طامي السميري
"حين مرّت قربنا، فاح منها عبقٌ لا سبيل إلى تفسيره، عبق كالذي يخرج من رسائل حبيبة". هذه العبارة الجميلة من رواية "بطل من هذا الزمان" للأديب الروسي "ميخائيل ليرمنتوف" جعلتني أتساءل: في ظل الرسائل الإلكترونية هل مازال هذا العبق موجودا؟ عادت بي الذاكرة لتك الرسائل التي كان فيها حضور للخط والحبر والورق والرائحة وكل تلك العناصر التي تشكل ذوق وشخصية مرسل الرسالة. كان هناك طابع شخصي يميز الرسالة وكانت هناك عناية في كتابتها. هذه التفاصيل غابت، وغابت معها أشياء أخرى مهمة مثل الانتظار وطقوس استلام الرسالة وغيرها مما تلاشى في هذا الزمن الرقمي، الذي تساوت فيه ملامح الرسائل وغابت التفاصيل الذاتية ولم يعد للطابع الشخصي وجود. الشيء الذي ما زال حاضرا ربما، والذي يمنح الرسالة طابع الذاتية هو أسلوب المُرسل، إذ قد يتبدّى الطابع الشخصي للمرسل في طريقة تفكيره أو مدى قدرته على استخدام اللغة وأيضا على عمق ثقافته، وأعتقد بأننا كلما تقدمنا تقنيا ورقميا سوف نفقد الحميميات التي كانت في الزمن القديم وهذا أمرٌ بديهيّ. لكن السؤال المهم هنا: هل يستطيع هذا الزمن أن يصنع حميمياته التي تلائم اللحظة أم أن مفهوم الحميمية نفسه، الذي كان يكمن في التفاصيل، سوف تصبح له معانٍ أخرى وملامح تعكس معطيات تفكير الأجيال الحالية؟ ومن أجل الوفاء لعبق الرسائل الورقية، الذي تلاشى في واقعنا أو في طريقه للتلاشي، ارتحلتُ الى عالم السينما، ولا أدري ما إذا كنت مدفوعاً بالحنين أم برغبة في التأمل والاستقراء، وبحثت في الأفلام عن مشاهد استحضرت "الرسائل" وهي مشاهد لا حصر لها؛ متنوعة، مختلفة، ومغايرة، لكنها قدمت وثيقة سينمائية، ففي تلك الأفلام سنجد الشاهد الزمني على التفاصيل الاجتماعية والحياتية لحضور الرسائل وكيف تجلّى دور الرسالة في التواصل الإنساني بأبعاده المختلفة.
لا نستطيع أن نقول إن كتّاب السيناريو ومخرجي السينما استثمروا الرسائل في مشاهدهم لأن الرسائل كانت جزءاً أساسيّاً من طابع الحياة في ذلك الوقت. لكن الذي نستطيع رصده وتأمّله هو التمايز بين المخرجين في تقديم تلك الرسائل بصريا وبأي تكنيك سينمائي قُدّمت تلك المشاهد. فلو تأملنا مشاهد قراءة الرسائل فإننا سنجد عشرات من المشاهد المختلفة. فأحيانا نجد الرسالة بصوت المرسل وأحيانا يقرأها الشخص المرسل اليه، وتلعب التأثيرات الصوتية في هذا الجانب دورا في مشهد قراءة الرسالة، وأحيانا يكون تركيز المخرجين على مشهد كتابة الرسالة، وفيه قد تتجلى ملامح الخط والورقة. وفي بعض المشاهد نجد المخرج يستعرض أماكن ووجوه يأتي ذكرها في الرسالة مثل ذلك المشهد في الفيلم الفرنسي” César and Rosalie“، حيث كان فيه بطل الفيلم يقرأ الرسالة في القطار والشارع وفي المطعم وكان صوت البطلة يواصل القراءة. وفي ظل هذا التنوع لحضور الرسائل في الأفلام سأحاول استعادة وتأمّل بعض المشاهد السينمائية التي كانت فيها الرسالة جزءا أساسيا من المشهد.
في الأفلام السينمائية يلعب الزمن وبيئة المكان دورا في شكل حضور الرسالة وتوظيفها في مجريات أحداث الفيلم، وتظهر ثيمة الجهل بالقراءة والكتابة بوصفها أحد أهم الثيمات التي استثمرها المخرجون السينمائيون في تقديم مشاهد الرسائل. ولهذا نجد أن شخصية كاتب الرسائل تحضر بأشكال مختلفة؛ فمثلا نجد كاتب الرسائل الذي يعمل موظفا في إحدى الشركات، ويتلخص عمله في كتابة الرسائل العاطفية وهذا ما يصوره فيلم ”Her“ -2013، حيث يعمل بطل الفيلم ثيودور كاتبا للرسائل، لكن هذه الوظيفة ليست قائمة على جهل أصحاب الرسائل بالقراءة والكتابة بل لأنهم يرغبون في من يستطيع أن يعبر عن مشاعرهم وأحاسيسهم، غير مهتمين بالجاهزية التي تكتب بها تلك الرسائل، لذا نجد أن مخرج الفيلم يسلط الضوء على" ثيودور" أثناء كتابة الرسائل؛ فنتعرف على شيء من أسلوبه في كتابة الرسائل، التي يكتبها على جهاز كومبيوتر قبل أن يقوم بطباعتها ورقيا، وهذه الوظيفة كان لها أثرها السلبي على " ثيودور" فقد تعطلت موهبته التي كان من شأنها أن تجعله كاتباً مبدعاً لولا انغماسه في تلك الرسائل التي يتماهى مع مضامينها بحسب ظروف ومواقف أصحابها، لذا نجده يقول " في بعض الأحيان أكتب رسالة، فأغدو بعدها كاتبي المفضل".
وتقدم السينما أيضا نموذجاً آخر لكاتب الرسائل وهو "فلورينتيو" في" Love in the Time of Cholera“-2007، وهو فيلم مأخوذ عن رواية الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز التي تحمل العنوان نفسه. حيث عمل فلورينتيو فترة من حياته كاتبا للرسائل لكنه عندما يكتب للزبائن فإنه كان يعبر عن مشاعره العاطفية الشخصية بشكل شخصي كعاشق "لفيرمينا" ولهذا كان يبرع في إظهار الرومانسية في تلك الرسائل التي ترضي أصحابها وهو يكتبها لمعشوقته "فيرمينا". لكن هذه البراعة في كتابة الرسالة العاطفية لم تكن مناسبة حين أصبح موظفاً في شركة الملاحة إذ لم يستطع أن يتخلى عن لغته العاطفية في كتابة المعاملات التجارية، مما جعل رئيسه في العمل يوبخه على طريقته في كتابة المعاملات التجارية. ويعتبر فيلم " Love in the Time of Cholera" من أكثر الأفلام التي قدمت مشاهد الرسائل في حالات مختلفة لأبطال الفيلم. أيضا في الفيلم البرازيلي” Central Station“-1998، تحضر شخصية كاتبة الرسائل وهي الشخصية المحورية في الفيلم، فهي مدرسة سابقة وكاتبة خطابات لمن لا يجيدون القراءة والكتابة، لكنها لم تكن نزيهة في عملها، فهي لا تكتب الرسائل فقط ولكنها تملي على المرسلين شروطها. إنها تستغل جهلهم وحاجتهم لأن تكتب عنهم وتعبر عن عواطفهم ومشاعرهم، وهي لا تكتفي بالتدخل في محتوى كتابة الرسالة بل يصل بها الأمر إلى التدخل في علاقات أصحاب تلك الرسائل، فهي من تقرر إن كانت الرسالة تستحق أن ترسل أم لا.
وإذا ما تجاوزنا كاتب الرسائل فإننا في المقابل سوف نستحضر قارئ الرسائل. وهذا ما سنجده في فيلم ”الطوق والإسورة“- 1986، حيث تدور الأحداث في قرية فقيرة لأسرة تنتظر ابنها الغائب الذي ذهب للعمل؛ ولذا نجد المخرج خيري بشارة يتجلى في تقديم مشهد قراءة الرسالة في تلك الاحتفالية العائلية وهي تستمع للرجل العجوز أمام المسجد وهو يقرأ رسالة مصطفى بأسلوب بسيط " وانا شايلكم في قلبي زي الحجاب وربنا اللي قادر على قتل الغياب ولم شمل الاحباب"، ذلك الأسلوب الذي يعبر عن زمن كتابة الرسالة 14-11-1933 حسب ما ورد في نص الرسالة، زمن من النادر فيه أن تجد من يعرف القراءة. لكن المفارقة عندما نكتشف في آخر الرسالة أن الكاتب ليس هو الابن مصطفى وإنما استعان بزميله "الصافي محمدين" في كتابتها، ونفهم من ذلك عدم وجود أي نوع من الخصوصية في تلك الرسائل، فالمرسل استعان بكاتب يكتب رسالته، وقارئو الرسالة استعانوا بشخص آخر ليقرأها. وحالة الجهل بالقراءة امتدت إلى” فيلم عرق البلح“-1999، حيث تدور الأحداث أيضا في قرية من قرى الصعيد ولكن الفارق أن الغائب في فيلم الطوق والأسورة هو رجل واحد أما في فيلم عرق البلح فجميع الرجال رحلوا ماعدا المراهق أحمد الذي أصبح فيما بعد يلعب دور البوسطجي، فهو من يحضر الرسائل التي يرسلها الرجال الغائبون وهو من يقرأها وهو من يكتبها، لذا كانت أسرار القرية مكشوفة لديه، فقد أخفى وفاة عمه ولم يخبر زوجته بما حدث تقديرا وخوفا على أن تحزن وتتألم. وفي نسخة السيناريو المطبوعة من الفيلم لكاتب السيناريو رضوان الكاشف -وهو مخرج الفيلم أيضاً -سنجد الوصف التفصيلي المكتوب لمشهد أحمد وهو يسلم الرسائل لنساء القرية والذي تحول الى مشهدٍ سينمائي رائع (النسوة مجتمعة، أحمد ينادي على الأسماء المكتوبة على أظرف الخطابات ويناول كل امرأة الخطاب الذي يخصها. النسوة تقبّل الخطابات وتتفحصها دون ان تفتحها. بعد أن ينتهي من توزيع الخطابات ينظر إليهن. أحمد: اسمعوا كل واحدة منكم جالها جواب هنعدي نقراه ليها في الليل). لكن قد يحضر قارئ الرسالة في مشهد كوميدي، ومن أطرف تلك المشاهد ما حدث في فيلم” Love & Friendship “- 2016، وفيه يحاول "تشارلز فيرنون" أن يلخص ويختزل الرسالة لزوجته "كاثرين فيرنون"، لكنها ترفض أسلوبه مطالبة بحزم بأن يقرأ الرسالة بتفاصيلها لأنها ستجد صوت المرسلة "سوزان" في كلمات الرسالة. وعندما يستجيب لها السيد "تشارلز فيرنون" ويقرأ الرسالة بعلامات الترقيم، تغضب منه السيدة "كاثرين فيرنون" وتطلب أن يقرأ الكلمات فقط.
أمّا في فيلم” The Shawshank Redemption“- 1994، فقد جاء الحديث عن رسالة لم تكتب بعد، فعندما كان السجين "آندي" يخطط للهرب من السجن أخبر صديقه "ريد" أين سيجد الرسالة، التي سيكتبها عندما ينجح في الهرب، والتي سترشده إلى المكان الذي سوف يستقر به لاحقا "ستجد به شجرة بلوط ضخمة، كأنها خرجت من قصائد روبرت فروست"، والمفارقة في هذه العبارة أن يستشهد بقصائد الشاعر الأمريكي روبرت فروست وهذا الاستشهاد مبرر لسجين مثل آندي الذي كان مثقفا يقرأ في مكتبة السجن ويستمع لموسيقى موزارت. ولأن مشهد قراءة الرسالة يعتبر مشهدا رئيسيا لسجين مثل "ريد“، الذي أدمن حياة السجن وخرج لأنه أكمل فترة العقوبة، فسنلاحظ أن المخرج استغرق في ذلك المشهد ما يقارب دقيقتين – ركز فيها على ملامح مورغان فريمان الذي اعتاد الحياة داخل السجن وكان يتحاشى الحرية خارج الأسوار وكيف بحث عن شجرة البلوط وكيف أخرج الرسالة ثم كيف كان يقرأ الرسالة بمهابة وبفرح. ومن أبرز ما جاء في تلك الرسالة العبارة الشهيرة "الأمل شيء جيد، ربما يكون أفضل الأشياء"، وهذا الأمل هو الذي قاد آندي للهرب من السجن بعد أن خطط له ما يقارب العشرين عاما.
في حالة أخرى قد تُكتب الرسالة، ولكن يؤجل إرسالها وذلك بسبب رغبة كاتب الرسالة في أن تُقرأ في حضرة المرسل إليه، كما حدث في فيلم ”A Fortunate Man“- 2018، فالبطلة التي كانت تلعب دوراً مزدوجا مع ”بيير"، ذلك المهندس الموهوب والعبقري في مجال عمله، لكن في المقابل هو شخص متأزم، كانت تهدئه نفسيا وتؤنِسه عاطفيا- ففي ذلك المشهد قالت له "لدي اعتراف لك، أرجوك لا تنزعج، ذهبت الى غرفتك في كوبنهاغن قبل أن أغادر، اشتقت إليك كثيرا كنت بحاجة إلى شيء يخصك بالقرب مني، وكتبت لك رسالة لكنني لم أرسلها قط أحضرتها معي"، وعندما فتحت الرسالة وشرعت في القراءة فهمنا لماذا اختارت أن تقرأها أمامه مباشرة، ففي جزء من الرسالة تقول: "عزيزي بيير، قد أبكي فرحا لما أشعر به من خزي، لأني قلقت وشككت بك، لم أفهم حقيقة شخصيتك حتى الآن، ما كوّن شخصيتك وما يجعلك هذا الشخص، يكمن في نبلك في التناقض الذي نما بداخلك من ضغط ضيق الأفق والمعتقدات الخرافية، وهذا يفسر ضعفك وقوتك الهائلة العنيدة". وفي مشهد مختلف قد تُقرأ الرسالة بعد رحيل كاتبها، وهذا ما يحدث في رسائل الانتحار التي حضرت في الكثير من الأفلام الأجنبية. وهو ما نجده في فيلم” The Hours “- ،2002 حيث مشهد الانتحار الذي كتبت فيه الروائية "فرجينيا وولف" رسالتها الأخيرة وقبل أن تملأ جيوبها بالحجارة وتغرق نفسها في نهر أوز، ففي ذلك المشهد رأينا الكاميرا وهي تقترب من ورقة الرسالة حتى أننا نسمع صرير القلم على الورقة وصوت الممثلة ”نيكول كيدمن“، التي أدت دور "فرجينيا وولف“، يقرأ الكلمات بهدوء فيه يقين النهايات. لقد فضّل المخرج أن يُري المشاهد لحظة كتابة "فرجينيا" للرسالة وليس ردة فعل الزوج عند قراءتها، ولعلّ هذا الجزء من رسالة فرجينيا يوضح الازدواجية ما بين قناعاتها الحياتية والعاطفية وبين قرارها بأن تنهي حياتها (ما أريد قوله هو إنني مدينة لك بكل السعادة في حياتي. لقد كنت صبورا جداً معي، وطيباً بشكل لا يُصدّق. أود أن أقول ذلك. والجميع يعرفه. لو كان بإمكان أي شخص أن ينقذني لكان أنت. كل شيء ذهب منى إلا اليقين بالخير الذي فيك. لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك أكثر من ذلك. لا أعتقد أن شخصين يمكن أن يكونا أكثر سعادة مما كنا عليه“.