د. منال بنت سالم القثامي
يبدأ النصّ السردي عادة بصيغ افتتاحية مختلفة، تجذب المتلقي وتحقق الهدف التواصلي الإنجازي لفعل السرد. وفي الحكاية الشعبيّة يكون الافتتاح بصيغ وأشكال عديدة قد تطول وقد تقصر[1]. وتحظى خاصيات الإنجاز السردي في الحكايات بسلطة مميزة ضمن استراتيجيات الحكي فيها؛ لذا يجري التركيز على الافتتاح كثيرا في هذا الإنجاز. وفعل الافتتاح في الحكايات الشعبية يُعدّ شفرة مكوّنة من سلسلة الإشارات المنتظمة والمتقاطعة التي تدلّ على رسالة متماسكة ذات أبعاد جمالية، واجتماعية، وبنائية لازمت القصّ الشعبيّ الشفويّ والمكتوب في كل الأمم وعلى أساسها تتوالى ثم تتراكم الأحداث لتنفرج حلقات الحكاية بالنهاية التي تعتبر لحظة تتويج سيرورة الأحداث[2].
ويمكننا أيضا أن نَعُدَّ خواتيم الحكايات من الاستهلالات، وتحديدا يمكننا أن نطلق عليها ما يسمى "استهلالا بعديّا". ونسترجع تعريف جيرار جينيت ((Gérard Genette) لمصطلح الاستهلال بأنّه " ذلك المصطلح الأكثر تداولًا واستعمالًا في اللغة الفرنسية واللغات عمومًا، كل ذلك الفضاء من النص الافتتاحي، والذي يُعنى بإنتاج خطاب بخصوص النص، لاحقًا به أو سابقا له، لهذا يكون الاستهلال البعدي أو الخاتمة (postface) مؤكدة لحقيقة الاستهلال "[3]. واستهلال الحكاية الشعبية السعودية كسائر استهلالات الحكايات الشعبية الأخرى يرتبط بنهاية الحكاية، فتبدو عتبة استهلال الحكاية مرتبطة بعتبة الخاتمة في ذات الحكاية باعتبار النص دائرة مغلقة.
وبالنظر إلى عتبة الاستهلال بوصفها عتبة متقدّمة على النص، وعتبة الخاتمة للحكاية بوصفها عتبة متأخرة عن النص، فإن العتبتين تتّخذان شكلًا دائريًّا، حيث ترتبط نقطة النهاية بنقطة البداية وتؤسسان لكتابة لا تنشغل بالنص فحسب، بل تتعدّاه إلى العتبة التي تشكل البداية والنهاية معًا، ما يسبق النص وما هو خاتمة له، الدخول إلى عالم الخيال والخروج منه. وحين تأتي العتبات وفق هذا البناء وتتحرك في إطاره فإن ذلك يعني تعلق النص بما قبله وما بعده أيضًا[4]. وعن هذا الارتباط يرى عز الدين إسماعيل أنه "في القصص الشعبي العالمي تؤدي بداية الحكاية ونهايتها...وظيفة فنية لها أهميتها من الناحيتين المعمارية والمعنوية...فعلى أساس البداية تتوالى الأحداث وتتراكم، ثم تأتي النهاية فتكون تتويجا لهذه الأحداث. وفيما يختص بالبداية فإنّ أبرز ظاهرة يمكن ملاحظتها هي ظاهرة التعميم والتّعمية، والمقصود هو أن الحكاية الشعبية ذات الطابع الخرافي تتجنب تحديد الزمان والمكان اللذين يصنعان الإطار العام للأحداث"[5].
وتأتي خاتمة الحكاية الشعبية كبدايتها؛ فالبداية ـــ غالبًا ــــ ترفض تحديد الزمان والمكان، وتبقي الحكاية في الزمن الماضي، والخواتيم أو الاستهلال البعدي ــــ كما وسمناه ــــ له نهاية، وإن لم يتحدّد زمنها وكانت ممتدة إلى المستقبل، وتكون النهاية سعيدة في القسم الأول وقد تحمل دلالة الاستقرار والثبات والديمومة؛ مثل: "ونشأوا في ثَبَاتٍ ونَبَات ورُزِقُوا الكَثِيرَ من البَنِيْنَ والبَنَات إلى أنْ جَاءَهُم هَادِم اللَّذَّات ومفرِّق الجَمَاعَات، وحمَّلت وكمَّلت وفِيْ أُصيبع الصغيِّر دمَّلت"[6]. فلكل شيء نهاية من وجهة نظر الحكاية السعودية. والنهاية في قسمها الأول ثنائية الثبات والنبات، أما النهاية المطلقة في قسمها الثاني فهي الموت الموكول به مَلَك الموت. ويعيدنا هذا الختام إلى صيغة الاختتام في "ألف ليلة وليلة" إذ نجد شهرزاد تقول عند الانتهاء: "ولم يزالوا في عشرة ومودة إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب القصور ومعمر القبور وهو كأس الممات فسبحان الله الذي لا يموت"[7]، وهو ذات التقليد الثقافي في استهلال الحكاية الذي يتكرر -أيضًا- في خاتمتها أو استهلالها البعدي في الحكاية السعودية.
- [1] ينظر: الأنصاري (ناجي محمد): الطيرمة- حكايات من المدينة النورة: ص6.
- [2] ينظر: أشبهون (عبد المالك):خصوصية الخطاب الافتتاحي في الحكاية الشعبية: مجلة الثقافة الشعبية، يصدرها أرشيف الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر، البحرين، السنة السابعة، العدد 27، خريف2014م:ص42.
- [3] جينيت(جيرار): عتبات جيرار جينيت من النصّ إلى المناصّ: ترجمة: عبد الحق بلعابد، منشورات الاختلاف/ الدار العربيّة للعلوم ناشرون، الجزائر/بيروت، ط1، 2008م: ص112.
- [4] المفرّح (حصة بنت زيد): عتبات النّصّ في نماذج من الرواية في الجزيرة العربية (1990م-2009م): مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1 ،2019م: ص191.
- [5] عزالدين (إسماعيل): القصص الشعبي في السودان-دراسة في قضية الحكاية ووظيفتها، دار الشؤون الثقافية، بغداد، (د.ط)، (د.ت): ص25.
- [6] الجهيمان (عبد الكريم): أساطير شعبيّة من قلب الجزيّرة العربيّة، دار أشبال العرب، الرياض، ط7، 2014م، ج1: ص56.
- [7] محمد القاضي وآخرون: معجم السّرديّات: دار محمد علي للنشر، تونس، ط 1 ،2010م: ص151.