الرسائل: العبق السينمائي الذي سيغيب

طامي السميري

"حين مرّت قربنا، فاح منها عبقٌ لا سبيل إلى تفسيره، عبق كالذي يخرج من رسائل حبيبة". هذه العبارة الجميلة من رواية "بطل من هذا الزمان" للأديب الروسي "ميخائيل ليرمنتوف" جعلتني أتساءل: في ظل الرسائل الإلكترونية هل مازال هذا العبق موجودا؟ عادت بي الذاكرة لتك الرسائل التي كان فيها حضور للخط والحبر والورق والرائحة وكل تلك العناصر التي تشكل ذوق وشخصية مرسل الرسالة. كان هناك طابع شخصي يميز الرسالة وكانت هناك عناية في كتابتها. هذه التفاصيل غابت، وغابت معها أشياء أخرى مهمة مثل الانتظار وطقوس استلام الرسالة وغيرها مما تلاشى في هذا الزمن الرقمي، الذي تساوت فيه ملامح الرسائل وغابت التفاصيل الذاتية ولم يعد للطابع الشخصي وجود. الشيء الذي ما زال حاضرا ربما، والذي يمنح الرسالة طابع الذاتية هو أسلوب المُرسل، إذ قد يتبدّى الطابع الشخصي للمرسل في طريقة تفكيره أو مدى قدرته على استخدام اللغة وأيضا على عمق ثقافته، وأعتقد بأننا كلما تقدمنا تقنيا ورقميا سوف نفقد الحميميات التي كانت في الزمن القديم وهذا أمرٌ بديهيّ. لكن السؤال المهم هنا: هل يستطيع هذا الزمن أن يصنع حميمياته التي تلائم اللحظة أم أن مفهوم الحميمية نفسه، الذي كان يكمن في التفاصيل، سوف تصبح له معانٍ أخرى وملامح تعكس معطيات تفكير الأجيال الحالية؟ ومن أجل الوفاء لعبق الرسائل الورقية، الذي تلاشى في واقعنا أو في طريقه للتلاشي، ارتحلتُ الى عالم السينما، ولا أدري ما إذا كنت مدفوعاً بالحنين أم برغبة في التأمل والاستقراء، وبحثت في الأفلام عن مشاهد استحضرت "الرسائل" وهي مشاهد لا حصر لها؛ متنوعة، مختلفة، ومغايرة، لكنها قدمت وثيقة سينمائية، ففي تلك الأفلام سنجد الشاهد الزمني على التفاصيل الاجتماعية والحياتية لحضور الرسائل وكيف تجلّى دور الرسالة في التواصل الإنساني بأبعاده المختلفة.

لا نستطيع أن نقول إن كتّاب السيناريو ومخرجي السينما استثمروا الرسائل في مشاهدهم لأن الرسائل كانت جزءاً أساسيّاً من طابع الحياة في ذلك الوقت. لكن الذي نستطيع رصده وتأمّله هو التمايز بين المخرجين في تقديم تلك الرسائل بصريا وبأي تكنيك سينمائي قُدّمت تلك المشاهد. فلو تأملنا مشاهد قراءة الرسائل فإننا سنجد عشرات من المشاهد المختلفة. فأحيانا نجد الرسالة بصوت المرسل وأحيانا يقرأها الشخص المرسل اليه، وتلعب التأثيرات الصوتية في هذا الجانب دورا في مشهد قراءة الرسالة، وأحيانا يكون تركيز المخرجين على مشهد كتابة الرسالة، وفيه قد تتجلى ملامح الخط والورقة. وفي بعض المشاهد نجد المخرج يستعرض أماكن ووجوه يأتي ذكرها في الرسالة مثل ذلك المشهد في الفيلم الفرنسي” César and Rosalie“، حيث كان فيه بطل الفيلم يقرأ الرسالة في القطار والشارع وفي المطعم وكان صوت البطلة يواصل القراءة. وفي ظل هذا التنوع لحضور الرسائل في الأفلام سأحاول استعادة وتأمّل بعض المشاهد السينمائية التي كانت فيها الرسالة جزءا أساسيا من المشهد.

في الأفلام السينمائية يلعب الزمن وبيئة المكان دورا في شكل حضور الرسالة وتوظيفها في مجريات أحداث الفيلم، وتظهر ثيمة الجهل بالقراءة والكتابة بوصفها أحد أهم الثيمات التي استثمرها المخرجون السينمائيون في تقديم مشاهد الرسائل. ولهذا نجد أن شخصية كاتب الرسائل تحضر بأشكال مختلفة؛ فمثلا نجد كاتب الرسائل الذي يعمل موظفا في إحدى الشركات، ويتلخص عمله في كتابة الرسائل العاطفية وهذا ما يصوره فيلم ”Her“ -2013، حيث يعمل بطل الفيلم ثيودور كاتبا للرسائل، لكن هذه الوظيفة ليست قائمة على جهل أصحاب الرسائل بالقراءة والكتابة بل لأنهم يرغبون في من يستطيع أن يعبر عن مشاعرهم وأحاسيسهم، غير مهتمين بالجاهزية التي تكتب بها تلك الرسائل، لذا نجد أن مخرج الفيلم يسلط الضوء على" ثيودور" أثناء كتابة الرسائل؛ فنتعرف على شيء من أسلوبه في كتابة الرسائل، التي يكتبها على جهاز كومبيوتر قبل أن يقوم بطباعتها ورقيا، وهذه الوظيفة كان لها أثرها السلبي على " ثيودور" فقد تعطلت موهبته التي كان من شأنها أن تجعله كاتباً مبدعاً لولا انغماسه في تلك الرسائل التي يتماهى مع مضامينها بحسب ظروف ومواقف أصحابها، لذا نجده يقول " في بعض الأحيان أكتب رسالة، فأغدو بعدها كاتبي المفضل".

وتقدم السينما أيضا نموذجاً آخر لكاتب الرسائل وهو "فلورينتيو" في" Love in the Time of Cholera“-2007، وهو فيلم مأخوذ عن رواية الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز التي تحمل العنوان نفسه. حيث عمل فلورينتيو فترة من حياته كاتبا للرسائل لكنه عندما يكتب للزبائن فإنه كان يعبر عن مشاعره العاطفية الشخصية بشكل شخصي كعاشق "لفيرمينا" ولهذا كان يبرع في إظهار الرومانسية في تلك الرسائل التي ترضي أصحابها وهو يكتبها لمعشوقته "فيرمينا". لكن هذه البراعة في كتابة الرسالة العاطفية لم تكن مناسبة حين أصبح موظفاً في شركة الملاحة إذ لم يستطع أن يتخلى عن لغته العاطفية في كتابة المعاملات التجارية، مما جعل رئيسه في العمل يوبخه على طريقته في كتابة المعاملات التجارية. ويعتبر فيلم " Love in the Time of Cholera" من أكثر الأفلام التي قدمت مشاهد الرسائل في حالات مختلفة لأبطال الفيلم. أيضا في الفيلم البرازيلي” Central Station“-1998، تحضر شخصية كاتبة الرسائل وهي الشخصية المحورية في الفيلم، فهي مدرسة سابقة وكاتبة خطابات لمن لا يجيدون القراءة والكتابة، لكنها لم تكن نزيهة في عملها، فهي لا تكتب الرسائل فقط ولكنها تملي على المرسلين شروطها. إنها تستغل جهلهم وحاجتهم لأن تكتب عنهم وتعبر عن عواطفهم ومشاعرهم، وهي لا تكتفي بالتدخل في محتوى كتابة الرسالة بل يصل بها الأمر إلى التدخل في علاقات أصحاب تلك الرسائل، فهي من تقرر إن كانت الرسالة تستحق أن ترسل أم لا.

وإذا ما تجاوزنا كاتب الرسائل فإننا في المقابل سوف نستحضر قارئ الرسائل. وهذا ما سنجده في فيلم ”الطوق والإسورة“- 1986، حيث تدور الأحداث في قرية فقيرة لأسرة تنتظر ابنها الغائب الذي ذهب للعمل؛ ولذا نجد المخرج خيري بشارة يتجلى في تقديم مشهد قراءة الرسالة في تلك الاحتفالية العائلية وهي تستمع للرجل العجوز أمام المسجد وهو يقرأ رسالة مصطفى بأسلوب بسيط " وانا شايلكم في قلبي زي الحجاب وربنا اللي قادر على قتل الغياب ولم شمل الاحباب"، ذلك الأسلوب الذي يعبر عن زمن كتابة الرسالة 14-11-1933 حسب ما ورد في نص الرسالة، زمن من النادر فيه أن تجد من يعرف القراءة. لكن المفارقة عندما نكتشف في آخر الرسالة أن الكاتب ليس هو الابن مصطفى وإنما استعان بزميله "الصافي محمدين" في كتابتها، ونفهم من ذلك عدم وجود أي نوع من الخصوصية في تلك الرسائل، فالمرسل استعان بكاتب يكتب رسالته، وقارئو الرسالة استعانوا بشخص آخر ليقرأها. وحالة الجهل بالقراءة امتدت إلى” فيلم عرق البلح“-1999، حيث تدور الأحداث أيضا في قرية من قرى الصعيد ولكن الفارق أن الغائب في فيلم الطوق والأسورة هو رجل واحد أما في فيلم عرق البلح فجميع الرجال رحلوا ماعدا المراهق أحمد الذي أصبح فيما بعد يلعب دور البوسطجي، فهو من يحضر الرسائل التي يرسلها الرجال الغائبون وهو من يقرأها وهو من يكتبها، لذا كانت أسرار القرية مكشوفة لديه، فقد أخفى وفاة عمه ولم يخبر زوجته بما حدث تقديرا وخوفا على أن تحزن وتتألم. وفي نسخة السيناريو المطبوعة من الفيلم لكاتب السيناريو رضوان الكاشف -وهو مخرج الفيلم أيضاً -سنجد الوصف التفصيلي المكتوب لمشهد أحمد وهو يسلم الرسائل لنساء القرية والذي تحول الى مشهدٍ سينمائي رائع (النسوة مجتمعة، أحمد ينادي على الأسماء المكتوبة على أظرف الخطابات ويناول كل امرأة الخطاب الذي يخصها. النسوة تقبّل الخطابات وتتفحصها دون ان تفتحها. بعد أن ينتهي من توزيع الخطابات ينظر إليهن. أحمد: اسمعوا كل واحدة منكم جالها جواب هنعدي نقراه ليها في الليل). لكن قد يحضر قارئ الرسالة في مشهد كوميدي، ومن أطرف تلك المشاهد ما حدث في فيلم” Love & Friendship “- 2016، وفيه يحاول "تشارلز فيرنون" أن يلخص ويختزل الرسالة لزوجته "كاثرين فيرنون"، لكنها ترفض أسلوبه مطالبة بحزم بأن يقرأ الرسالة بتفاصيلها لأنها ستجد صوت المرسلة "سوزان" في كلمات الرسالة. وعندما يستجيب لها السيد "تشارلز فيرنون" ويقرأ الرسالة بعلامات الترقيم، تغضب منه السيدة "كاثرين فيرنون" وتطلب أن يقرأ الكلمات فقط.

أمّا في فيلم” The Shawshank Redemption“- 1994، فقد جاء الحديث عن رسالة لم تكتب بعد، فعندما كان السجين "آندي" يخطط للهرب من السجن أخبر صديقه "ريد" أين سيجد الرسالة، التي سيكتبها عندما ينجح في الهرب، والتي سترشده إلى المكان الذي سوف يستقر به لاحقا "ستجد به شجرة بلوط ضخمة، كأنها خرجت من قصائد روبرت فروست"، والمفارقة في هذه العبارة أن يستشهد بقصائد الشاعر الأمريكي روبرت فروست وهذا الاستشهاد مبرر لسجين مثل آندي الذي كان مثقفا يقرأ في مكتبة السجن ويستمع لموسيقى موزارت. ولأن مشهد قراءة الرسالة يعتبر مشهدا رئيسيا لسجين مثل "ريد“، الذي أدمن حياة السجن وخرج لأنه أكمل فترة العقوبة، فسنلاحظ أن المخرج استغرق في ذلك المشهد ما يقارب دقيقتين – ركز فيها على ملامح مورغان فريمان الذي اعتاد الحياة داخل السجن وكان يتحاشى الحرية خارج الأسوار وكيف بحث عن شجرة البلوط وكيف أخرج الرسالة ثم كيف كان يقرأ الرسالة بمهابة وبفرح. ومن أبرز ما جاء في تلك الرسالة العبارة الشهيرة "الأمل شيء جيد، ربما يكون أفضل الأشياء"، وهذا الأمل هو الذي قاد آندي للهرب من السجن بعد أن خطط له ما يقارب العشرين عاما.

في حالة أخرى قد تُكتب الرسالة، ولكن يؤجل إرسالها وذلك بسبب رغبة كاتب الرسالة في أن تُقرأ في حضرة المرسل إليه، كما حدث في فيلم ”A Fortunate Man“- 2018، فالبطلة التي كانت تلعب دوراً مزدوجا مع ”بيير"، ذلك المهندس الموهوب والعبقري في مجال عمله، لكن في المقابل هو شخص متأزم، كانت تهدئه نفسيا وتؤنِسه عاطفيا- ففي ذلك المشهد قالت له "لدي اعتراف لك، أرجوك لا تنزعج، ذهبت الى غرفتك في كوبنهاغن قبل أن أغادر، اشتقت إليك كثيرا كنت بحاجة إلى شيء يخصك بالقرب مني، وكتبت لك رسالة لكنني لم أرسلها قط أحضرتها معي"، وعندما فتحت الرسالة وشرعت في القراءة فهمنا لماذا اختارت أن تقرأها أمامه مباشرة، ففي جزء من الرسالة تقول: "عزيزي بيير، قد أبكي فرحا لما أشعر به من خزي، لأني قلقت وشككت بك، لم أفهم حقيقة شخصيتك حتى الآن، ما كوّن شخصيتك وما يجعلك هذا الشخص، يكمن في نبلك في التناقض الذي نما بداخلك من ضغط ضيق الأفق والمعتقدات الخرافية، وهذا يفسر ضعفك وقوتك الهائلة العنيدة". وفي مشهد مختلف قد تُقرأ الرسالة بعد رحيل كاتبها، وهذا ما يحدث في رسائل الانتحار التي حضرت في الكثير من الأفلام الأجنبية. وهو ما نجده في فيلم” The Hours “- ،2002 حيث مشهد الانتحار الذي كتبت فيه الروائية "فرجينيا وولف" رسالتها الأخيرة وقبل أن تملأ جيوبها بالحجارة وتغرق نفسها في نهر أوز، ففي ذلك المشهد رأينا الكاميرا وهي تقترب من ورقة الرسالة حتى أننا نسمع صرير القلم على الورقة وصوت الممثلة ”نيكول كيدمن“، التي أدت دور "فرجينيا وولف“، يقرأ الكلمات بهدوء فيه يقين النهايات. لقد فضّل المخرج أن يُري المشاهد لحظة كتابة "فرجينيا" للرسالة وليس ردة فعل الزوج عند قراءتها، ولعلّ هذا الجزء من رسالة فرجينيا يوضح الازدواجية ما بين قناعاتها الحياتية والعاطفية وبين قرارها بأن تنهي حياتها (ما أريد قوله هو إنني مدينة لك بكل السعادة في حياتي. لقد كنت صبورا جداً معي، وطيباً بشكل لا يُصدّق. أود أن أقول ذلك. والجميع يعرفه. لو كان بإمكان أي شخص أن ينقذني لكان أنت. كل شيء ذهب منى إلا اليقين بالخير الذي فيك. لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك أكثر من ذلك. لا أعتقد أن شخصين يمكن أن يكونا أكثر سعادة مما كنا عليه“.

الرسائل غالبا ما تحمل أخباراً سيئة والقليل منها الذي يتضمن أخباراً مبهجة، فقد كانت غالب المشاهد السينمائية تركز على ردة فعل متلقي الرسالة، ومن أبرز هذه المشاهد ردة فعل الممثلة” كيرا نايتلي“، التي تلعب شخصية” سابينا شبلرين“ أثناء قراءتها لرسالة عالم النفس الشهير سيجموند فرويد وهو يحدثها عن علاقتها بالمعالج كارل يونج في فيلم ”A Dangerous Method“ -2011، فقد كانت سابينا تقرأ هذه الرسالة في حديقة عامة ولكنها لم تستطع ضبط مشاعرها إذ كانت ترتجف وتبكي بحرقة. وفي هذا الفيلم كان هناك حضور للرسائل الجادة التي تأخذ طابع الجدل العلمي بين سيجموند فرويد وكارل يونج، حيث ركّزَ المخرج على إبراز المكان التي تُكتب فيه تلك الرسائل وهو المكتب وأيضا نلاحظ أنهما يكتبان الرسالة وهما يرتديان اللبس الرسمي، مما يضفي جدية على تلك الرسائل المتبادلة بين شخصيتين بارزتين في علم النفس، ولم تكن تلك الرسائل تخلو من الهجوم الشخصي وتبادل الاتهامات، ففي أحد المشاهد نلحظ هذا النموذج من الرسائل بينهما والتي جعلها المخرج في مشهد واحد متصل حيث يقرأ كل منهما رسالة الاخر ويرد عليه. فقد كتب كارل يونج إلى فرويد هذه الرسالة: "إذا جاز لي القول عزيزي البروفسور، إنك ترتكب خطأ بمعاملة أصدقائك كالمرضى. هذا مكنّك من أن تنزلهم منزلة الأطفال، بحيث يكون خيارهم الوحيد هو أن يصبحوا كائنات ذليلة ومطيعة، أو منفذين متسلطين لخطة الحزب، بينما أنت تجلس على قمة الجبل، شخصية الأب المعصوم من الخطأ، ولا أحد يجرؤ على جذبك من لحيتك فيقول لك: "فكر في سلوكك ثم قرر من منّا هو العصابي"، وجاء رد فرويد في منتهى القسوة حيث كتب ”رسالتك لا يرد عليها. إنّ ادعاءك بأنني أعامل أصدقائى كمرضى هو أمر غير صحيح البتّة، أمّا بالنسبة لمن منا هو العصابيّ، فقد ظننت بأننا كمحللين متفقون بأن القليل من العصاب ليس أمراً يدعو للخجل إطلاقاً، لكنّ رجلاً مثلك، يتصرف بشكل غير طبيعي، ثم يقف صارخاً بأعلى صوته بأنه طبيعي، فإن هذا أمرٌ يدعو الى القلق الشديد. منذ فترة طويلة وعلاقتنا معلقة بخيطٍ رفيع، وهو خيط، علاوة على ذلك، مؤلف من خيبات أمل ماضية، ولن نخسر شيئاً لو قطعناه“.

بعض الرسائل قد لا تكون عاطفية ولكنها تتضمن بلاغا بوصول حوالة مالية. ففي فيلم ”The Story of Adele H“ -1975، كانت البطلة تذهب إلى مكتب البريد لمجرد أن تجد في الرسالة خبرا بوجود حوالة مالية. لكن في المقابل سنجد المئات من المشاهد التي يكون مضمونها رسائل غرامية، حافلة بالاشتياقات والعذابات والاعترافات العاطفية، وهذه المشاهد تتنوع بحسب ملامح تلك الغراميات السينمائية وطبيعة العلاقة بين أفرادها والمستوى الثقافي لتلك الشخصيات. ولهذا فإنّ أسلوب المرسل يلعب دوراً في كتابة الرسالة، ففي فيلم” موعد مع السعادة“-1954، نرى أنّ ”نسمة“ تطلب من شقيقتها "إحسان" إعادة صياغة المكتوب الذي كتبته، فتقول لأختها "انا كاتباه بالبلدي وعاوزاك تحوريه وتدوريه وتطعميه بالفصيح زي كلام الروايات اللي بتقريها". ولكن في فيلم ”Onegin “ - 1999، عندما نقرأ رسالة " تاتيانا" إلى أونيجين وبرغم أنها فتاة تعيش في الريف الروسي إلا أنها قادرة على التعبير عن مشاعرها بهذا البوح العاطفي، كذلك عندما نتأمل تعبير الممثل "ريف فاينس" الذي لعب دور "أونيجين" وكيف أمسك بالرسالة وكيف تمهل في فتحها ثم كيف جاء صوت " تاتيانا" الرهيف الذي يعكس خوفها وارتباكها، كل هذا أضاف للرسالة مهابة الاعتراف بمشاعرها :(عزيزي أنا أكتب لك، هذا كل ما يمكنني القيام به، وأنا أعلم أنّ في وسعكم معاقبة قلبي المتسرع، ولكن إذ كان لديك قطرة واحدة من الشفقة، أعلم أنك لن تتخلى عني لقدري التعيس. أنا أحبك ويجب أن أقول لك هذا وإلا فقلبي الذي ينتمي اليك بالتأكيد سيُكسر، ماكنت لأكشف عن عاري. لو تمكنت من رؤيتك مرة في الأسبوع فقط. نتبادل كلمة واحدة أو اثنتين. وبعد ذلك نفكر ليلا ونهاراً في شيء واحد فقط حتى لقائنا المقبل. ولكنك منطو على نفسك كما يقولون. الريف ممل بالنسبة لك. هل هذا صحيح؟ هل أنت تمل من الريف؟ أحيانا أتساءل هل سبق وزرتنا من قبل؟ لماذا؟ وإلا ما كنت قد عرفتك أو عرفت هذا الألم والحمى. أنا متأكدة أن حياتي كلها كانت تقودني لأن ألتقي بك. تعرفت عليك من أول وهلة وتيقنت من ذلك، وقلت في نفسي (إنه هو، لقد أتى) ساعدني، بدّد شكوكي. لعل هذا كله هراء، الفراغ، الوهم. ومصير آخر تماما ينتظرني، تخيل، أنا هنا وحيدة، شاردة الذهن. أخشى من إعادة قراءة ما كتبت. أشواقي السرية، أعرف أنني أستطيع أن أثق بشرفك على الرغم من أنني أشعر بالضعف من العار والخوف).

واذا كانت رسالة "تاتيانا" تحمل هذه الرهافة العاطفية فإن رسالة ”روزالي“ في الفيلم الفرنسي ”César et Rosalie“ - 1972، تحمل نكهة أخرى؛ فهي ليست رسالة عاطفية وليست رسالة بوح، ولكنها من تلك الرسائل العاطفية الذكية الفريدة، ومضمون تلك الرسالة نتاج لطبيعة العلاقة بين الطرفين، لهذا فإننا نلحظ بأن المخرج يجعل “ديفيد” يستمع لصوت مرسلة الرسالة وهو في القطار، وهو في مكتب عمله، وهو في المقهى، وكأن هذه الضوضاء التي في المدينة مشابهة لضوضاء العواطف والمشاعر التي تربط الطرفين، بينما في فيلم Onegin أضفى المخرج على طريقة قراءة الرسالة ذلك التهيب الذي كان جزءا من مشهد الرسالة. ولأن الفيلم الفرنسي كان مختلفا في طابع العلاقة وهذا ما يكشفه مضمون الرسالة، نقتطع هذا الجزء من رسالة ”روزالي“ إلى ”ديفيد“، والتي جاء في افتتاحيتها "لقد كتبت لك رسالتي الخامسة وأنا انتظر صمتك الخامس" ثم كتبت ” اشتريت فساتين جديدة من السوق الصباحي، أحدهما أزرق والآخر أبيض، ماما تود الحصول على رخصة القيادة، هذا ما طرأ على بالها فجأة، أتى أنطوان لرؤيتي، بالنسبة للفساتين لقد كذبت لم أشتر أي شيء جديد، مستعدة لقول أي شيء لأحدثك عني، ليست مبالاتك ما يعذبني، بل الاسم الذي أطلقتُه عليها، الحقد والنسيان. (دافيد) (سيزار) سيبقى (سيزار)، وأنت (دافيد)؛ الذي يرافقني دون أن يخطفني، والذي يمسك بي دون أن يأخذني، والذي يحبني دون أن يريدني“.

في الرسائل الغرامية غالبا ما يكون التركيز على الرسالة الأولى بين الطرفين، فتلك الرسالة تكون فاتحة الدهشة وممهدة لبناء العلاقة. وفي فيلم” Mysteries Of Lisbon“-2010، أخذنا المخرج في مشهد طويل لأول رسالة أرسلها بيدرو دي سيلفا، المفتون ب "أنجيلا" ابنة الماركيز، وقد سجلت الكاميرا تفاصيل استلام الرسالة، التي أوصلتها الخادمة ورأينا كيف خبأت "أنجيلا" الرسالة في الكتاب. فالكتب في مرات عديدة تعتبر المكان الآمن للرسائل. وشاهدنا ملامحها وخجلها حين أمسكت بالرسالة، وعندما بدأت بقراءتها جعل المخرج صوتها وصوت بيدرو دي سيلفا يتناوبان في القراءة ”سيدتي المدهشة، سامحيني على جرأتي في إرسال هذه الرسالة، لكن لا شيء يمكن أن يبعدني عن تلك النظرات التي اكتشفتها بالأمس وحلمت بها اليوم، منذ رأيتك لن يهنأ لي بال حتى أعرف لمن كل هذا السحر، بدت الدقائق وكأنها ساعات والساعات كالأيام، ولن ينتهي هذا حتى تشمليني بعطفك وتقبليني، لهذا السبب وحسب، دون حسابات مسبقة وبكل عفوية أتجرأ بأن أطلب منك أن تحرريني من هذا العذاب“.

في أفلام الحروب مشاهد قراءة الجنود لرسائل الأمهات والأخوات والزوجات والعشيقات من المشاهد الأثيرة لدى المخرجين، فالرسالة للجندي تحمل معاني عديدة وتبعث في نفسه الألم والأمل، ففي فيلم” All Quiet on the Western Front“-2022، وهو الفيلم المقتبس من رواية تحمل ذات الاسم للكاتب "إريك ماريا ريمارك". نلاحظ فيه تلك الرسالة التي حملت جزءا كبيرا من حديث الزوجة عن الأكل، وهذا الأمر لا يبعث على الاستغراب، فرغم أن مسرح الأحداث جبهة حربية فإن افتتاحية الرواية كانت تركز على الطعام وعلى مشهد الجنود وهم يتناولون طعام العشاء ("حبيبي البدين" طلبت رزمة من الطعام، أرسلت إليك أربع حصص من لحم الخنزير ودهنه وبعض الكعك، مخلل الملفوف والنقانق، وعبوة من مسكن "هينغفونغ" مع مكعبات سكر، بعض البيض وبرطمانا من مربى الخوخ. لا تأكل كل شيء دفعة واحدة، لا أريد ان أرسل المزيد على الفور، ويستحسن ألاّ تشارك الطعام مع رفاقك). لكن ليست كل الرسائل التي تُرسل للجنود وللمشاركين في المعارك لها ذات الطابع الواقعي. تأمل هذه الرسالة من فيلم Cold Mountain (2003) (آخر خيوط شجاعتي الآن هي في أن أضع ثقتي بك، وأن أصدّق بأني سأراك ثانية، ولذلك أقول لك الآن، بأوضح ما يمكن، إذا كنت تقاتل فتوقف عن القتال، وإذا كنت تزحف توقف عن الزحف، ارجع إليّ، أطلب منك أن ترجع إليّ).

في الأفلام المقتبسة من الروايات سنلاحظ أن للسينمائي قناعاته، لذا قد يستغني عن كثير من الرسائل المكتوبة في الرواية التي يقتبس منها الفيلم، ومن أبرز تلك الرسائل التي استُغنيَ عنها رسالة "بهيّة" في فيلم ”بداية ونهاية“ - 1960، المقتبس من رواية نجيب محفوظ، التي تحمل العنوان نفسه، وقد عمد المخرج صلاح أبو سيف وكاتب السيناريو صلاح عزالدين إلى الاستغناء عن رسالة بهيّة رغم أنها قد تكون أقصر رسالة كُتبت في تاريخ الروايات، وهي تتألف من ثلاث كلمات فقط (قابلني فوق السطح)، وربما تماثلها في القصر تلك الرسالة التي جاءت في رواية (كازانوفا في بولزانو)، التي تقول ”يجب أن أراك“، وهي رسالة قصيرة، كتبتها زوجة لعشيقها، الأمر الذي جعل زوجها الدوق يشرح ويحلل تلك الكلمات الثلاث في خمسٍ وخمسين صفحة! وإذ نعود إلى رواية” بداية ونهاية“ وبرغم قصر رسالة بهيّة، إلا إن نجيب محفوظ برع في وصف مشهد ملابسات كتابة تلك الرسالة، ومع هذا فإنّ صناع الفيلم لم يجدوا في تلك الرسالة الضرورة السينمائية لكي تصبح من مشاهد الفيلم. وهنا نقرأ في هذا الجزء وصف نجيب محفوظ الدقيق للمشهد الروائي:

” وقد دست الفتاة في يده ورقة مطوية وهي تسلِّم عليه، ولمَّا أن خلا إلى نفسه وبسطها وجد بها هذه العبارة «قابلني فوق السطح» كانت أول رسالة توجهها إليه، وتفحص الخط بعناية وغرابة فوجده بخط الأطفال أشبه، وذكر لتوه تعليمها الابتدائي! بَيْدَ أنها كانت على إيجازها عميقة الدلالة حتى لكأنها صرخة استغاثة ولا شك أنها كتبتها خلسةً في شقتها قبل الزيارة مما يدلُّ على أن قلبها توجس خيفةً من أن يواصل فراره منها الذي بدأه بالرحيل إلى طنطا. وأحس بغمز الألم في قلبه وشمله عدم ارتياح فسخط كما يسخط على كل شيء حوله“.

الرسائل التي تبنى على وهم عاطفي حضرت في أكثر من فيلم، ومن أبرزها فيلم ”Malena “ - ،2000 فعندما كان المراهق ريناتو يكتب رسائله الى مالينا بجانب البحر وبجواره كتبه الدراسية المتناثرة كان يعرف أنه لا يجرؤ على إرسالها ولكن كان يتلذذ بخيالاته في كتابة تلك الرسائل؛ لذا عندما ينتهي من كتابتها يقذفها في اتجاه البحر ثم تأتي الأمواج وتغرقها (آنسة مالينا إن قلبي المضطرم قد كتب رسائل عديدة، ولكني جبُنتُ عن إرسالها؛ لأني لم أرد أن أضايقك فحسب، لذا اغفري لي إرسالي هذه الرسالة، أريدك أن تعلمي أن كثيرا من النمامين في هذه المدينة يقولون أشياء سيئة عنك وأن لك عشيقا، وأنا أعلم أن ذلك ليس صحيحا، وأنه لا أحد لك بعد زوجك. الرجل الوحيد في حياتك هو أنا).

إن المراهق ريناتو كان عاشقا واهما ولكنه، كان يعرف حدود وهمه؛ لذا كان يتخلص من الرسائل التي يكتبها، لكن في المقابل هناك العاشق الواهم الذي عندما يكتب رسائله يصبح أكثر تفانيا وإخلاصا في الكتابة لاعتقاده بأنه يمنح أصفى ما لديه في تلك الرسائل. وغابرييل بطلة فيلم ” From the Land of the Moon“-2016، تمثل هذا النوع من الرغبة في الحياة الواهمة، وهي التي عاشت زمنا من عمرها وهي تراسل الضابط الذي كان يجاورها في المصحة عندما كانت مريضة ولم تدرك أنها كانت تراسل رجلا توفي منذ زمن إلا عندما قرر الزوج مصارحتها بالحقيقة وهو يعيد لها كل رسائلها التي كانت تكتبها (حبي أنت لا تقول شيئا، تتركني في صمت، ما الذي يزعجك في رسائلي؟ أين أنت؟ آمل أنك لم تعد إلى الجيش أو أنهم أرسلوك مجددا إلى الحرب؟ أنا أتخيلك هناك، جريحا ربما، أرى صورا مرعبة عن القتال، تحدث إليّ، أنا بحاجة إلى أن تتحدث إليّ).

لهذا سنجد أن شخصية العاشق تلعب دورا في تقبل الطرف الآخر للرسالة ففي فيلم Love in the Time of Cholera انحاز فلورينتينو للرسائل الحالمة مردداً المفردات ذات النكهة الباهتة، بينما الدكتور" أوربينيو" بخطه التعيس وقاموسه العاطفي المحدود استطاع التأثير في قرار فيرمينا بالزواج منه، فعندما تأخرت في الرد على رسائله أمسك يدها بقوة حتى نزع قفازها قائلا لها "اقرأي رسائلي وردي عليها" وما حدث في ذلك المشهد السينمائي الخاطف عجل بقرار فيرمينا بالزواج من الطبيب أوربينيو. كذلك في فيلم ”Titanic“ - 1997، نجد أنّ جسارة "جاك" منحته قبولاً إضافيا عند "روز“، عندما باغتها بتلك الرسالة القصيرة "اجعلي يومي هذا فريدا ومميزا، قابليني عند الساعة الحادية عشرة“، وجسارة جاك في تلك الرسالة تتناغم مع شخصيته كشاب له كاريزما وله شيطنة محببة عند روز.

الرسالة قد تلعب دور البطولة وتكون هي المحور الذي تبنى عليه الأحداث. كما حدث في فيلم” Message in a Bottle“ -1999، عندما وجدت "تيريزا أوزبورن" رسالة حب غامضة في زجاجة على رمال الشاطئ وقادها الفضول الصحفي إلى تتبع مصدر تلك الرسالة وهو "جاريت بليك“. نقرأ في جزء من تلك الرسالة ”عزيزتي كاثرين أنا آسف لم أتحدث معك لفترة طويلة، أحس أنني ضائع، لا اتجاهات، لا بوصلة، أصبحت أتخبط في الأشياء، لم أكن ضائعا من قبل، لقد كانت وجهتي صحيحة للشمال، كان يمكنني أن أوجه الدفة نحو المنزل، سامحيني عندما كنت غاضبا بسبب رحيلك، ما زلت أفكر في بعض الأخطاء التي حدثت وأدعو من الله أن يمحوها“. لكن هذه الرسالة التي كتبها المفجوع بفقد زوجته تثير مشاعر وفضول تيريزا وتجعلها تبحث عن جاريت بليك لتنشأ بينهما بعد ذلك علاقة عاطفية.

الرسائل عندما يُحتفظ بها لزمنٍ طويل قد تبهت وتصبح صفراء. وبعض من يحتفظون بتلك الرسائل -حتى وإن كانوا شخصيات ضعيفة- يقاومون الآخرين حتى لا يعبثوا ويخربوا ذكرى تلك الرسائل. وفي ”A Streetcar Named Desire“ - 1974، عندما كان ستانلي يستجوب بلانش بالعديد من الأسئلة عن حياتها وعندما قالت له (إنها تحتفظ بالأرواق في صندوق صفيح) سألها بفضول عن الأوراق التي كانت في أسفل الصندوق فأجابته (بأنها رسائل حب) وأضافت (كلها من فتى واحد)، وعندما لمس ستانلي تلك الرسائل غضبت وقالت (لمسة يدك إهانة لها، وبعد أن لمستها سوف أحرقها)، ثم قالت بلانش بحرقة (إنها قصائد شعر كتبها الفتى لقد آذيته كما تود إيذائي الآن ولكنك لا تستطيع؛ فلم أعد شابة ضعيفة ولكن زوجي الشاب كان كذلك) وعندما سألها ستانلي (ماذا قصدت بقولك إن عليك حرقها) فتأسفت بلانش وبررت قولها بأنها فقدت أعصابها وقالت (يملك الجميع شيئا لا يسمحون للآخرين بلمسه لطبيعته الحميمية).

ربما حضرت الرسالة في المشهد الأول في بعض الأفلام ولكن أن تحضر في تتر الفيلم فهذه حالة نادرة وقد غامر مخرج فيلم” The Deep Blue Sea“ -2011، بأن جعل الرسالة في تتر الفيلم بصوت الممثلة ريتشل وايز والتي تلعب دور "هيستر كولير" وهي تقرأ رسالتها إلى " فريدي بيج“. كان صوتها حزينا ومشابها لحالتها، وقد بلغ بها الأذى حدّ الرغبة في الانتحار، وإن كانت ترى في ذلك علامات الحب الحقيقي، وقد اختار المخرج أن يتماهى مع صوت ومضمون الرسالة بأن جعل الشاشة في حالة من السواد وهي إشارة الى أن مُشاهد الفيلم سوف يعيش مع قصة حب فيها كثير من الوجع العاطفي”عزيزي منذ لحظات مضت عرفت فعلا ما الذي أود أن أخبرك به. ظلت الرسالة تدور في ذهني مرارا، كنت أنوي كتابة رسالة منمقة، ولكن لم أجد الكلمات المناسبة؛ لأنني في تلك اللحظة تمنيت الموت“.

الرسائل العائلية التي يتبادلها أفراد الأسرة لها حضور كبير في الأفلام، ومن أبرز تلك المشاهد الرسائل المتبادلة بين "سيلي" وشقيقتها في فيلم” The Color Purple “ -1985، وهو مقتبس من رواية تحمل العنوان نفسه، وفي الفيلم سنرى كيف تقرأ” سيلي“، المرأة الضعيفة والمستلبة، رسالة شقيقتها التي رحلت إلى أفريقيا. لقد كان المخرج يوزع لقطاته أثناء قراءة الرسالة ما بين عالم الشقيقة التي أصبحت داعية للنصرانية في أفريقيا وبين عالم سيلي التي تعاني من اضطهاد زوجها. لكننا سنجد في فيلم” Legends of the Fall“-1994، حالة مختلفة؛ فالرسائل المتبادلة بين الزوج والزوجة التي رفضت المكان الذي انتقلت إليه الأسرة وعادت إلى المدينة، كانت رسائلَ في غاية اللطف وفي قمة التهذيب وكانت الوسيلة المناسبة لجعل العلاقة بينهما تأخذ طابع الاستمرارية رغم البعد والمسافة.

إن لحضور الرسائل في عالم السينما تنويعات لا حد لها، وفي تفاصيل تلك المشاهد صور بصرية لا تنتهي، قد تأخذك حد الحلم، وقد تؤلمك حد الوجع. فهناك الرسائل الباكية، وهناك الرسائل المبهجة، وهناك الرسائل التي تحمل الدسائس. إن أصوات الممثلين التي تقرأ تلك الرسائل وتتقمص مضامينها والتفاوت في أساليب كتابة الرسائل بحسب ثقافة الشخصيات والموسيقى التي ترافق قراءة الرسائل، كلها تمنحنا عالما سينمائيا مبهجاً، لكن هذه البهجة سوف تتوارى ويغيب ذلك العبق الحميمي الذي كان يتسرب من الرسائل. لهذا نحن نحمل الامتنان لكل فيلم قدم مشهدا سينمائيا في هذا الجانب الذي نشعر تجاهه برومانسية مفرطة، وعلينا التعايش مع مشاهد الرسائل في أفلام الزمن الحالي، تلك التي تُكتب ويتم الرد عليها في ثوان محدودة.