيها الفنان.

هناك خلط آخر قد يوهِم المتلقي بإنسانية الفنان، وهو الخلط بين الجانب الإنساني والصدق الفني، فنحن قد نحب عملًا فنيًا ونشعر بالانتماء الإنساني لصانعه، ليس لأن مُنتِج العمل لديه منطلق أخلاقي، بل لأن مستوى صدقه الفني بالغ الروعة، وأنا بشكل شخصي واقع حتى الثمالة في مغبة موضوع الصدق الفني هذا؛ لأن الفنان المخلص لذاته ولمكوناته الثقافية -باختصار شديد- يحترم وجوده، فلا وزن لمن يخون نفسه مقابل أي قيمة أخرى، حتى لو كان إخلاصه هذا مقدم على نظرته الفكرية تجاه مفهوم الحق الإنساني العام، الذي ينشأ بالضرورة من خلال زاوية رؤيتنا للخير والشر، لا رؤية الفنان نفسه، ثم إن الفنان الحقيقي يقدم منتجه الفني للعالم في صيرورته التاريخية وليس للواقع، ورؤية الفنان الذاتية للتاريخ مرتبطة بتكوينه الجمالي، أما رؤيته للواقع -في حال انفصالها عن رؤيته للعالم وللتاريخ- فلا تضيف له -منفردة- إلا التشويش.

قال بورخيس في كتابه (هوامش سيرة) إنه كان في بداية حياته يشعر بالعار بسبب ولعه بالكتب، وسبب عاره هذا مفهومه الشخصي للرجولة، التي تحتم على المرء أن يكون صاحب أفعال لا أقوال، والكتابة ليس فيها إلا الأقوال والأكاذيب، لقد احتاج بورخيس أن يبلغ سن الثلاثين حتى يتغلب على هذا الشعور العارم بالعار بحسب تعبيره. ولو نظرنا إلى الأمر من زاوية ما الذي يفعله المقاتلون؟ مقابل ما الذي يقوله الكتَّاب؟ سنعرف إلى أي مدى قد تتحكم ظروف ونشأة الفنان في تصوراته عن الحياة والعالم، والحمد لله أن بورخيس انحاز للجمال الأدبي، فلو لم تتغير نظرته لمفهوم الرجولة، لرأينا السكاكين والمسدسات والهراوات في يده لا في يد شخصيات قصصه.

قرأت قبل أكثر من عشر سنوات مقالًا أحسبه لإبراهيم العريس، عن فيلم (باب الحديد) ليوسف شاهين، تحدث فيه عن الأهمية والقيمة الفنية لدور (قيناوي) الذي لعبه يوسف شاهين بنفسه، وأن يوسف شاهين كان لديه ميول شخصي تجاه أفعال الشخصية الفيلمية (شخصية قناوي) المتطرفة، وقد أفرغها بشكل إيجابي في هذا الدور، وهذا الرأي على ما فيه من تكهن، إلا أنه يوضح إلى أي بعد يمكن أن يكون الفنان مأزومًا ومشوهًا من الداخل، رغم ذكائه وتماسكه من الناحية الفنية، التي كانت بلا شك السبب الرئيس في خلود يوسف شاهين في تاريخ السينما العربية، كأحد أعظم صانعيها.

روي عن أحمد بن أبي طاهر أبي الفضل الكاتب، قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعرًا، وبين يديه شعر أبي نواس ومسلم بن الوليد، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله منذ ثلاثين سنة. ولو دققنا في هذا القول الذي روي عن أبي تمام، وقارناه بقول (راينر ماريا ريلكة) شاعر ألمانيا الفذ، في كتابه (رسائل إلى شاعر شاب): اسأل نفسك في أكثر ساعات الليل سكونًا، هل عليَّ أن أكتب؟ نقِّب في نفسك عن إجابة عميقة. وإذا كان الرد بالإيجاب، إذا كان ردك على هذا السؤال الجاد هو قولك بقوة وببساطة: "عليَّ أن أكتب" فعليك أن تبني حياتك تبعًا لتلك الضرورة، يجب أن تصبح حياتك تعبيرًا عن هذه الضرورة الملحة وشاهدًا عليها – سنجد أن الفكرتين تنطلقان من مبدأ واحد، هو مبدأ التضحية بالنفس من أجل الفن، وهذا يحتم علينا الانتباه إلى إعلاء القيمة الفنية لدى كل من الشاعرين، وهو اتفاق قد يبدو غريبًا، أو متطرفًا، لكن الحقيقة أنه اتفاق طبيعي إذا ما نظرنا إلى ما يعنيه البعد الجمالي لدى الفنان، الذي يهب نفسه دائمًا للفن والجمال.

ولعلنا نعيد النظر مرة أخرى في هذه النصائح المخيفة تجاه علاقة الفنان بالفن، وفي أن يقول الفنان وبكل صراحة، وفي حالة تنازل عجيبة عن المجاز، أن على الفنان أن يقدم نفسه وحياته وإنسانيته قربانا للفن، وثمنًا لكتابة اسمه في صفحات التاريخ الفني، والتاريخ نفسه يثبت صحة وفعالية تلك النصيحة الموجعة في ظاهرها، إلا إذا استثنينا حالات قليلة جدًا نجى فيها الفنان من بيع ذاته للفن، مثل (آرثر رامبو) الذي باع نفسه للإنسانية وللحياة نفسها، بعد أن اعتنق المبدأ الفني في بداية حياته القصيرة، مرّغ خلالها الفن والشعر في التراب بحسب رأي بعض النقاد، في المقابل لم يستطع تاريخ الشعر أن يرميه خارجه رغم تمرده على القاعدة، وابتعاده عن الشعر تمامًا، وتمسكه بالحياة نفسها، هذا التمسك بالحياة الذي ظهر من خلال رسائله لأمه ولأخته بعد أن ترك الفن وارتحل إلى المشرق، لكن هذا -مع الأسف- أمر شاذ لا يُعول عليه.

خلاف ذلك يمكننا أن نلاحظ أن الفنان في الغالب يكون عبدًا للفن لا للإنسانية، وللجمال لا للخير، ورغم ذلك؛ فعلينا ألَّا نعجب من قدرة الفنان على وصف الجمال، والتعبير عنه بأبهى صورة، فالفنان سيكون قد دفع حياته ثمنًا لذلك، والتاريخ (الطيب واللطيف) لن يذكّرنا إلا بنصه الجميل.

في المناظرة الأمريكية الزنجية الشهيرة، بين آلان لوك ووليام دو بويز، عميديْ عصر نهضة هارلم، واللذين قال عنهما مارتن لوثر كينج "سنعلِّم أطفالنا أن الفلاسفة لم يكونوا أفلاطون وأرسطو فقط، بل آلان لوك ودو بويز أيضًا"، المناظرة التي ارتكزت على عدم اتفاقهما في تفسير الجمال في الأدب، ففي حين ذهب أحدهما إلى أنَّ قيمة الجمال الأدبي تعود إلى الجمال في ذاته، بغض النظر عن خدمته لقضايا السود في أمريكا، أكّدَ الآخرُ على أهمية الدور الدعائي للجمال في سبيل مقاومة استبداد الإنسان الأبيض، فالأول ذهب في اتجاه الحقيقة الجمالية المجردة، والثاني رأى أن الحقيقة قد دفعت بنفسها إلى الأبد باعتبارها أكبر خادم للخيال، الذي يُعدُّ أهم عناصر الجمال، وبالنظر إلى هذا الخلاف الجوهري في تفسير الجمال يمكننا أن نتنبه إلى أي درجة يمكن للجمالي أن يكون نسبيًا، فلولا هذه النسبية لكان موضوع مقاومة الإنسان الأبيض هو الأولى بديهيًا، ولعُدَّ الآخر، الذي ينتصر للجمال المجرد خائنًا، لكن الأمر خلاف ذلك تمامًا.

أخيرًا، لا تحاول السطور السابقة أن تقدم المبررات للبشاعة، ولا تسوق للاإنسانية، ولا تتجاهل قيمة الجمال في تهذيب الذوق والأخلاق، لكنها -وبكل أمانة- تحاول أن توضح مستوى الخلط الذي قد يقع فيه البعض، من استنكار الفعل اللاأخلاقي من الفنان الذي يُتوقع منه الانتصار للإنساني، كما أنها تحاول وضع الفنان في اطاره البشري، الذي ينفي عنه هالة القداسة، التي لم يحققها له -في الغالب- إلا البعد الجمالي داخل متنه الفني.