د. حصة المفرح
يشكل الخطاب الإشهاري خطابًا تواصليًا لم يعد مرتبطًا بالاقتصاد، والتسويق فحسب، وإنما يمتد أثره إلى الكتب؛ إذ يشير (بوتور ) إلى أن "قصة الكتاب المطبوع قد تطورت إلى شكل من الاقتصاد الاستهلاكي"[1] ويمثل غلاف الكتاب بنية إشهارية كتابية وبصرية، كما تتأثر ترجمته بعوامل كثيرة؛ تجعله هدفًا ملائمًا لدراسة خطاب الإشهار قبل الترجمة وبعدها.
وتنطلق المقالة من هذه الإشكالية؛ لتختبرها في غلاف رواية (سيدات القمر) للعمانية جوخة الحارثي[2]، التي صدرت نسختها العربية في طبعتين، كما حظيت باهتمام عالمي؛ إذ تعددت ترجماتها، وتوسعت دائرة انتشارها باختلاف المرجعيات اللغوية والثقافية، وتنوع العناصر الإشهارية في الغلاف؛ فالترجمة تصنع أفقًا مختلفًا لصياغة الخطاب الإشهاري، ومن ثم تلقيه. وقد حصدت إحدى ترجماتها (الترجمة الإنجليزية) جائزة مان بوكر لعام 2019؛ لذا سنقف على أغلفتها في محيط النشر العربي، ثم ننتقل إلى عدد من أغلفة ترجماتها: الإنجليزية، اليونانية، الرومانية، الإيطالية، الهندية، الفارسية، الفرنسية.
إذا كان الخطاب في دلالته اللغوية يحيل على التفاعل؛ فالخطاب والمخاطبة: مراجعة الكلام[3] فإنه يتخذ الصفة نفسها اصطلاحيًا، وإن تعددت اتجاهاته بحسب السياقات البحثية والنقدية التي توظفه؛ فهو عند (لويس): النصوص الاتصالية التي يفهم المتلقي معانيها، ثم يتفاعل معها بالقبول أو الرفض[4].
هذا البعد للخطاب، يجعله يتجانس مع المكون الآخر لمصطلح (الخطاب الإشهاري)؛ إذ يفترض الإشهار توجهه إلى مستهلك، يتفاعل معه أيضًا، وهو نسق تواصلي، وصناعة ثقافية؛ الغاية منها نشر ثقافة ما بين الجمهور[5].
وغلاف الكتاب المطبوع بوصفه نظامًا من العلامات اللغوية، والأيقونية (الصورة) في الوقت نفسه= يتجانس مع الإشهار؛ إذ يقوم في غلافي الكتاب (الأمامي والخلفي) على الجانبين، كما يستفيد من بُعد العلامات الثقافي؛ إذ يرى (إيكو) أنها لا تمتلك خصائص الشيء الذي تمثله، وإنما تعيد إنتاجها بناء على ما يستمد من خبرة سابقة[6]، وهذه الخبرة السابقة تمكننا من تأويلها وفق انتمائها لهذه الدائرة الثقافية أو تلك[7]. واستمالة المتلقي في كل ثقافة له خصوصيته، فمع وجود الخصائص الفردية؛ فإن الرسالة الإشهارية لا تستهدف فردًا بعينه، وإنما جماعة تمتلك مقومات انفعالية مشتركة تحدد علاقتها بالآخر، وحدود معرفتها به، وما تكون عندها من صورة نمطية، وما تريد أن تتعرف عليه خارج هذه الصورة؛ مما يحتم اختلاف مظلة التلقي.
وأغلفة الكتب واجهة أولى في التفاعل مع القراء والجمهور عامة، وتتوفر فيها جلُّ شروط الوصلات الإشهارية الحديثة؛ إذ إن المُنْتَج (العمل الأدبي بوصفه كتابًا لا نصًا فحسب) والمستهلك (المتلقي، وقد يكون عامًا ينجذب إلى الغلاف دون أن يقرأ الكتاب، أو خاصًا، يعزز التلقي الأولي بآخر عند قراءة النص) وصاحب الإشهار (الكاتب، والناشر) فكلاهما يتدخلان في الغلاف، وتصميمه، ومحتوياته. كما لا تخلو الإرساليات الإشهارية على اختلافها من الصورة غالبًا.
وإذا كان الإشهار يسعى إلى تحويل المتلقي المستهلك إلى المنتج الذي يسعى إلى إشباع معرفي يتجاوز حدود قراءة النص الأدبي الماثل في ثقافته الأصلية إلى نصوص في ثقافات أخرى؛ فإن الترجمة تصنع أفقًا مختلفًا لصياغة الخطاب الإشهاري وتلقيه، ثم إن الترجمة قد تخضع لمؤشرات غير أدبية تحكمها سياسات معينة، ليست الجودة منها؛ فهناك مناسبة الذوق، أو تحقيق غايات معينة، أو طريقة فهم مختلفة لهذه الكتب. كما أن ترجمة الأعمال الأدبية مؤشر على أهميتها واتساع مقروئيتها؛ مما يعزز خطابها الإشهاري أيضًا.
ولما كانت الكتب الإبداعية تختلف عن الكتب العلمية في أصل تكوينها وتأليفها، وفي موضوعاتها ومدى انضباطها وفق معايير معينة، أو تحررها من هذه المعايير؛ فإن الترجمة لا تخضع للشروط نفسها في الحالتين، كما أن النصوص الإبداعية هي حديث الذات التي تغدو متحولة في النص المترجم، وتتقنع بذات أخرى لا تضمن الحيادية التامة كما في الترجمة العلمية، وترتبط بقضايا ذات علاقة بالأدب نفسه مثل: ماهية الأدب، وفهمه، وآليات توظيفه[8] إضافة إلى ارتباطها بهوية المبدع وثقافته وبيئته.
- [1] بوتور، ميشيل. بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة: فؤاد أنطونيوس، بيروت: مكتبة الفكر الجامعي، د.ت. ص 112.
- [2] الحارثي، جوخة. سيدات القمر، بيروت: دار الآداب، ط 2010، ط2019.
- [3] ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار صادر، 1997(خ ط ب).
- [4] لويس، روبرت. خصوصيات الخطاب في خدمات الاتصال، ترجمة: ترماري يعقوب، بيروت: المركز الثقافي الفرنسي، 1990، ص13.
- [5] فيكتروف، دافيد. الإشهار والصورة، ترجمة: سعيد بنكراد، الجزائر: منشورات الاختلاف، 2015، ص19.
- [6] إيكو، إمبرتو. سيميائيات الأنساق البصرية، ترجمة: محمد التهامي ومحمد أودادا، دمشق: دار الحوار، 2008. ص33، ص37.
- [7] بنكراد، سعيد. السيميائيات والتأويل: مدخل لسيميائيات ش.س بورس، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005، ص118، 119.
- [8] بعلي، حفناوي. الترجمة الأدبية-الخطاب المهاجر ومخاطبة الآخر، عمان: دروب للنشر والتوزيع، 2016، ص8.