من يخاف فرجينيا وولف؟

تشريح زواج مفترض

إيمان العزوزي

كتب المسرحي الروسي (تشيخوف) في رسالة إلى صديقه الكاتب (غوركي): " هكذا هي الحياة، لا يُقدم الناس على قتل بعضهم بعضا، أو ينصبون المشانق، أو يعترفون بغرامهم، أو يتبادلون الانتقادات اللاذعة. إنهم يأكلون، يشربون، يغازلون، ويتحدثون عن كل شيء ولا شيء، وهذا ما يجب أن يظهر على المسرح، وفي خضم ممارساتهم تلك، فهم يغامرون بسعادتهم أو دمارهم الشامل"، وفق هذا الحس التشيخوفي يمضي (إدوارد ألبي) في تصوره للمسرح، خاصة مسرحيته الأشهر "من يخاف فرجينيا وولف؟".

ولد (إدوارد هارفي ألبي) سنة 1928م، العام الذي سبق الكساد العظيم، وبعد ولادته تخلى عنه أبواه وتبنته عائلة ثرية تدير عدة مسارح وصالات سينما في نيويورك، نشأ في بيئة فنية غنية بالدراما والعجائب التي تفضح الحياة الأمريكية، وعلى الرغم من تعثره الدراسي، دأب (ألبي) في سن مبكرة على كتابة القصص والشعر، لكنه سرعان ما تحول إلى المسرح حيث أظهر موهبة استثنائية في كتابته. يعد (ألبي) من أبرز أعلام المسرح الأمريكي في عصره، وقد نال جوائز مهمة على رأسها جائزة "البوليتزر" ثلاث مرات عن أعماله "توازن هش" سنة 1967م، و "مشهد بحري" سنة 1974م، و "ثلاث نساء طويلات" سنة 1994م وهي المسرحية التي جسد فيها علاقته المتوترة بوالدته بالتبني، التي سبق وطردته من بيتها وحرمته من الميراث وهو لمّا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.

استلهم (ألبي) تقنياته المسرحية من مسرح "اللامعقول" الأوروبي، الذي روج له (يوجين يونسكو) و(صامويل بيكيت) وآخرون، حيث تخلى هؤلاء عن الأساليب التقليدية في الدراما وسخروا من منطق أرسطو، سمح المسرح الطليعي للشخصيات بتجاوز القيود والغايات متحررةً بالتالي من الصراعات والحلول التقليدية، كما تأثر (ألبي) بفلسفة الوجود لدى (جان بول سارتر) التي ترى الحرية والمسؤولية جوهر الوجود الإنساني. شخصيات المسرح الوجودي تتخبط في دوامة من المشاعر المبهمة والمشحونة نتيجة الحرية التي تتمتع بها، مما يسقطها في مشاعر الذنب والقلق والرغبة في التمرد والصدام. وبينما استوحى (ألبي) من الأوروبيين الصنعة والموضوع والشكل، فإنه أضاف إلى مسرحياته اللمسة الأمريكية الخاصة مانحًا أعماله طابعًا فريدًا وأصيلًا. وقد مهدت أوروبا شُهرتَه حيث عُرضت باكورة مسرحياته "قصة حديقة الحيوان" -لأول مرة- في برلين الغربية، ومنها انتشرت أعماله عبر العالم وصولًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

من عالمه الأرستقراطي إذن انخرط (ألبي) في الكتابة، مقتفيًا أثر الأب الروحي (يوجين أونيل) مجدد المسرح الأمريكي وباني قواعده، ورفقة معاصريه أمثال (تينيسي وليامز) و(آرثر ميلر)؛ أحدث ثورة في المسرح بإدخال نفَس جديد يتحدى ثقافة الاستهلاك ويهدم الفواصل الممكنة بين الخيال والواقع، يرفض (ألبي) الفصل بين الحقيقة وأقنعتها ويسبر أغوار العلاقة المعقدة بين الظاهر والباطن في مسرح الحياة، كما استثمر الخيال في لعبة ماهرة لاستفزاز هذا الواقع وجسده عبر تمثيلاته المتعددة، النفسية والاجتماعية، ليصل إلى عمق أزمة الفرد المعاصر ويفككها أمام المُشاهد، كما جدد بنية المسرحية نفسها حيث تراوحت أعماله بين مسرح الفصل الواحد ومسرح الفصول الثلاث، ومن خلال استعارات الألعاب وتجسيدات اللغة وتناقضاتها ينثر (ألبي) في مسرحياته عناصر الغموض والشعر والحكمة والكوميديا والشفقة مهيئًا الأرضية لتجربة حقيقية تفتح الباب أمام رؤية إنسانية تتوج بتجربة جمالية باذخة ونزوع نحو التطهير كما هو متعارف في عالم المسرح.

تعد مسرحية "من يخاف فرجينيا وولف؟" أشهر ما كتب (ألبي)، مع أنها لا تعدُّ أفضل أعماله، عُرضت أول مرة سنة 1962م على خشبة مسرح "بيلي روز"، ولاقت استحسانًا كبيرًا من طرف الجمهور والنقاد، وتم نشرها في نفس السنة ونالت إعجاب القراء أيضًا، وقد فازت المسرحية بجائزة "توني" لأفضل مسرحية سنة 1963م كما حصلت على جائزة دائرة نقاد الدراما في نيويورك. على الرغم من ميل (ألبي) نحو المسرحيات ذات الفصل الواحد، متأثرًا بالمسرح الأوروبي كما رأينا، فإنه فضّل في هذا العمل العودة إلى البنية التقليدية المكونة من ثلاثة فصول، محافظًا على قاعدة الوحدات الثلاث الأرسطية المتعلقة بالحدث والزمان والمكان. وقد ابتعد عن أفكار (بيكيت) و(يونيسكو) مركزًا في بناء الشخصيات حول الحدث الرئيس وتطويرها بناء على ذلك، ولكنه جدد في أسلوبه هذه المرة مستلهمًا مدرسة تداعي الوعي الأوروبية التي تبنتها كل من (فرجينيا وولف) و(جيمس جويس) والفرنسي (مارسيل بروست)، ويظل العنوان الذي اختاره (ألبي) لهذه المسرحية عتبتنا الأولى لفهم علاقته بهذه المدرسة الأدبية، وبالتالي فهم جوهر المسرحية نفسها.

بلا شك، لعب العنوان اللافت دورًا في جذب انتباه المتلقي وزيادة شهرة العمل، يذكر الكاتب أنه ابتكر العنوان بشكل عفوي وهو جالس في أحد البارات، عندما استوحى فكرته من جملة في أغنية معروفة أنتجتها شركة ديزني "من يخاف الذئب الضخم الشرير؟ Who's Afraid of The Big Bad Wolf? "، سيلاحظ المتلقي بسهولة اللعبة اللغوية الذكية التي ابتكرها (ألبي) حيث يتطابق نطق كلمة "ذئب Wolf" مع اسم الكاتبة "وولف Woolf" مع ما تحمله الكلمتان من إحالات فورية إلى ثيمات الخوف والرهبة والقلق والوهم. وعندما سئل الكاتب عن مغزى عنوانه، أجاب قائلًا: "يمكننا تعديله ليصبح؛ من يخشى أن يعيش دون وهم؟" وهكذا يصبح العنوان عتبة مباشرة نحو قراءة العمل وفق فلسفة (فرجينيا وولف) ومدرستها الأدبية.

تركز المسرحية على العائلة وتعقيدات العلاقات الاجتماعية، التي تشكل محور اهتمام (ألبي) وكتاباته، حيث يستغل الكاتب هذه التعقيدات مادةً لاستقصاء الأزمات الناجمة عن سوء الفهم وغياب التواصل، الذي يؤدي إلى خلق أوهامٍ تُبعد الشخصيات عن الواقع وتصرف انتباههم عن الحقائق المؤلمة. تقع الأحداث في منزل (مارثا) وزوجها أستاذ التاريخ (جورج)، زوجان في منتصف العمر، يعيشان في حرم جامعة صغيرة يديرها والد (مارثا)، وبعد عودتهما من حفلة صاخبة أقامها هذا الأخير احتفالًا بمقدم الأستاذ الجديد (نِك) وزوجته الخجولة (هوني)، تدعو (مارثا) الزوجين لمواصلة الاحتفال في منزلها، وتجبر (جورج) على الترحيب بهما.

في هذه الكوميديا السوداء التي تحاكي بنية "الكوميديا الإلهية "لـ (دانتي)، نجد أنفسنا أمام ثلاثة فصول متمايزة، يبدأ العمل بـ "لهو ولعب"، حيث يتحول المشهد إلى جحيم بمجرد ظهور الزوجين الشابين، وسرعان ما يتسع الصراع ليشملهما، يغلب الظلام على المشهد، ويختفي النهار مع ما يحمله من أقنعة يفرضها التعايش داخل المجتمع، ومع كل كأس يُرتشف، تتفاقم الألاعيب ويترسخ سوء الفهم، ويتوج بوابل من الشتائم والإهانات والصدامات والنكات اللاذعة، تلعب اللغة دورًا محوريًا في هذه الأحداث على غرار الألاعيب اللغوية التي يتبناها (جيمس جويس) في أدبه مقتفيًا أثر أستاذه (لويس كارول)، تخفي هذه الألاعيب خلفها طبقات من الاستعارات والأوهام. ثم ينتقل الزوجان إلى فصل "المطهر" حيث تستمر المكائد والخيانات في محاولة لاستيعاب الجحيم الذي عاشاه وتفسير ماضيهما، بغية تطهير الذات. وأخيرًا، تختم المسرحية بـ "الخلاص"، وتٌكشف الأقنعة ويتحرر الزوجان من قيودهما، مرهقين من النزاع ومن تداعي وعيهما الذي عراهما أمام أنفسهما وأعادهما إلى نقطة البداية أخف استعدادًا لمواجهة نهار جديد وأقنعة جديدة.

وقد اكتسبت المسرحية شهرة بلغت الآفاق بفضل الفيلم المأخوذ عنها، حيث ألف (إرنست ليمان) بمساعدة (إدوارد ألبي) السيناريو والحوار دون أن يعدل كثيرًا عليه مكتفيًا بحذف بعض المقاطع التي لم يؤثر حذفها على السياق العام، وأُسندت الأدوار الرئيسة إلى نجمة هوليوود الساحرة (إلزابيث تايلور) وزوجها (ريتشارد بيرتون)، بمشاركة (جورج سيغال) و(ساندرا دينيس)، وأخرج الفيلم (مايك نيكولز) في أول تجربة إخراجية له، اختار (نيكولز) تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، مفضلًا الحفاظ على جوهر الفكرة المعادية للضوء والنهار، التي تزدهر في الظلام والليل، مما ساعد على الإبقاء على الطابع المتوحش والقبيح للشخصيات، اضطرت (تايلور) إلى زيادة وزنها لتبدو في سن الخمسين، وهي لم تتجاوز بعد الثلاثين، وكادت أن ترفض الدور لاقتناعها أنها لن تجيد دور امرأة مجنونة في الخمسين، لكن (بيرتون) أقنعها بالقبول مؤكدًا أن هذا الدور سيقودها للأوسكار ومحذرًا إياها من منح الفرصة لممثلة أخرى، وبالفعل قدمت (تايلور) دورًا تاريخيًا أهلها للفوز بالأوسكار، وقد حقق الفيلم مكانة أسطورية في هذه الجائزة بعد أن أصبح أول فيلم يترشح لجوائز الأوسكار جميعها وفيها أفضل: تصوير، إخراج، ممثل، أفضل ممثلة، ممثل مساعد، ممثلة مساعدة، سيناريو، صوت، تصميم ملابس، فيلم، وفاز بخمسة منها أهمها أفضل ممثلة رئيسة وأفضل ممثلة مساعدة ولا يسعني هنا سوى الإشادة بالموسيقى التصويرية للموسيقار (أليكس نورث) والتي ناسبت حقًا الجو المشحون للمَشاهد والمتتاليات بين الفصول.

تقمص الزوجان (تايلور) و(بيرتون) حالة الزوجين بالمسرحية ببراعة بما فيها من قبح وشراسة، وقد انعكس هذا الأداء على علاقتهما الشخصية مما أدى إلى إحداث فجوة لم يتمكنا من ردمها، يبدو أن العمل الفني قد كشف عن جوانب خفية في شخصيتهما وعلاقتهما، وقد أقرا فيما بعد أن تأدية الدورين بما يحملانه من حقد وغل وغضب وغيرة كان له تأثير ينذر بخطر لم يتوقعاه، يُذكر أن الفيلم والمسرحية قد استُخدِمتا في الدراسات النفسية لتحليل مؤسسة الزواج وملحقاتها و لدعم البحوث التي تهدف إلى تطوير الاستشارات الزوجية والعلاج الأسري، كما فعل عالم النفس البارز (بول واتزلافيك).

ما يجذبني في أعمال إدوارد ألبي هو استخدامه الفريد للسخرية الممزوجة بالكوميديا السوداء، التي يتقن توظيفها في تصوير الشخصية، يحافظ على قربه منها، مستكشفًا تاريخها الشخصي، وأحلامها وإخفاقاتها وخيالاتها وثقافتها ورغباتها النرجسية، يستخدم لغتها وكلماتها التي تخلقها ضمن سياقاتها الخاصة، وغالبًا ما تنتهي بالغموض، وعندما يضع شخصياته في مَشاهد مغلقة، يجبر المُشاهد على اختراق حميميتها والتلصص على حياتها، مما يدفعه إلى كرهها وانتقادها وإنكار أفعالها. ومع ذلك، عند تدبر قصصها يشعر المرء بعدم الارتياح ويبدأ في التفكير في التشابه المحتمل بينه وبين تلك الشخصيات، وبالتالي يحقق (ألبي) هدفه الرئيس وهو إزالة الستار بين الوهم والحقيقة.