يزيد بدر السنيد
"من يتأمل الحقائق الأعمق يعشق تجليات الحياة في أوج عنفوانها، ومن يرى من العالم شيئًا يتفهم تطلعات الشباب السامية، وفي النهاية غالبًا ما تنحني الحكمة إجلالًا للجمال"
- هولدرين
عند الحديث عن النقد نجد ضرورةً تقودنا إلى فهم دلالة النقد ذاته لا من جهة أنه تثمين للشيء أو تقييم له، بل بحثا عن الأسس العميقة التي ينطلق منها كل نقد أي تلك الأرضية التي تجعل النقد ممكنًا، مع ضرورة استحضار النقد كضربٍ من التقدير والتثمين للشيء أو السلعة حتى نُقرب الصورة من خلال الرؤية الاقتصادية للعالم، لذلك ما هي تلك الأسس التي يرتكز عليها النقد؟ وما هي خاصية النقد الفني تحديدًا دون غيره؟
إن كل نقد يندرج داخل منظومة متكاملة من القيم ومن خلالها يكون تقدير الأشياء وتثمينها ممكنًا، وما أطلق عليه منظومة قد تكون عدة أشياء مثل الرؤية الميتافزيقية للعالم أو الرؤية العلمية وحتى الرؤى السحرية والدينية وغير ذلك، مع ذلك ليس الأمر بهذه البساطة أعني ليست قيم الذات هي من تحدد قيمة الأشياء. بل تتداخل شبكة متكاملة من العلل تُساهم بدرجة أو أخرى في رؤيتنا للعالم بالمعنى الشامل للكلمة، فالنقد لا ينفك عن مفاهيم عدة مثل المركز المتعالي والقواعد، فالمركز المتعالي يظهر لنا عبر التاريخ تحت مفهوم الواقع إلا أن اطلاعًا سريعًا على تاريخ العلم يكشف لنا هشاشة مقولة قوية مثل مقولة الواقع، وهذا ما يجعلنا نسأل المرة تلو الأخرى: إذا كان الواقع لا يمكن القبض عليه ومن ثم ينسحب مركز التعالي عن توجيه الذوات فكيف يكون النقد ممكنًا؟
نحن هنا نتوغل جينالوجيًّا في بنية كل نقد إلا أننا لم نتحدث بعد عن النقد الفني والذي يملك قصةً مختلفة يرويها لنا: ما طبيعة النقد الفني؟ للنقد الفني تاريخ مختلف حيث قد وُضع منذ البدء بوصفه خطابًا لا يتمركز حول الحقيقة ومن ثم هو لا علاقة له بمقولة الواقع المتعالية، يولد الفن من المخيلة ومن ثم كان عليه أن يبتعد عن الحقيقة، مع ذلك يبدو أن في الانسان ميلا ما للثبات. حيث ارتبط الفن مع أفلاطون -بوصفه أحد أهم من وضع نظرية متكاملة حول الفن- قلت: ارتبط الفن لديه بالحقيقة والأخلاق؛ فخرج الفن من قوقعة المخيلة ليرتبط مجددًا بالواقع، هنا يصير النقد الفني لا ينطلق من العمل ذاته بل يضعه على محك الحقيقة الميتافزيقية والأخلاقية وهذا ما فعله أفلاطون مع شعراء عصره هومريوس وهزيود اللذين بحسب وصفه تجاوزا على الآلهة، مع ذلك بقي الفن عصيًا على القولبة والتقنين، فالفن يُشبه كيوبيد إله الحب الذي يصور طفلًا لعوبًا ينتشل قوسه ويرتفع بكلتا جناحيه ويصوب سهامه نحو كل من يحتجزه داخل سجن التعالي، لذلك النقد الفني لن يجد أرضًا ثابتةً يرتكز عليها، وتاريخ الفلسفة بشكل ما، هو محاولة دائمة لترويض الفن ومن ثم خلق مدونة أساسية من خلالها يمكن نقد الأعمال الفنية أي تقديرها وتثمينها، بذلك نكون قد عرفنا ما هو النقد، وما خصيصة النقد الفني تحديدًا.