كريم بركات
فيلم للمخرج الكبير أليخاندرو إيناريتو عن "رحلة البحث عن الذات التي لا تنتهي أبداً"
كم مرة نظرت في المرآة فشعرت أن الشخص الذي تراه يشبهك لكنه ليس أنت؟ يقول كونديرا فيما معناه أنك لو نظرت في المرآة للمرة الأولى في الأربعين فستفاجأ. ويقول هيرمان هسه إن حياة كل إنسان عبارة عن طريق نحو نفسه، محاولة على طريق كهذا، تلميح نحو الممر، لم يسبق لإنسان أن كان نفسه تماماً وبشكل كامل. لكن كل إنسان يحاول ذلك بطريقته الخرقاء أو البارعة.
إن سؤال الهوية هو آدم الأسئلة ومن ذريته أتت جميع الأسئلة الأخرى ولقد كان فاحش الخصوبة. إنه السؤال الذي لا ينفك الإنسان يعاقره عند كل مفترق.
وكغيره من المفكرين والأدباء والفنانين يحاول إيناريتو هنا في فيلمه الأفضل والأهم من وجهة نظري أن يجيب عن ذلك السؤال المتسلط اللحوح كزوجة مثالية: من أنا؟ وتالله لقد كانت إجابته رائعة ومروعة.
من خلال كادرات كأنها لوحات فنية وموسيقى رائعة وحساسة ومعبرة ومونتاج ساحر حد الإرباك، يخاطب إيناريتو وجدان المشاهد بلغة متقنة وبديعة لا يمكن لأي فن أحدثه الإنسان أن يتحدثها سوى الفن السابع (السينما) فيملك عليه نفسه منذ المشهد الأول.
يصور الفيلم رحلة مخرج الأفلام الوثائقية المكسيكي سيلفريو جاما للبحث عن ذاته التي لم يكتشف أنه أضاعها إلا بعد أن فاز بجائزة من مؤسسة أمريكية للصحافة كأول مكسيكي يفوز بالجائزة. وهو الذي هاجر إلى أمريكا أرض الأحلام قبل ثلاثين سنة من الفوز بالجائزة، كان خلالها ينتقد من خلال أفلامه سياستها الإمبريالية الرأسمالية التي تستغل الشعوب الفقيرة، وفي نفس الوقت يستمتع بكل المميزات التي كفلتها تلك السياسات لشعبها. ثم أتت الجائزة فأربكته وأعادته إلى سؤاله القديم.. من أنا؟
يسير السرد في خطوط زمنية متعرجة يركز فيها على ثلاثة منعطفات خطيرة في حياة سيلفريو هي: رحلته للهجرة، ورحلته للعودة إلى المكسيك للتكريم بعد إعلان الفوز بالجائزة، ثم عودته مرة أخرى لأمريكا لتسلم الجائزة رسمياً. وهو يحكي ذلك من خلال ثلاثة مستويات رئيسة من الواقع، أعلاها هو واقع سيلفريو في حالة اليقظة، وفي الوسط واقع أحلامه ولا وعيه، وأدناها وأعمقها واقع الفيلم الذي سيعرضه في حفل تسلم الجائزة ويصور من خلاله سيرته الذاتية.
يتسلل إيناريتو بالمشاهد عبر حدود المستويات الثلاثة بانسيابية ساحرة كعازف بيانو ماهر يتلاعب بالسلم الموسيقي التقليدي فيحوله إلى مصعد كهربائي، فلا يكاد المشاهد يتبين في أي مستوى من المستويات الثلاثة تجري هذه الأحداث أو تلك.
تلك الحالة من الغموض والإبهام الذي لا يخلو من إشارات خفية تورط المشاهد عن عمد في نفس مشاعر الحيرة والارتباك التي يتقلب على جمرها عقل سيلفريو وتكاد تفتك به. وهي المشاعر التي بلغت ذروتها حين تلقى جائزته من البلاد التي يكرهها ولا يستطيع الاستغناء عنها، وحين عاد إلى بلاد أجداده التي يعشقها ويعجز عن العيش فيها.
هل تتذكر فيلم (سفن) للمخرج العظيم ديفيد فينشر وكيف كان القاتل المتسلسل يترك للضابط قطعة من الأحجية مع كل ضحية حتى يصل في النهاية إلى حل البازل ويسلم نفسه للضابط لينتقم منه ويحقق بذلك نبوءته؟
إن قاتلنا هنا يلاعب المشاهد بنفس الأسلوب فيضع لك في كل مشهد قطعة من الأحجية وهكذا حتى يسلمك نفسه في الجزء الأخير من الفيلم. لذا عليك أن تشاهد بعين الضابط النابه من البداية وتستعد في النهاية لتلقي النبوءة بقلب شجاع.
ولأننا بإزاء مستويات مختلفة من الواقع، فإن الزمان والمكان مائعان حين يتحرك سيلفريو خلالهما بلا تقيد بقوانين الفيزياء. عليك هنا ألا تتعامل مع الأمر على أنه فانتازيا. فهذا الواقع السيريالي بالنسبة لذهن سيلفريو هو واقع حقيقي جداً يتجول في أنحائه ليعيد التعرف على نفسه في الحالة ثلاثية الأبعاد وأنت قد تورطت معه في تلك الحالة الذهنية منذ البداية. عليك أن تملك الجرأة للمضي لأن في النهاية سيعرّفك أنت أيضاً إلى نفسك كما لم تعرفها من قبل.