السخرية في الإخوانيات الشعرية للوزراء والدبلوماسيين السعوديين

د. هند المطيري

تعد الإخوانيات في الأدب العربي فنًّا بارزا، له خصائصه الفارقة التي تميزه عن ألوان أدبية أخرى تشترك معه في اعتمادها على التواصل والتبادل. وتهدف الإخوانيات إلى مدّ أواصر الصداقة وتوطيدها بين أديب وآخر، إلى جانب كشفها للطاقات الإبداعية التي يحشدها الأدباء لإثبات إتقانهم للمحاورات والمناظرات أمام أصدقائهم.

والإخوانيات استعمال دارج لما يتبادله الأدباء من الرسائل النثرية والشعرية، وهي مشتقة من مادة (أخا) التي تدل في المعاجم على "الأَصْدِقاء والإِخْوة في الوِلادة"[1]. ويعرّف ناظم رشيد الإخوانيات الشعرية خاصة بأنها: "شعر المودة والصداقة، الذي يُديم التواصل بين الأحباب والأصحاب، وكثيرا ما يقوم مقام الرسائل النثرية التي تكتب في مناسبات كثيرة"[2].

وتعد الإخوانيات نمطا من الشعر الاجتماعي، إذ "تصور الصلات والروابط التي تربط بين الأصدقاء من الشعراء، ويتحدث هذا الشعر بين سطوره عن الصداقة والأخوة والمودة"[3]. وهذا جانب يميز الإخوانيات عن غيرها؛ فموضوعاتها عامة تدور حول علاقات الشاعر الاجتماعية وهمومه الخاصة، فتكثر فيها موضوعات المناجاة، والشوق، والتهنئة، والعتاب، والاعتذار، وطلب قضاء الحاجات، واستعارة الكتب، ونحو ذلك مما يدور في حياة الأصدقاء والخلان[4].

وكان أوج ازدهار الإخوانيات الشعرية في العصر العباسي، وذلك لارتباطها بطبيعة حياة المجتمع المتمدن، وما آل إليه من الاستقرار الاجتماعي والحضاري، فهي فنٌّ "يتصل بحياة الناس أوثق اتصال، فهي تنبثق من العلاقات الاجتماعية وتنهض بتصويرها وتدور حولها، وقد جاء الكثير منها ثمرة لظاهرة الصداقة التي اتسع مجالها في هذا العصر على نحو لم يسبق له مثيل، في ظل المجتمع المدني المتحضر، الذي تفيأ الشعراء العباسيون ظلاله وعاشوا في كنفه خلال حقبه الطويلة"[5]. ومن نماذج الإخوانيات الشعرية في العصر العباسي تلك القصائد التي كان يتبادلها الشريف الرضي مع أبي إسحاقَ الصابئ، وإخوانيات أبي فراس الحمداني مع شعراء عصره؛ لا سيما الشاعر المترسل أبي محمد علي بن أفلح، ومراسلات جلالِ الدين الرومي مع معلمه شمس الدين التبريزي.

ولأن الإخوانيات أدب الاستقرار والمدنية فقد ازدهر، وعُرف كغرض مستقل في القرن السابع الهجري وبداية العصر الوسيط، وكان معظم شعرائه من النخب الأدبية التي حافظت على أصالة القصيدة الفصحى، بعد أن سيطرت العاميات على الشعر والأدب عامة. ولعل من أشهر شعرائها في تلك الفترة محمد بن خليل السمرجي، ودرويش بن محمد الطالوي، وابن معصوم وغيرهم[6].

وقد عادت الإخوانيات للظهور في العصر الحديث، حيث ربطت الشعراء العرب أواصر قوية، وهموم مشتركة، فراحوا يتبادلون القصائد على امتداد الوطن العربي، فها هو الشاعر المصري عبد الله شرف يرسل القصائد لأصدقائه الشعراء في الوطن العربي الفسيح، يبثهم همومه ومخاوفه من الاستعمار الغربي، في قصائد متفرقة، قبل أن يجمعهم في قصيدته القافلة، التي جعلها قافلة شعرية إخوانية ضمت في جنباتها قرابة ستة وعشرين شاعرا من الوطن العربي، منهم نزار قباني، علي الشرقاوي، ودرويش، وغيرهم[7].

وتحتفظ الصحافة العربية ودواوين الشعراء العرب بنماذج من إخوانياتهم، مثل تلك التي كانت بين معروف الرصافي وعبد الله البستاني، وبين الشيخ ناصيف اليازجي والسيد مصباح البربير، وبين محمود غنيم وصديقيه محمود الخفيف ومحمد الأسمر، وبين جميل صدقي الزهاوي وغيره من الشعراء. وتوالت الإخوانيات بين أصحاب التوجه الواحد، كما هي الحال في إخوانيات شوقي وحافظ، وإخوانيات محمود سامي البارودي مع رفاقه الإحيائين. كما جرت بين مدارس الأدب الحديث منازعات نشرت في صورة قصائد متبادلة، فيها أخذ وردّ[8].

ورغم أهمية الإخوانيات في تمثيل ثقافة المجتمع ووصف أحواله إلا أنها ما زالت ضعيفة الحضور في الدراسات النقدية، ولعل مرد ذلك إلى سبب أو أكثر، ومن هذه الأسباب:

  • خصوصية العلاقة بين الأصدقاء التي قد لا تسمح بالكشف عن النصوص للعامة، فالإخوانيات شعر عفوي، وشخصي، وآني، ينحو غالبا نحو المهامسة بين شخصين؛ لا يقصد منه النشر أو التدوين أو التخليد[9].
  • طبيعة الموضوعات التي يتبادلها الأصدقاء الأدباء، وما فيها من المصارحة والجهر بمكنونات النفس التي لا يحسن فضحها والتصريح بها أحيانا، فـ"الإخوانيات فن من الفنون الشعرية الشديدة الخصوصية؛ لأنها تدور بين بعض الشعراء وبعضهم بتلقائية وحميمية وحريّة، وبشكل يكشف عن الوضع الشخصي للشاعر ومزاجه وطبيعةِ علاقاته بالناس والبيئة، وعن دواخله التي يُسِرُّ بها إلى أصدقائه والتي غالبًا ما تكون محجوبة عن القراء لأسباب شخصية من ناحية، ولكونها تهامسًا بين الصديق وصديقه من ناحية أخرى، وهي تكتسب حريتها من هذه الخصوصية؛ لأنها حينما تكتب لا يقدر الشاعر أنها ستنتشر يومًا ما"[10].
  • ضعف المستوى الفني لنصوص الإخوانيات، مقارنة بغيرها من نصوص الشعراء أنفسهم. فشعر الإخوانيات في مجمله حرّ إلى درجة كبيرة جدا من قيود الشكليات والمتطلبات اللغوية والفنية؛ اختلطت فيه العامية بالفصحى، والبذاءة بالبراءة، والركاكة بالجزالة، والمكسور بالموزون، والزاحف بالسليم[11].
  • النظرة الدونية للإخوانيات، كونها تُصنف ضمن ما يُعرف بشعر المناسبات، الذي لا يحظى باهتمام الدراسين وعنايتهم.

وعامة فقد ظلت الإخوانيات دائرة بين الشعراء، وكان لشعراء الجزيرة العربية نصيب وافر منها، وكانت للوزراء والدبلوماسيين السعوديين الشعراء مشاركة كبيرة في هذا الفن الاجتماعي الطريف في عصرنا الحاضر، وقد وردت معظم نصوصهم متفرقة في حوارات ولقاءات صحفية وإذاعية، بالإضافة إلى السيرة الشعرية والنثرية المطعمة بالشعر، وبعض الدواوين.

وتكمن مزية تلك الإخوانيات في كونها تمثل تجربة إنسانية عميقة، تكشف وجها آخر للسياسيين لا يمكن اكتشافه في سائر دواوينهم، فعلى الرغم مما للحياة السياسية من خصوصية وما في مشاغلها من إلزام، إلا أن الوزراء والدبلوماسيين الشعراء كانوا أكثر تبسطا وأريحية في تصوير يومياتهم وحياتهم الخاصة في إخوانياتهم الشعرية، فكانوا يتبادلون القصائد التي لا تخلو من الفكاهة والظرف.


  • [1] جمال الدين محمد بن مكرم بن منظر، لسان العرب، ط/3، بيروت دار صادر، 1994م، مادة (أخا).
  • [2] ناظم رشيد، الأدب العربي الحديث في العصر الوسيط: من زوال الدولة العباسية حتى بدء النهضة الحديثة، ط/1، الموصل دار الكتب للطباعة والنشر، 1992م، ص91.
  • [3] علي الغريب محمد الشناوي، الإخوانيات في الشعر الأندلسي، ط/1، القاهرة: مكتبة الآداب، 2006م، ص1.
  • [4] عائض الردادي، الشعر الحجازي في القرن الحادي عشر. ط/1، جدة: مكتبة المدني، ص371.
  • [5] محمد عثمان الملا، الإخوانيات في العصر العباسي، ط/1، الدمام: نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 1412هـ، ص5.
  • [6] ناظم رشيد، الأدب العربي الحديث في العصر الوسيط: من زوال الدولة العباسية حتى بدء النهضة الحديثة، ص91.
  • [7] انظر القصيدة في ديوانه القافلة، ط/1، سلسلة أصوات معاصرة، الزقازيق، 1984م، ص5.
  • [8] انظر النماذج عند: خالد القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ط/1، جدة: الكتاب رقم12 لاثنينية عبد المقصود محمد سعيد خوجه، 1998م، ص11، وما بعدها.
  • [9] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص9.
  • [10] عزة محمود عبد الرحيم الشاعر، الإخوانيات في سقط الزند. مجلّة كلية دار العلوم جامعة القاهرة، (أغسطس، العدد (94)، 2016م)، ص441.
  • [11] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص9.

ومن نماذج الإخوانيات الساخرة للوزراء والدبلوماسيين، تلك القصيدة التي دارت بين معالي الدكتور غازي القصيبي وصديقه الأديب خالد القشطيني، وفيها أن القشطيني اقترح في زاويته (صباح الخير) التي كان يكتبها بشكل يومي في صحيفة الشرق الأوسط تجريد القصيبي من ألقاب الشاعر، والدكتور، ومعالي الوزير، وسعادة السفير، والاكتفاء بوصفه بالظاهرة، مؤيدا مقترَحا كان قد طرحه الشاعر السوداني الطيب صالح حول هذا اللقب للقصيبي، فرد القصيبي على المقترح بقوله:

ســـَـامـحـــــكَ اللــهُ أبــــا نـــائـــــلٍ

عـــــــــــلامَ أســـْميــتنـي ظــــاهـِـرةْ؟

ما كنـــتُ إلا قــــارئـــًــا جــــائـــعــــًا

يسكـــنُ فـــــي مكتبــــةٍ عـــــامــــرةْ

ما لـــي هــــوايــــاتٌ فألـــــهُو بـــهـــا

وليــــسَ لـــي تــجـــارةٌ حـــاضـــــرةْ

مـــن مكتــــــبٍ لمكتـــــبٍ رحلـتـــــي

والنــــاسُ بيــــن الهنـــدِ والقــاهـــرةْ

أكتــــــبُ، أو أقـــــــرأُ ما لــي هـــــَوىً

فـــي كــُـــرةٍ تُــــركــــل أو طـــــَائــِـرةْ

ولســـتُ مــن جمــــــاعــــةٍ أولِعُـــــوا

بلعــــبـــــةِ الشــــطــرنجِ والبـــــاصرةْ

ولســـــتُ أجـــــرى كمجـــــانينهـِـــــم

فـي الشـمـسِ أوفـي اللـيـلـةِ المـاطــرةْ

ولا أقضّــــي العــــمــــرَ مـــن سهـــــرةٍ

فــــاخـــرةٍ لســــهـــــرةٍ فــــاخـــــرةْ

أجــــمــــلُ سَهراتـــي التــــي تنتـــــهـي

قبــــلَ قـــــدومِ الســـــاعةِ العــــاشرةْ

آوي إلــى المـخــــــدعِ مـسـتـصـحـبًــــا

مـــا يـكــتــبُ الشـــاعـــرُ والشاعـــــرةْ

لا أفتـــــــحُ التــــــلفـــــاز إلا لـــــكـــي

أسمـــــعَ مـــن أخــبــــارِه فــــاقـــــرةْ

وأكـــــــــره (البـــــوكسنـــــــــجَ) إلا إذا

جـــاءَ (نـسـيـمُ) القـبـضــةِ الظــافـــرةْ[12]

فــــــإن أكــــنْ (ظــاهـــــرةً) إنّــــنــــي

ظــــاهـــــرةٌ مـــغـــبـــونةٌ خـــاســـرةْ[13]

وكان أن فهم القشطيني من القصيدة أن صاحبهم يعاتبهم على استغراقهم عند زيارته والاستمتاع بحديثه لما بعد العاشرة ليلا، حيث موعد نومه، فأجابه قائلا:

سـمـعــتُ مـن قـــــولــكَ مـا ينبغـــــي

أن نتـــركَ البــيـــتَ إذ العـــاشــــرةْ

دقّـــــتْ إلـــــــى أسمـــاعِنــــا فجــــأةً

تُنـــــذرُنــــا بـخــــفّـــةٍ ســـاحــــرةْ

أن نـــقـــــرأَ التسليـــــمَ فــي ظـلّـهــــا

ونـتــــــركَ الليـــلــــةَ للــظـــاهــــرةْ

كـــلا، فلــــنْ نعبــــــأ بــهـــا مطـلـقًـــا

ولنـــعطــــها أُذنًـــا لـــهـا واقــــــرةْ[14]

وللقصيبي مع آلة العصر مواقف ناقدة أوردها في إخوانيته التي ناجى بها صديقه الأديب عبد العزيز بن محمد الذكير[15]، وفيها أن القصيبي كان يضجر بالردّ الآلي للهاتف، حين يطلب منه ترك رسالة، ويكون الاتصال ملحا وعاجلا، لذا بث صديقه هذا الهم، فجعل جهاز الردّ الآلي مثل الحاجب أو البواب الذي يمنعه من الدخول، يقول:

أيّ الـرّســـائــــل تـستــطيـــعُ وصــــولا

ولـــــديـــــكَ بوابٌ ينــــامُ ثقيـــــــلا؟

أقـــعــى عــلـى التلفــون كلبــًا ضــاريــًا

لا شــاعــــــرًا يخشـــى ولا مــســؤولا

يحــمــي الجمــيلــةَ مــن ثـقــيـلٍ بـــارد

مــن ذا رأى حـسـنًـــا يحـــبّ ثـقـيـــلا

ويـضــنّ بالـوقــتِ الثــقيــــل يُـضـيـعــُه

متـــطـــفّـــلٌ بـــزَّ الأنـــامَ فــضـــــولا

أو مــعجـــبٌ يــهـــذي ويحــســبُ أنــّه

هـو وحـــدَه مـن يعـشـــقُ العـطـبــولا

يا أنــت! هـــل غُــــــولٌ جهـــازُك، إنــّـه

بـلــعَ الرســائـــلَ، مــا أشـــدّ الغُـــولا؟!

قلنـــَـا لــه: الأمــــرُ أصبــــحَ عـــاجــــلا

فـأجـابنـــا: هـي لا تـجـيـــبُ عَجُــــــولا

أنـا راحــلٌ (جــود بــاي) تلــــك رسالـتـــي

أو فافصـــلـــي بــوابــــكِ المـخَـبـــولا[16]


  • [12] يريد الملاكم اليمني الشهير نسيم حميد.
  • [13] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص12.
  • [14] المرجع نفسه، ص13.
  • [15] كاتب صحفي ومترجم، وعضو الجمعية السعودية لكتّاب الرأي.
  • [16] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص65.

فجاءه الجواب من الذكير:

لـو يـعلـمُ (التكنيــكُ) لهـفـةَ شـاعـــــرٍ

روّى الصــــبــاحَ بشـعــــرهِ تـقبـيـــــلا

لحنـــَـى وطــــأطـــأ رأســـَـه مُتــألمــا

لـعــذابِ نَفــــسٍ قُتّــــلـــتْ تقتيــــلا

لـو كـــانَ يعـــــرفُ شــــاعرًا ومعلمًــا

أو كــانَ يفـهـــــمُ قـــدّم التـبـجـيــــلا

يــا شــاعــــرًا، ومعلـــمـًا، ومُـــدرسـًا

كـــاد المعلـــم أن يـكـــونَ رســــــولا

يا غـــازيَا في الشّعـــــرِ عفّـــــر آلـــــة

لـمَـنِ اتخـــذتَ الصــارمَ المـصـقـــولا

هــمُّ المليحــــة -يا صـديـــق- تـمـنّـعٌ

صـــــارَ الهـــوى بتمـــنـــعٍ مقـبــــولا

فـالـطـــفْ بهـا يـا شـاعــرًا وارســمْ لـها

قلبـــًا يحـــبّ الجـــادلَ العــطبـــولا[17]

ومن الإخوانيات الساخرة نصوص ذكرها الأستاذ تركي بن خالد السديري[18] مما دار بينه وبين القصيبي، نشرها بعد وفاة الأخير. منها قصيدة (فائية) طويلة يسخر القصيبي فيها من بعض الأنظمة واللوائح في ديوان الخدمة المدنية، حين كان هو وزيرا للصناعة والكهرباء، وكان السديري وزيرا للخدمة المدنية. ويبدو أن القصيبي كان قد استغرب بعض الأنظمة؛ فجاء النص مصورا ذلك، يقول[19]:

قــــلْ لــديــــوانٍ بــظُلــــمٍ عُــرفـــــا

وبتعــقيـــــدِ الأمــــورِ اتــصـــــفــــا

القــريــشــــــيّ بـــنـــى أركــــانـــــَـــه

ثـم ولــّـــى وتــولـــَى المـَـصْــرِفــا [20]

بعـــــــد أن ســلّــــم تركــــي أمــــــــرَه

بئــــسَ، يـــا إخـــــواننــــا، من خَلفــــا

ثـم كـــي يكمـــــلَ مــــن تعـــقيـــــدِهِ

نــوّبَ الدكتــــــورَ عنــــه واخـْـتفـــــى

وســــقـــانـــــا المــــــرَّ مــن أنـــظمــــةٍ

أكـــــــــلَ الدّهــــرُ عليــــهــا وعَـــفــــا

كــــلـــــما فُتــّـــحَ بــــــــابٌ مقــفـــــلٌ

ضــــربَ الدكتــــــورُ كفـــًّا أســِـفـــــا[21]

ومن الإخوانيات الساخرة تلك الشكوى اللطيفة التي بثها القصيبي صديقه تركي السديري من صديقه معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، الذي كان قد تولى رئاسة الديوان العام للخدمة المدنية بالإنابة. والأبيات فيها مجاراة لأبيات قديمة في تفسير الماء بالماء على سبيل السخرية، يقول[22]:

اللـيــــلُ ليـــــلٌ والظـــــلامُ ظـــــــلامُ

والصبـــحُ صبـــــحٌ والنــظـــامُ نــظــــامُ

إن الخــويـطــــرَ بيـنــنــــا مُــتسلــــــطٌ

ولنـــا غـــــدا ورفيقـــــــُه صمصـــــــامُ

فلـذاتُ كبـــــدي للخويطــرِ قــد سعــتْ

هــو نــاحــــرٌ ســــارتْ لــه الأغـنــــــامُ

ومن إخوانيات القصيبي الساخرة قوله مداعبا أحد أصدقائه حين علم بزواجه للمرة الثانية:

يــــا صـــاحِ إنــك قــد أخــذت قـــــرارا

منــه يـــفـــرّ العــاقـلــــــون فــــــــرارا

أتـريـــد منـي أن أجــــــيء مهـــنئــــــا؟

هـــذا انتــــحــــارٌ من يـــريـــد النــــارا؟

لـــي زوجـــة لـــو أنهـــا علـمـــت بمــــا

فكـــــرت فيــــه اغتــــالــــتِ الأفكــــارا

تبغــــي القديـمـــة والجديــــدة همـــــة

فامســـح عن السـيــف القديــم غبـــارا [23]

هذه بعض النماذج من سخرية القصيبي ورفاقه المسؤولين في إخوانياتهم، كشفت عن العلاقات الحميمة بينهم، وعما تميزوا به من الظرف وخفة الظل، كما مثلت من الناحية الإنسانية متنفسا لكثير من المسكوت عنه حين يكون الحديث مع صديق حميم.

ومن الإخوانيات المشهورة للوزراء السعوديين[24]، تلك القصيدة التي عرفت بـ(القصيدة الحبارية)، وهي مما استظرفه جلالة الملك خالد، طيب الله ثراه، وقصتها أن الملك خالد كان قد اصطحب معالي الدكتور غازي القصيبي ورفاقه؛ الدكتور عبد العزيز الخويطر والدكتور محمد عبده يماني والدكتور سليمان السليم، في مقناص، وكان للمقناص اشتراطات يعرفها من يصطحبهم الملك من المرافقين عادة، ولم يكن لهؤلاء الوزراء معرفة كافية بها، فكانت أصواتهم تعلو عند رؤية الطيور، وكانوا يشيرون إليها فتفرّ.

وتفاديا لذلك، ولعدم إحراجهم، اتفق الملك خالد مع مرافقه ابن عمار أن يعطيهم صقورا ويرسل معهم مرافقين من الأخويا إلى منطقة بعيدة ليعلموهم الصيد. وبالفعل ذهب معهم المرافقون غاضبين لمفارقة الملك، ومرافقتهم هؤلاء المبتدئين. وحصل أنهم أطلقوا الصقر الأول فطار ولم يعد، ثم بعد نصف ساعة أطلقوا الصقر الثاني ولم يعد، وبعد ثلاث ساعات كانت كل الصقور قد طارت. عندها أوهم المرافقون الغاضبون الوزراء بأنهم السبب في ضياعها، وعندها قال معالي عبد العزيز الخويطر لرفاقه: الطيور التي طارت منا غالية، فالطير منها يساوي مبالغ كبيرة، كيف تريدون منا مقابلة الملك؟ فاتفقوا على العودة للرياض بواسطة طائرات النقل. وفي المطار بعث الدكتور غازي القصيبي بقصيدة اعتذار للملك خالد يقول فيها:

أبـا بنــــدرٍ لسنـَـا علــــى الصّـيـدِ نقــدِرُ

وفيــنــَـا يمــانـيٌ وفيــنـــَا خــُـويــطــــر

فأمّـــا اليمـانـِي فهــو بالصّيــــدِ مُـولــــعٌ

ومــا زالَ مـنــذُ الصبـــح وهـــو يشــخّـــرُ

وأمـا أخــُـوه ابـن الخـــويطــــــرِ فـانثنــى

بــدربـــيــلـهِ لكـنـــــّه لـيـــس يُـبــصـــرُ

وأمــا سلــيـــمـــانُ الســلــيـــــمُ فـإنــّـه

يفـــــــرّ إذا مـا الطـــــيـــرُ لاح ويـــذعـــرُ

وأمـــا أنـــــا فاللـه يـــَعـــلـــمُ أنــّــنـــــي

غشيـــــمٌ وفــــنّ الصـيــــد فـــنٌّ يُحيِـــــّرُ

جـهـلـتُ عـلــومَ الصيــد جهــلاً مـركّـبـــًــا

فعلّمنــــي بعـــــضَ الأمـــــــورِ النـــويصـرُ

مضـــى طيرُنــا فـي الجــو خلــفَ حَبـَـــارةٍ

فـــراحَ اليمانـيْ مـــن ســــــــرورٍ يُكركـــــرُ

وقـالَ: أبشــروا بالخيــر فالخيــرُ جــاءكُـــم

سنـأكــلُ مـن لحــــــــمِ الحبــارى ونُكثـــرُ

وقــالَ: غـــداً فـي الصبــحِ كــــلّ جريـــدةٍ

ستكتـــبُ أنّـي صـــدتُ صيـــدًا وتنشــــــرُ

وفـي تـــلفـــزيــــونٍ ستــــظهـرُ صـُورتـــي

كـأنـّي -وفـي كـفّي الحــــَـبـارةُ- عنــــتـــرُ

فقـــال ســـليمـــــانٌ: أجــــلْ، ووزارتـــــي

تُمـوّنكــُـم مـــن لحــمِهــــا وتُـسـعّـــــــرُ

مضينــــا وراءَ الطّيـــرِ نصـــــــرخُ كــــلُنـــا

وكـِدنـــا عـــلى تـلك الـــرِّمـالِ نُبنــــشـــرُ

وفيصــــــلُ مــــن فـــــوق الونيت مُلثــــمٌ

ومنصـــــورُ كالمـــــارشالِ يَنهى ويَأمُـــــرُ

فـإنْ كـانَ مـن قـد أطلـــقَ الطيـــر فيصـــلٌ

فــلا شـــكَ أن الطيـــرَ بالنَّحـــسِ يُذكَــــرُ

وإن كــانَ منصـــــورٌ يقـــــــودُ ركــــابَنَـــــا

فكيـــــفَ عـــــلــــى تلكَ الحَبـارةُ يُنصـــرُ

ولما وصلت القصيدة لجلالة الملك خالد ضحك منها وهاتف الدكتور اليماني، وقال له: "ضحكوا عليكم الأخويا، بعد ما رحتوا جمعوا الصقور وجابوها لي، قالوا لي: صرفنا لك الوزراء"[25].


  • [17] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص66.
  • [18] رئيس الديوان العام للخدمة المدنية (ووزير الخدمة المدنية سابقا)
  • [19] وردت النصوص في: مقال كتبه فيصل العواضي، بعنوان (إخوانيات تنشر لأول مرة وتنفرد بها الثقافية)، الجزيرة الثقافية (السبت29 ذو القعدة 1434هـ، 15 اكتوبر2013م).
  • [20] يقصد الأستاذ عبد العزيز القريشي أول رئيس للديوان.
  • [21] يقصد بالدكتور، في الأبيات، صديقهما المشترك معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر.
  • [22] انظر: مقال منشور في الجزيرة الثقافية بعنوان (إخوانيات تنشر لأول مرة وتنفرد بها الثقافية)، ورد ذكره سابقا.
  • [23] الأبيات منشورة في مقال، كتبه حمد الماجد، بعنوان (الوجه الآخر للقصيبي)، صحيفة الشرق الأوسط، الاثنيـن 17 شـوال 1431 هـ 27 سبتمبر 2010 العدد 11626.
  • [24] جمعت أصحاب المعالي صحبة قوية، وكانوا يحفظون إخوانياتهم التي كان يسميها بالحلمنتيشيات.
  • [25] القصة والقصيدة منشورتان في مواقع لصحف عدة، وقد يسقط منها بيت أو بيتان، لكن وردت كاملة على هذا الرابط: https://oktob.io/posts/30781

ومن الإخوانيات التي دارات بين الدكتور غازي القصيبي حين كان سفيرا للمملكة لدى المملكة المتحدة، وبين صديقه معالي الوزير البحريني يوسف الشيراوي، حين كان الأخير عضو في الوفد الذي صحب أمير البحرين –آنذاك- الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفه في زيارة رسمية إلى بريطانيا. وكانت الملكة إليزابيث قد منحت الوزير البحريني يوسف الشيراوي اللقب البريطاني السامي (سير)، وكان من تقاليد المناسبة أن يسير (السير يوسف) بالعربة إلى قصر بكنغهام، برفقة سيدة من بلاط سان جيمس. ولأن العلاقة بين الوزير البحريني والسفير السعودي كانت وثيقة، فقد استغل القصيبي تلك الأحداث للتفكه من رحلة صديقه تلك، فأرسل إليه في اليوم التالي أبياتا، جاء فيها:

أجبنـــــــــي يـا ابنَ شِيـــــراوي

أسَيـــرًا صــــرتَ أم لــُــــوردا

وهــل ســرتَ مــــع الفـرســـانِ

تـحـمــي الهنــــدَ والسنــــدا

وهــل ربـطُــوكَ عنـــدَ الســـاقِ

ربطـــًــا أحْـكَــــمَ الشـــــــدّا

رأيتــــُكَ تــــركــــبُ الحنطـــورَ

فـــي المــــوكـــــبِ مُعتــــدّا

كـأنّـــــكَ (بـاليــــــوز) الهـنــــد

أتـى يستـعـــرض الجنـــــدا[26]

ويتميز المسؤولون السعوديون في إخوانياتهم بروح إنسانية عالية، فقد صوروا من خلالها تعاطفهم مع مطالب المواطنين فكانوا يجيبون اعتراضاتهم بإخوانيات لطيفة، منها تلك الإخوانيات التي دارت بين الشاعر عبد الله بن خميس وصديقه القصيبي، حين كان القصيبي وزيرا للصناعة والكهرباء، فبعد أن تقاعد ابن خميس واستقر في مزرعته، أرسل إلى صديقه القصيبي أبياتا يشكو فيها من تأخر وصول الكهرباء إلى المزرعة ويصور حاجته الماسة إليها، يقول[27]:

علــــى الــــذُّبــــالـة، والفانــوسِ، والجـــــازِ
عِيـشـــي ظلامــكِ حتـــى يــأذنَ الغــــــــازي
إذا سألـــــتُ وزيـــــــــرَ الكهربـــــــاءِ بــــها
مـن أنجـــــــزَ النُّـــــورَ فيهـا؟ قـال إنجــــازي
وإن سألــــــتَ لمــــــاذا ظــــلّ في غَلــسٍ[28]
وادي ابـــنِ عمـــار؟ هــــزّ الــرأسَ كالـهـــازي

ويجيبه صديقُه الوزير:

أوعـــزتُ للقـــوم حتـى كــَـــلّ إيــعــــــازي
وقلـــتُ لا تتـركـــوا صَحـبــي عـلــى الجـــازِ
وقلــتُ هــــــذا خميـــسُ الشّعـــرِ جاءَكـــم
يحـــــدو الشـــــــواردَ لم تُهمـــــزْ بمهمـــازِ
أعـطـاكُـــم مــن حِسَــان الشّـعـــرِ فاتـنـــــةً
مجـــــلــــــوّةً بــيــــنَ إبــــــداعٍ وإعــجـــازِ
ومـا هجـاكُــــم، وحلــــو الطَبــــعِ شِيمُـتــــه
ولـــو هَجَـــاكــــم لذقتُــم سطـــوةَ الهـــازي
أي الوســاطـــــاتِ بيـــن النّــــاس نـافـــــذةٌ
إن الــــوســاطــــــةَ أفعـــــى ذاتَ إنـجـــــاز

ونظرا للطبيعة الودّية للإخوانيات فإنها تتيح للشاعر المسؤول قدرا من الحرية في بث مشاعر الشكوى الوظيفية لأصدقائه المقربين، وقد تصل الشكوى إلى درجة الانتقاد الصريح للذات المسؤولة أو للغير. وللجانبين نماذج كثيرة من شعر القصيبي، فقد انتقد رئيس ديوان المظالم، ووصف الديوان بالظلم والاعتداء، ولم يتحرج من إرسال هذا النقد إلى الشخص المعنيّ به؛ لأنه صديق مقرب يعلم يقينا أن النصّ والنقد المضمّن فيه من باب الطرفة والفكاهة. وفي إخوانية أخرى يسخر القصيبي من البيروقراطية المتبعة لترسية المعاملات على الشركات في وزارته (وزارة الصناعة والكهرباء)، يقول[29]:

يؤرقـنــي النـظــامُ، وكنــتَ تشـقـــى

بـــه قبــــلَ التــفــــرغِ للقــــطافِ

فبــالتبصيــم نبَــــــدأُ ثم تــــأتــــي

منــاقــصــَـــةٌ وفَتــْـحٌ للـــغِـــلافِ

ويَعـقـــبُ ذاك تقيـيـــمٌ طــويــــلٌ

وقــــدْ يــتــــلوه تقيــيـــمٌ إضافـي

فهــذا العــــــرضُ فجّ غيــــر كــافٍ

وهــذا العــرضُ غــثّ غيـــر وافـــي

وذاك العـــرضُ جــاءَ بــلا ضمـــانٍ

وذاك العـــرضُ ذو سعـــرٍ جُزافــــي

فتــرســيــــةٌ، وإبــــلاغٌ، وعـَــقــــدٌ

وتوقيـــعٌ علــى بيــضِ الصّحـــــافِ

وتسليــمُ المواقــعِ فـي الصحـــاري

علـى مـا فيــه من سُــوءِ الخـِــــلافِ

ومن الناحية الفنية فقد جاءت الإخوانيات عامة دون المستوى الفني المعروف للشعراء أنفسهم، إذ نُظم معظمها بلغة بسيطة أقرب لعامية الناس الدارجة، وتقلص منسوب الخيال فيها نظرا لاعتمادها على الواقع وارتباطها بالمناسبات، كما عانت بعض أبياتها من ضعف عروضي واضح، حتى عند الشعراء المجيدين. ولا عجب في ذلك فالإخوانيات رسائل شخصية جدا وغير معدّة للنشر، لكنها عامة تمثل تجربة إنسانية حيّة لشعراء لم نكن لنعرف شيئا عن علاقاتهم الودية لولا الاطلاع عليها.


  • [26] لقب بريطاني لسفراء الدول الأجنبية، ومعناه المطرقة الضخمة.
  • [27] القصة والإخوانيات مسجلة في بودكاست لبرنامج أشياء غيرتنا على إذاعة ثمانية، من تقديم غازي العتيبي، على هذا الرابط: https://thmanyah.com/podcasts/ashyaa/016
  • [28] الغلس: شدّة الظلمة.
  • [29] القشطيني، الشعراء في إخوانياتهم، ص104.