الحضور الخاص للنعناع على مائدة الشعراء العرب

أسيل سقلاوي

المقدمة

ظلَّت الأرضُ كلما رَبَتْ وأنبتَتْ من كل زوجٍ بهيج، مما يخضرُّ ويصفرُّ، ماثلةً في مخيّلة كل كاتب، بين متقنٍ يختارُ ما يقطفُ وبين سالكِ ليلٍ حاطب، ولم يزل الشعرُ يقتاتُ على نباتٍ لا تأكله السباع، باحثًا في البراري والبطون والظهاري والقفار، فأصابَ الرّمانَ والسنديان والزعفران والنعناع، هكذا اختارَ الشعراء دلالاتهم وتشبيهاتهم في الوصف لبلوغ الجمال، يؤثثون قصائدهم بما أثثت الأرضُ فضاءاتها الواسعة، ويسقونها بماء الوصف والخيال كما تسقي السماء كل ذلك النبات.

وسنحاول في مقالنا هذا المرور على نماذج شعرية حل النعناع ضيفًا عزيزًا عليها، وحمّلها من وجوهه اللطيفة ما يبهج الناظر والسامع والمتلقي.

يأتي النعناع على شكل "مثلث الحب" كما تقول الأسطورة اليونانية، والنعناع البقل كما يقول ابن بري، وهو النبات الغض الناعم في أول نباته قبل أن يكتهل على حد قول أبي حنيفة، ويقالُ رجلٌ نُعنُع أي طويلٌ مضطرب.

والنعناع أو النَعنَع أو النُعنُع، كما جاء في لسان العرب لابن منظور، عُرِف كثيرًا لدى الإغريق والرومان حيث كانوا يضعونه في احتفالاتهم على شكل أكاليل فوق رؤوسهم، ويحضر في ولائمهم وعلى موائدهم، ويستعمله الأطباء في وصفاتهم الطبية، واستخدم قدماء المصريين النعناع المجفف في الأهرامات، وله قابلية كبيرة على الانتشار بشكلٍ طليق، هذا بالإضافة إلى رائحته الجاذبة العطِرة التي تساعد على التخلص من القلق والإرهاق وفوائده التي لا تعد ولا تحصى.

أما التَّنَعْنُعُ فهو التَّباعُدُ؛ كَما قالَ ذو الرُّمّة:

على مِثْلِها يَدْنو البَعِيدُ، ويَبْعُدُ الـ
ـقَرِيبُ، ويُطْوَى النازِحُ المُتَنَعْنِعُ

نماذج شعرية

ارتبط النعناعُ بالطبخ بصورةٍ مباشرة حيث كان الطهاة يضعونه في المرق وفي خلطات الأطعمة وتزيين الأطباق وخاصة السلطات والتوابل ويفضّل في هذه الحالة أن يكون النعناعُ طازجًا أخضر، وهذا ما لمسناه عند شعراء العصر العباسي إذا رجعنا قليلًا للوراء، فعلى سبيل المثال لا الحصر يقول أبو طالب المأموني:

طرا طارئ عند العشاءِ فجئته
بقرص غضيض من شواء ابن زنبورِ
تخال قطاع المسك رصّعَ رصفها
بفيروزج النعناع في صحن كافورِ

وفي قصيدة "يا سائلي عن مجمع اللذاتِ"، عند ابن الرومي وهو شاعر عبّاسي أيضًا، يقول في بيتٍ له:

إعجامُها الجبنُ والزيتونُ
وشكلُها النَّعنعُ والطَّرْخونُ

فنلاحظ حضور النعناع على مائدة العشاء والشواء وجاء أيضًا برفقة الجبن والزيتون وارتباطه مع الطرخون لاشتراكهما بالرائحة الطيبة وخضرة أوراقهما اللذيذة التي تؤكل مع الطعام، أما عن علاقة النعناع والكافور، فكلاهما يتحولان إلى زيت ويستخدمان كوصفاتٍ طبية للتخفيف من الآلام.

وبخطوة متقدمة، باتجاه العصر المملوكي يستقبلنا ابن سودون بالعطر قائلًا:

وعطّر الأرض نشر الفول حين سرت
نسيمه سَحَراً منه لتُحييني
كأن زهرته أمّ الخلول إذا
فلقتها فوق نعناع بصحنونِ

وهنا يأتي النعناع رمزًا للترحيب والتهليل والاستقبال، برائحته المنعشة التي تفتح ذراعيها لاستقبال الضيف وإقرائه، هذا العطر الساحر الذي يُحيي الأرض اليباب، وورقته الخضراء اللذيذة التي تؤكل مع طبق أم الخلول، وهو عبارة عن حيوان بحري يُملّح ويصيرُ جاهزًا للأكل.

وإذا انتقلنا بالقافلة نحو العصر العثماني، نلتقي مع موسى بن عبدالله الدهمراوي في ملحمته الشعرية الطريفة ضمن كتابه "نزهة القلوب في لذة المأكول والمشروب"، واصفًا فيها أصنافًا متعددة من الأطعمة المعروفة في مصر، في سياق وصفه لطبق "المنتو" مستحضرًا أوراق النعناع من دون عروقها مع قليل من الفلفل ليضعها فوق اللحم والدهن فيدعونا بعدها لمائدته الشهية قائلًا:

وباكِر إلى لحم سمين وجرة
إلى أن يصير اللحم والدهن كالسِلا
وخذ ورق النعناع واترك عروقه
واخلط عليها الآن إن شئت فلفلا

وفي هذه النماذج التي عُرضت، جاء النعناعُ مرتبطًا بالأكل والعطر والخضرة وزيتًا للتخفيف من الآلام، فلم يخرج عن سياقه العام ومدلوله الواضح والمباشر.

أما عند شعراء العصر الحديث فالأمر مختلف تمامًا، بعد أن شهدنا حضور النعناع بقوة وتوظيفه اللافت ليؤدي دورًا بطوليًا على مسرح القصائد، فكانت له مدلولات متعددة، ذهبت أبعد بكثير من المعنى المباشر المحدد، لتنتنشر في مشارق الفكر ومغارب الخيال، فَجاء النعناع رمزًا للحب وعطرا للحبيبة ورمزًا للأمل والشفاء من الجراح والعودة إلى الحياة وعلامة للتمرد والاشتعال وغيرها من المدلولات التي سنأتي على ذكرها.

ارتبط النعناع بصورة أولى مع الشاي، فهو يجعل منه مشروبا دافئًا ولذيذًا ذاع صيته في العديد من المدن العربية كالمدينة المنورة وبلاد الشام وغيرها، وفي قصيدةٍ ظريفة عن الشاي والنعناع، تتناقلها الألسن والصفحات، للشاعر المصري أحمد علي سليمان عبد الرحيم يذكر فيها فوائد النعناع الطبية في التخفيف من آثار الصداع ومذاقه الطيب المنعش الذي يمنح الجسمَ جرعةً عالية من الحيوية والنشاط فيقول:

نعنعْ كؤؤسَ الشاي قبل شرابها
لا خيرَ في شاي بلا نعناعِ
فالشاي بالنعناع أطيب ما احتسى
عبدٌ أصيب بغصةٍ وصُداعِ
واسأل عن النعناع قوماً طبّبوا
فيما مضى في هذه الأصقاعِ

ثم نذهب إلى محمود المشهداني وهو شاعرعراقي، حيث جعل من النعناع مدخلًا لاستحضار الحبيبة، التي تحتل المساء بعطرها فيتمرد ويندى، ويغدو الشاعر مشتعل الفؤاد، يمتدُّ في ليل الحبيبة مثل النعاس، ينامُ مفترشًا بخياله أنفاسها، مستضيئًا بوجودها معه، حالمًا باللقاء، يقول في قصيدة "ودائع النعناع":

لودائعِ النعناع كنزٌ من ندى
إن لامستْ روحَ المساءِ تمرَّدا
أمتدُّ في آفاقها مثل الكرى
إن صافحتْ كفّي تحوَّلَ موقِدا

محمد عبد الباري وهو شاعر من السودان اتخذ من النعناع رمزًا للصداقة والأصدقاء الحقيقيين، وأعطى للنعناع روحًا إنسانية عالية تمثلت بالضحكة التي تعبر عن الفرح، مشيرًا بصورةٍ غير مباشرة إلى صداقة النعناع مع الشاي والذي يحلو شرابه بحضور الأصحاب المقرّبين.

يقول في قصيدته المُعَنوَنة "مرثية للقادمين من الموت":

والعنيدونَ إذا ما مسّنا
بردُ كانون قدحنا شمسَ آبْ
والقريبونَ إلى الروحِ إذا
ضحكَ النعناعُ في شاي الصحابْ

وفي قصيدة "بائعة النعناع" للشاعر الموريتاني الشيخ نوح يأخذ النعناع شكل ضمادٍ للجراح ومرهمًا يخفف من وطأة الحروق، وزيتًا يضيء كوخ المساكين وأحلام الفقراء، وإضافة النعناع إلى الشاي تجلو حزنه وتمسح دمع الوحدة عن وجنة الإبريق، فيقول:

والعابرون إلى الأحلام لم يقفوا
حيث البساطة للأحلام تُبتدعُ
لم يرشفوا حزنها في الشاي - يعبق من
كأسٍ ودمعةِ إبريقٍ - إذا اجتمعوا
مرّوا على كوخها المسكين يأكُله
ذئب الظلام فما ضاعوا ولا سَطَعوا
وحين شبَ حريقُ الشاي في دمِهِم
مرّوا على جرحِها النعناع فانزرعوا

أما الدكتورة عائشة الشامسي، وهي شاعرة من الإمارات فتنقل لنا صورة واقعية حيّة عن حدائق النخيل والحقول الخضراء التي تجسّد البيئة الأصيلة التي تنتمي إليها، فيغدو قلبها حديقة وفمها غابة تفضي إلى غابة، تسرح وتلهو في الحقول بكل فرح، تقطف نعناع المعنى المعتّق بذكريات طفولتها البريئة وتشربه مع شاي خيالها المتوهج حنينًا وأملًا وشِعرًا فتقول:

كان قلبي حديقة من نخيلٍ
وفمي غابةً تقود لغابه
أقطفُ النعناعَ المعتق معنىً
كي أرى في كأسِ الحقول شرابه

يحضر النعناع في لبنان بصورة خاصة، فتكاد لا تخلو مائدة طعام منه ولا حديقة ولا حتى ذاكرة..ولهذا كانت علاقة الشعراء بالنعناع ذات طابع مميز ورؤيتهم له مختلفة.

ومن لبنان نلتقي مع الشاعرة حنان فرفور، التي يتحول النعناع في مخيلتها إلى مرآة، تعكس هموم الشاعر وتطلعاته إلى المستقبل البعيد، وتمثل عروق ورقة النعناع الخدوش التي تعرضت لها المرآة أي الذات الشاعرة من أثر الطعن والعقبات التي تواجهها في مسيرتها الشعرية، إشارةً منها إلى الجراح العميقة التي كلما أيقظناها، فاح منها الشعر، فتقول:

شاعرٌ كوّر بطن الأرض قالوا:
مسّها الجنُّ وكانت قبل لمّا
علّقوه فوق نعناع المرايا
لم يَفُح إلا خدوشًا كي يُشمّا!

ونختم شواهدنا الشعرية مع الشاعر اللبناني الشاب حسن المقداد، في قصيدته "وترٌ سادس" من ديوان "صبا" حيث يجسّد ببيتٍ واحد الحضور الدائم للنعناع وكأنه فردٌ من أفراد الوطن، يفوحُ عطرًا سواءً أكان مقيمًا أو مغتربًا عن الأرض، مرتبطًا بالحبيبة التي تسكن القلب دومًا ولا تغيّبها المسافة ولا الأزمان ولا حتى الظروف الصعبة، فيلقي التحية والسلام على نعناعها قائلًا:

على نعناعكِ الأعلى سلامٌ
يرشُّ العطرَ غادرَ أو أقاما

الخاتمة

خرج النعناع من الدائرة الضيّقة في كونه مجرد نبات أخضر له عطرٌ جاذب ومذاقٌ حلو وفوائد طبية، بل توسعت آفاقه وتعددت مدلولاته، فكانَ حمّال أوجه، بابًا مشرعًا على الرؤى والتأويل، يغني المتخيل بالصور والتشبيهات، مما أعطى للشعراء فرصة التحليق عاليًا في فضاءات الدهشة وسماوات الإبداع، فجاء رمزًا للحب والصداقة والعودة إلى الحياة ومرآةً تعكس ما تخفيه الذات من مشاعر وهموم وسلاحًا لمواجهة الفقر وتعويذةً للشفاء من الجروح والحروق والآلام، فالنعناعُ عند الشعراء صوتُ الحاضر الوارف وصدى الماضي المحمّل بالذكريات.