ديوجين[1] في الزورق المثقوب

عبد المنعم حسن محمد

قصائد إبراهيم مبارك مأوى للكلاب الضالة، لكن المار من أسوارها لن يزعجه النباح، لأنه عرف كيف يردعها عن مقاطعة الطيور إذا ابتدرت الغناء، ويدوزن تغريداتِ هذه لتصمتَ لحظةَ انطلاق أوركسترا أو سيمفونية مستعادة من حلم لشوبان[2] أو إحدى نوبات التجلي لشوستاكوفيتش[3].

في مدخل مجموعته الشعرية "كزورق مثقوب من جهة الغرق" يعلق إبراهيم لافتة تحذيرية شديدة اللهجة، يستهلها بلا الناهية، كأنها صادرة عن حارس الحديقة التي سيتخذها لاحقاً موقعاً لتصوير إحدى قصائد المجموعة، سأرجئ الحديث عنها إلى مناسبة أخرى أدنى المقال؛ كي لا يطول بالقارئ انتظار مضمون اللافتة التحذيرية التي تقول:

"لا تقرأني في المساء إلا بصوت خافت، كي لا توقظ الكلاب المشردة في قصائدي" صـ 13

منذ أول وهلة، يُسقط إبراهيم الكُلفة بينه وبين القارئ، في خطوة لا تُقبَل إلا مِن سائرٍ في درب شعر النثر ورهاناتِه الخارجة عن المألوف، والمنحازةِ إلى كسر أفق التوقع. فالذي يقلب الصفحة ويؤثر الاستمرار في القراءة سيوقّع على عقد ضمني مع الشاعر وينزل عند شروطه، ويتفهم نظامه القائم على تجربته من خلال هدم المثالية المعهودة من الشعراء المنتمين إلى السائد، فالشعر كما يقول صاحب ساعي بريد نيرودا، انطونيو سكارميتا: ليس ملك من يكتبه، وإنما ملك من يستخدمه.

ومن الممكن الاتكاء على العبارة التالية في بناء معيار يُستنَد إليه أثناء تناول تجربة إبراهيم في قراءة نقدية ذات بُعدٍ محدد، حيث تمنح قصائدُ المجموعةِ ذاتَها للمتلقي، وتُقدّم بسخاءٍ مقترحات لا محدودة للتأويل، رغم تبرج اللغة - إن صحت العبارة - بالقدر الذي تزيح عن النظر أعباء التريث قبل الوصول إلى غرض الشاعر، بطريقة واعية تشكل للشاعر عبئا مضافا إلى تكاليف إتقان صنعته، عندما لا يمنح الشاعر نفسه حق التغاضي عن العبء أمام إرهاق الضغط على جهاز الشعور.

لكن جملة العنوان تحيل إلى غير ما ذكرنا؛ فباعتبار العنوان عتبةً ترقى إلى رتبة القصيدة الأولى - كما ترقى عناوين القصائد إلى رتبة البيت الأول - نرى الشاعر يكتفي بركنين فقط من أركان التشبيه، ويرمي الباقي في البحر، في تماهٍ طريف مع فكرة الغرق، كأن ما أدركَه القارئ من الجملة قد نجا في اللحظة الأخيرة، بعد أن ابتلع الثقب نصف عناصر التشبيه؛ فالابتداء بأداة تشبيه، وربطها بالمشبه به، والاكتفاء بذلك دون إيراد المشبه ووجهِ الشَّبَه، فِعل يؤدي إلى تقديم الحالة وقد استوفت جميع المؤكِّدات على البلل، فمِن أي صراعٍ نجا الزورق المنهك؟ وما البرهان على النجاة غير هذا العنوان الخديج؟!

عَبْر كلماتٍ شحيحة، يُقَطِّر إبراهيم محتوى وجدانه، كأنه يهيئ القارئ لراحة أكبر، ومستوى أكثرَ رحابة لتلقِّي تنويعاتِه الشعورية بعد أن يتجاوز الغلافَ ويبحر معه في لغة هادئة لا تُثقَب في عُبابها الزوارق.


  • [1] ديوجانس الكلبي (421 - 323 ق م) فَيلسوف يونانِي، وأحد مؤسسي المدرسة الكلبيّة الأوائل.
  • [2] فريديريك فرانسوا شوبان ‏(22 فبراير 1810 - 17 أكتوبر 1849) هوَ مؤلّف ومُلحّن موسيقي في الفترة الرومانسية بولندي الأصل.
  • [3] دميتري شوستاكوفيتش (1906-1975) نابغة موسيقية من أشهر الموسيقيين في القرن العشرين.

والتماسا للتسلسل، أو براعة الاستهلال، تأتي القصيدة الأولى في المجموعة على هيأة الفصل الأول من كتاب السيرة الذاتية، مع دافعٍ يُؤجّله الشاعر إلى السطر الأخير من النص، يتصل بمبدأ قتل الأب، ذلك المفهوم الذي يرمز في الأدب والفن إلى التجديد، والخروجِ من معطف غوغول - حسب تعبير دوستويفيسكي - وقد آثر الشاعر الثورة على الأسلاف، حالَ الرواد ومؤسِّسي مدارس الفن في القرن العشرين، كالانطباعية والتعبيرية والسريالية والدادائية...الخ. عمد إلى تقديم آبائه إلى القارئ ليتعرف إليهم وجها لوجه، ويزداد معرفةً من خلالهم بمُنشئ النص، أو الكائن الذي أُسنِدَ إليه الاستفهام التالي:

"إذاً فلماذا ولدتُ وبيدي مطرقة
ومسمار أخير في نعش العالم؟"
صـ 16

وإذا لم يكن الأب نجاراً، ولا الجد حطّاباً، فمِن المحتمل أن يكون الوراثُ صانعَ النعش الذي يحمل إرث الأسلاف إلى مثواه الأخير، إيحاءً بالتفرد وإشادةِ عالم جديد أكثر حيوية. هكذا تصاغ قواعد مختلفة للفن على هوى الفنان.

ولكي يمعن الشاعر في إنجاز مهامه على الوجه الذي يُرضي الفن، فلا غنى له عن العزلة، لا كصاحب رسالةٍ يتوجب عليه أداؤها لإنقاذ حيرة الأتباع؛ وإنما كمهموم بغياب التلقائية.

"أحتاج مصابيح العالم لأختبر الضوء النادر المتناسل في العتمة
ضوء يعكس جلال الأشياء في دهشتها الأولى
حيطته غموضه، يشير إلى الأشياء ولا يتحدث
محكم كالدهشة، مكتنز بالفضيحة، وآيل للتشاكل،
تساميتُ كالغبار لأكتشفه وكالقربان؛
لأحقن رغبة الفراشات الظامئة إلى حتفها من فرط العتمة
ما من ظل يورثه للعزلة
ما من عزلة تورثه جسدي المتهم بالقشعريرة
المنفلت من وصاية المصابيح"
صـ 22

إنه الهم الذي تلبّس ديوجين، حين كان يحمل مصباحاً في يديه، ويجول وسط الناس، والشمسُ تتوسط السماء، وكلما استوقفه أحدهم وسأله مستنكراً: لماذا تحمل المصباح والشمس تتوسط السماء؟ أجاب بأنه يبحث عن إنسان.

غير أن الشاعر كان في طور آخر من البحث، كان يبحث عن عزلة وسط ضجيج الأضواء.

"يتهجى ضوءاً لا يراه
من فرط الوهج"
صـ 23

وليست ثيمة المصابيح وحدها ما يستدعي ديوجين في ساحة إبراهيم الشعرية، فثم مشتركات عديدة تجمع بين موقف الفيلسوف وموقف الشاعر، أوضحها تلك النزعة العالمية، والانحياز إلى المهمشين، واستضافة الكلاب في صالة اللغة.

يقول ديوجين: "الكلاب الأخرى تعض أعداءها، أنا أعض أصدقائي لأنقذهم". ويقول إبراهيم، في وارد المقارنة بين الكلاب الضالة وذاته الشاعرة: "شيء وحيد، يجمع بيني وكلب شريد..كلانا يحب التسكع"[4].

اختار إبراهيم طريقة أداء، يبث عبرها أغراضه، وما كان له أن يبتعد عن أكثر الأُطُر تأثيرا في المتلقين، وهو أسلوب قصص الحيوان، ذي البنية الأسطورية، والذي أُنتِجَت من خلاله روائع حملت الحكمة والمتعة عبر الأجيال، ولا تزال فاعلة في خدمة الهدف الإنساني. فمِن ذكاء الشاعر أن يقارب هذا الأسلوب بالذات، فنراه في نص "كآبة دب الباندا" صـ 53 يصل إلى عمق التعاطف مع وحدة الكائن المهمش، بغض النظر عن نوعه، فكل همه أن تظل أصالة الحس الإنساني حية، دون تفريق بين المخلوقات.

"ولكن لم يسأل أحد ما لذي سيجعل دب الباندا القابع أقصى عزلته سعيدا لخمس دقائق على الأقل، لم يتذكر أحد أن يسأل عنه حارس الحديقة...كم تبقى من إخوته حول العالم، ولم يسأل أحد الحارس لم أنت كئيب كذلك، لم تجلس في زاوية الحديقة كحيوان نادر ووحيد." صـ ٥٣

وبذات الحساسية يحاور إبراهيم عناصر الطبيعة، ويمنحها أدوارا في أفلامه التي ينتجها على شاشة النص الشعري، فتصنع الحجارة مشهدا يتكامل مع عبور امرأة في شارع مجهول، وتندلع موسيقى تصويرية، أو تكف عن الانطلاق ريثما يستعيد المُشاهد أنفاسه.

"لم يفهم أحد حينما اجتازت فتاة ما،
شارعا مزدحما
لمَ توقفت المركبات والعابرون وإشارات المرور
إسكافي كهل جالس على الرصيف
خاط يده عوضا عن الحذاء
أغان تنبعث من اسطوانات كسيحة
كفت عن الهذيان
حجر تعثرت به؛
قذفه رجل المرور في الحبس
ريح لمستها؛
دفعت غرامة العطر الذي سرقته،
حتى الشعر
رتب ياقته وانحنى
إلى أن عبرت الرصيف المقابل."
صـ 32 قصيدةُ غزل، لكنها تتسع لمؤدين متنوعين، واجدين فيها أدوارا للبطولة، تُسلَّط عدسة الشاعر على مكوناتها بوضوح يفي بحق التأثير.

بين دفتي كتاب إبراهيم مبارك الصادر عن دار ميلاد، سنة 2018 م تكمن للقارئ نصوص شعرية تتراوح بين القصير والمتوسط، وتنطوي على توق لافت للتجريب واجتراح عمود خاص لشعر النثر، يسعى إليه الشاعر من خلال توظيف الفنون البصرية والسمعية، ويستمد من ذخيرته الروحية مصدره الأساس، وله أن يراهن على تجربته في إقناع المحجِمين عن القصيدة الحديثة، وعلى الثقة في همه الذي يشترك فيه مع ديوجين الكلبي.


  • [4] يقيس الأزقة بالذكريات/ ديوان شعر. إبراهيم مبارك.