مراجعة فيلم سحابة أطلس

كريم بركات

(نسختك من الحقيقة هي ما أريده.
= الحقيقة متفردة، وكل نسخها مجرد زيف.)

بهذا الحوار المكثف بين المحقق و"تسونمي" عام 2144، يستقبلنا الأخوان "واكوفسكي" في مستهل تحفتهم الرائعة (سحابة أطلس السداسية)، ليقولوا لنا منذ البداية أن القصص الست التي يرويها الفيلم طوال ساعاته الثلاث الماتعة= ما هي إلا قصة واحدة في الحقيقة! ومن خلال مونتاج عبقري يدمج بخفة بين القصص الست، ويحرك أحداثها معا بالتوازي، ويتنقل بينهم بسلاسة شديدة؛ فتشعر برغم تعدد الوجوه والأحداث أنك أمام قصة واحدة فعلاً.

قصة الحياة عبر التاريخ، قصة الصراع بين الحق والباطل، وبين الاستغلال والتحرر.

الصراع بين من يؤمنون مع "نيتشه" بفلسفة القوة، وأن الضعفاء ما هم إلا لحم يأكله الأقوياء، كما قال الطبيب جوس في القصة الأولى التي تدور أحداثها عام 1846.

أولئك الذين يؤمنون بهذه المقولة لدرجة أنهم يصورنها على أنها نظام الكون الطبيعي، الذي قد تؤدي أي محاولة لتغييره لدمار العالم، كما قال القس "هوركس".

ومن يؤمنون بفلسفة الأخلاق والعدل والمساواة، الذين يتساءلون بصدق على لسان المحامي "آدم يوينج": إذا كان الله قد خلق العالم فكيف نعرف ما يجب تغييره وما يجب تركه مقدساً؟

وانطلاقاً من المقولة الأخيرة، المرفوعة في وجه الحداثة التي استباحت كل شيء، وعبثت بكل شيء بذريعة العلم والتقدم، يبدأ الفيلم في توجيه أسئلته، ونقده، ورسائله، ورصاصاته القاتلة.

والرصاصة الأولى كانت موجهة إلى مركز الحداثة، وقلبها النابض، إلى فكرة التقدم نفسها، وتصوير التاريخ على أنه خط مستقيم صاعد، أو على أنه درجات سلم كل واحدة أعلى وأفضل من سابقتها.

وعبر أحداث القصص وتطورها التاريخي، يؤكد لنا الفيلم مع كل مشهد أن التاريخ إن كان لابد من تصويره على هيئة خط مستقيم، فإنه ولابد خط نازل وليس صاعداً، وأن التقدم المزعوم ما هو إلا مارد أعور، يقدم لنا العلم بيد، ويسحق إنسانيتنا ومشاعرنا بيده الأخرى، وأن المستفيد الأكبر من هذا التقدم هو الجشع والاستغلال، الذي يتخلى عن تخفيه وتنكره ومراوغته، ويصبح بمرور الوقت أكثر جرأة ووقاحة ووحشية.

فنلاحظ أن "جوس" الطبيب الجشع، يقوم سراً بتسميم المحامي الطيب "آدم يوينج"، بينما يتظاهر بعلاجه، ولا يجرؤ على الإعلان عن خطته، بينما الموسيقار "فيفيان" العجوز في القصة الثانية عام 1936، يعلن صراحة عن نيته في سرقة مجهود مساعده "روبرت فروبيشر"، ومقطوعته سحابة أطلس.

نلاحظ أيضاً أن الجشع يزداد خسة وانحطاطاً بتقدم التاريخ، فبينما كان فردياً وموجهاً نحو ضحايا بعيدين نسبياً عن الشخص الجشع في الأولى والثانية، نجده في القصة الثالثة عام 1970 أصبح منظماً ومؤسساً، وكذلك صارت ضحيته مدينة بأكملها، هي نفسها المدينة التي يسكنها رجل الأعمال الجشع.

أما في القصة الرابعة عام 2012، فإن الانحطاط يصل إلى أن الأبناء يسجنون آباءهم قسراً في دار المسنين، ولا يعبؤون حتى بخبر وفاتهم، إلا عندما يظنون أن الأمر يؤثر على الوصية.

وبعد أن وصل الجشع إلى هذه الدرجة من التبجح والانتشار، تأتي القصة الخامسة عام 2144، حيث وصل التقدم العلمي إلى ذروته وتحقق إنسان "نيتشه" الكامل، المسيطر على كل شيء، ونلاحظ أن العلاقات الإنسانية الطبيعية، كالأخوة، والأبوة، والصداقة، التي وجدت في القصص السابقة اختفت وتلاشت تماماً في القصة الخامسة، وانقسم البشر بمنتهى الوضوح والصفاقة، إلى أسياد يملكون كل شيء، وخدم معدلين جينياً ومصنَّعين في أحواض، ليس لهم أي حقوق أو أحلام، ودورهم الوحيد ينحصر في خدمة الأسياد، والعمل على راحتهم دائماً، حسب القانون الأول الذي ذكرته "سونمي".

كما أنه ليس من حقهم، أن يتحدثوا بلغة الأسياد، ولا أن يرتدوا ملابس تشبههم، ولا أن يتخيلوا مجرد تخيل كيفية شعورهم إذا صاروا أسياداً.

وهكذا نكتشف أن التقدم ما هو إلا وهم وخديعة، وأن العالم طالما أصر على المضي بهذا الاتجاه، فإنه يسير بخطى حثيثة إلى الهاوية.

أما الرصاصة الثانية، فكانت موجهة إلى فلسفة القوة عند "نيتشه"، حيث يريد صناع الفيلم أن يعلمونا أن الأنانية لا تكتفي بجعل الروح خبيثة، ولكنها في آخر المطاف ستؤدي لفناء العالم، وأن المنح والعطاء والتضحية، ليست مجرد ترف أخلاقي، ولكنها واجب ووسيلة لإنقاذ أنفسنا قبل الآخرين، حيث ينقذ "آدم يوينج" العبد "أوتوا"، ويمنحه حياة جديدة، فيقوم "أوتوا" بإنقاذ حياته، ويخلصه من سم الطبيب القاتل، وكذلك يقوم والد "لويزا راي" بإنقاذ زميله في الحرب، فيعود هذا الزميل لإنقاذ ابنته من القتل، على يد شركة البترول، وأيضاً يرفض "تيموثي كافنديش" وأصدقاؤه التخلي عن السيد "ميتش" العجوز الطيب، ويخاطروا بأنفسهم من أجل إنقاذه، فيكون السببَ في إنقاذهم من بطش الآنسة "نوكس" وإدارة بيت أورورا، وهكذا في مشاهد عديدة يؤكد الفيلم دائماً أن العطاء والتضحية في جوهره عطاءٌ لأنفسنا أيضاً وليس للآخرين.

المدهش والطريف هنا أن المخرجين استخدموا فكرة العود الأبدي عند "نيتشه"، لتأكيد هذه الرسالة الأخلاقية ولتبريرها أيضاً، حيث تكررت أكثر من مرة عبارة "حياتنا ليست ملكاً لنا، من ميلادنا وحتى الممات نحن مرتبطون بالآخرين، في الماضي والحاضر، وبكل عمل خير أو عمل شر نعيد خلق المستقبل."

وأكدوا على نفس الفكرة أيضاً، عن طريق قيام الممثلين بأداء شخصيات مختلفة في كل قصة من القصص الست، وكذلك من خلال رمزية سيمفونية سحابة أطلس السداسية، التي يظن كل من يسمعها أنه سمعها قبل ذلك في مكان ما، ومن خلال حديث "فروبيشر" نفسه عن (عند) سماعه لهذه الألحان من أفكار "فيفيان" العجوز وفي أحلامه، خلال لقاءاتهم المتعددة في حيوات أخرى عبر التاريخ.

ثم يعود "فروبيشر" ويؤكد أن حيواتنا متقاطعة ومتداخلة إلى أقصى حد، وأن المسافات والحواجز ما هي إلا وهم، إذا كسرناه سنرى الحقيقة ونسمع دقات قلوب الآخرين كأنها قلوبنا.

فإذا كانت الأخلاق بهذه الأهمية، وإذا كانت أفعال الخير والشر هي التي تخلق مستقبلنا، فما هو الشيء الذي يتحكم في أفعالنا؟

هنا يصبح "كانط" حاضراً بمنتهى القوة.

إن الشيء الذي يتحكم في أفعالنا، ويجعل الخير مبرراً هو الإيمان. جميع الشخصيات الطيبة في قصص الفيلم، كان لديها شيء واحد مشترك رَمَز له المخرجان بتلك الوحمة على شكل مذنّب، جميعهم كان لديهم إيمانٌ ما يمنحهم مركزاً صلباً لحياتهم يستندون عليه.

"آدم" كان لديه أسرته، و"فروبيشر" و"سكسميث" كان لديهما الحب، والصحفية كان لديها ذكرى والدها وأسطورته، و"كافنديش" كان لديه حبه القديم لـ "أورسولا"، وكذلك "سونمي" نشأ لديها عشقها لـ "تشانج" قائد المقاومة.

هذا الإيمان بشيء متجاوز للمادة، أزاح ذواتهم من مركزيتها، ومنحهم القدرة على التعالي والسمو عن الأنانية والجشع، وأعطاهم دافعاً قوياً للبذل والعطاء والتضحية.

ولكن القرار صعب والإيمان وحده غير كاف، فالإنسان عبر مسار حياته، وفي كل خطوة يمر بتقاطعات، ويصبح في مواجهة احتمالات عديدة، وللأسف لا يوجد خيار مثالي، كما قال "إيزاك ساكس" عالم الفيزياء في حديثه العابر مع "لويزا راي"، وحتى "سونمي" نفسها اعتذرت عن الانضمام للمقاومة، لأنها رأت أنها مجرد مصنًعة معدلة وراثياً لا تملك تغيير شيء.

ما العمل إذن؟
الحل أن نرى الحقيقة، وندرك طبيعة الصراع، ونصدق أن كون الإنسان في أمان بسبب حظه في طبقته الاجتماعية أو عائلته أو أملاكه، هو أمر مؤقت، لأن الجشع سيؤدي بالعالم إلى التهام نفسه في النهاية.

وهذا بالفعل ما حدث.
أوشك "آدم" على الموت ولم ينقذه سوى "أوتوا"، وتعرضت "لويزا" للغرق، ثم عرفت أن الأمر أكبر بكثير من مجرد مخالفات قانونية، وأن الشركة تريد أن تدمر المفاعل النووي، وتريد أكبر قدر من الخراب والموت، وكذلك "كافنديش" يتعرض للحبس فيردد عبارته البديعة: "الحرية! ذلك الضجيج الذي تضج به حضارتنا، ولا يقدر قيمته سوى من حرم منه".

وأخيراً "سونمي" ترى مراسم الارتقاء التي ظنته شيئاً رائعاً، وتمنت ذات يوم أن تصل إليه، فتكتشف أنه مجرد وهم أقنعها به المستهلكون، وأن الموضوع أخطر بكثير مما كانت تظن، إذ أنهم يقومون بذبح المصنعات وإعادة تدويرهن، باعتبارهن مصدراً رخيصاً للبروتين الذي يقدمونه في الحساء الذي تشربه المصنعات اللاتي ما زلن في الخدمة، فتتكشف لها الحقيقة دفعة واحدة، وتهتف بذعر واشمئزاز حقيقي: إنهم يجعلوننا نتغذى على بعضنا البعض.

فإذا رأى الإنسان الحقيقة، وأدرك بشاعة الجشع والاستغلال، قرر بمحض إرادته أن يخوض المعركة.

فينذُرُ "آدم" حياته لتحرير العبيد، وتنشر "لويزا" تقرير المفاعل النووي وتفضح الشركة، ويهرب "كافنديش" من محبسه، وكذلك "سونمي" تقرر أن تنضم للمقاومة وتقول لتشانج بعد أن أدركت الحقيقة: "يجب تدمير هذا النظام بأي ثمن، علينا أن نقاتل، بل علينا أن نموت إن اقتضى الأمر في سبيل أن يعرف الناس الحقيقة".

ولكن لماذا تفاقم الشر وانتشر إلى هذا الحد؟
يجيبنا الفيلم على لسان الصحفية "لويزا راي" عندما سألها جارها الطفل: لماذا تقرئين هذه الخطابات؟ فأجابته: أحاول أن أفهم لماذا نكرر الأخطاء ذاتها مراراً وتكراراً.

وقد وضع الفيلم حلقة وصل بين كل قصة وسابقتها، "فروبرت فروبيشر" يقرأ مذكرات "آدم يوينج"، و"لويزا" تقرأ خطابات "روبرت" لـ "سكسميث" وهكذا، إلى قصة تيموثي كافنديش عام 2012، حيث وصل الإنسان إلى قمة غروره ونرجسيته، وظن أنه امتلك الحقيقة المطلقة، وقاطع الماضي تماماً وازدراه، ووضع كل رهاناته على المستقبل، فكان ما كان ووصلت الحياة إلى ما وصلت إليه عام 2144، ثم انهارت الحضارة واندثرت تماماً.

نأتي هنا للقصة السادسة، قصة ما بعد الانهيار، والتي أجّلتُ الحديث عنها؛ لأني رأيت أن هذه القصة تمثل خلاصة التجربة، وعصارة الأحداث، كما تقدم كثيرا من الإجابات على الأسئلة التي طرحها الفيلم، خاصة سؤال الخلاص، وأسباب انهيار الحضارة.

نلاحظ في هذه القصة أن الإنسانية ارتدّت على أعقابها إلى قاع الانحطاط، والصراع أصبح بأوراق مكشوفة تماماً، فنجد الشيطان تجسد وظهر بوجهه الحقيقي للبشر (جورجي القديم)، وكذلك الشر تخلى عن أقنعته وتخلص عن ديباجات وشعارات العلم والتقدم، واختفت الطبقة المحظوظة التي تجنبت الصراع في السابق، وتحققت مقولة الشيطان وصار "الضعفاء مجرد لحم يأكله الأقوياء".

"ذاكري" بطل هذه القصة ليس لديه وحمة مما يرمز إلى أنه ليس لديه إيمان، وبالتالي فهو أناني وليس لديه استعداد للتضحية، وعندما هجم الـ "كونا" عليه، وعلى زوج أخته وابنها اختبأ خلف صخرة متجاهلا الاستغاثات، وحين وسوس له جورجي الشيطان بأن عليه الاستمرار في الاختباء لأنه في أمان صدَّقه.

بعدها أتت "ميرونيم" التي تنتمي لجماعة اسمها المتبصرون، وهم بقايا من نجا من انهيار الحضارة وما زال لديهم بعض التكنولوجيا والعلم، كما أنهم رأوا الأحداث بأعينهم ووعوا الدرس جيداً، وقد أتت لمحاولة إنقاذ قومها عن طريق إرسال رسالة استغاثة.

إذن أين الخلاص؟
أثناء رحلة "ميرونيم" و"ذاكري" - الذي تخلى عن أنانيته بفضل حبه لابنة أخته - إلى الجهاز الذي سيرسلون منه الاستغاثة، يظهر طريق الخلاص من خلال رموز واضحة الدلالة، حيث الجهاز نفسه على قمة جبل لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال طريق واحد فقط، هذا الطريق يسكنه الشيطان ويمنَعُ أي شخص من تجاوزه.

كما أن "ميرونيم" قبل إرسال الاستغاثة أخبرت ذاكري أن الأرض سممتها هي وأبناء قبيلتها، وأن عليها أن تبحث عن الخلاص في مكان آخر.

الرسالة نفسها أُرسلت إلى السماء، إلى المستعمرات التي أنشأها القدماء الذين عاشوا قبل انهيار الحضارة.

في رمزية واضحة إلى الدين أو الإله أو حتى المطلق المتجاوِز.

والآن وقد أخبرَنا الفيلم بطريق الخلاص يظل لدينا سؤال هام حائر.

ما الذي أدى للانهيار؟
في حوار من أعظم حوارات السينما وأكثرها تكثيفاً يجيب الفيلم على هذا السؤال في مشهد يجمع "ذاكري" و"ميرونيم" ورغم أنه ليس المشهد الأخير إلا أنني سأختم به هذا المقال.

ذاكري: ألا تخافين الشيطان؟

ميرونيم: أخاف تقلبات الطقس أكثر.

ذاكري: أنت لا تؤمنين بوجوده.. ولكن لماذا انهارت الحضارة إذن إذا لم يكن بسبب الشيطان؟

أتريد الحقيقة؟

نعم.

بسبب القدماء.

ولكن القدماء كان لديهم الذكاء والعلم.

نعم، كان لديهم الذكاء والعلم، ولكن كان لديهم شيئاً آخر.. كان لديهم الجشع.

الجشع! الجشع لماذا؟

الجشع للمزيد.