لا يوجد أدب سعيد!

إيمان العزوزي

استعرت عنوان هذه المقالة من قصيدة أحبها للشاعر الفرنسي (لويس أرغون) "لا يوجد حب سعيد!"، كتبها وقد لعج الحزن صدره، وتمزق قلبه شكًّا أمام غموض الحب، (أرغون) الذي تيمته عيون (إلزا) أسعفته الكلمة ليصور هذا التمزق، لا شيء يفسر حقيقة نظمه لهذه القصيدة لأن الزوجين عاشا غراما خُلِّد أسطورةً يُقتدى بها، ولم أجد تفسيرًا لهذا التواطؤ بين الشاعر والحزن سوى ما انتهت به القصيدة؛ حيث جزم (أرغون) في آخر أبياتها أن قوة الحب وجوهره تكمن في الألم، وقد ينعم العاشقان في ظله بقبس من سعادة ما داما يتشاركان مشاعر وتجارب تميزهما عن غيرهما، فكل حب يفرض فرادته. هكذا يكون (أرغون) ممثلًا لكل الشعراء تأسره هذه الحاجة المستمرة للمعاناة التي يستمد منها إلهامه وحجته، وهذا يدفعني للتساؤل لماذا نحب الشعر والنثر متى كان حزينًا، ولماذا تستمد معظم الأعمال الأدبية مجدها من مأساويتها؟

إن المغامرة الإنسانية التي نشهد فصولها الآنية ونعيش مآسيها، ليست سوى مناحة طويلة ومستمرة تتخذ صورها في القطيعة والألم، لسنا سوى لوحات ممزقة بنصل حاد تتعدد أقنعته، فيأتي الحزن تعبيرًا عن هذه التمزقات، نحزن لفقدان شخص ما، أو فقدان شيء عام معنوي أو مادي، نحزن أمام صروف الحياة التي تضرب حياتنا أو حياة سوانا ما دمنا نبحر على نفس السفينة، بمقدار ما يواجهنا من ألم؛ يشعر المرء بضعف ذاته ويغشاه شعور اللاجدوى والخيبة والخذلان.

ولو نظرنا إلى العالم سنرى الحزن يغلب لحظات السعادة التي لا ندرك ملامحها إلا وهي مغادرة، كما يؤكد المسرحي الفرنسي (لويس جوفي)، فهذا الوعي المرافق للحزن الذي يتجاهل السعادة على اعتبار أنها فقط محاولات مستمرة للتخلص من الألم، يوحد الشعور المأساوي بالحياة بين البشر، يجد الألم حيويته في كونه طريقًا قاسيًا نحو وعي الفرد بذاته وبوجوده، ويشرح الكاتب الإسباني (ميغيل دي أونامونو) هذه المأساة بقوله "وأنى للمرء أن يعلم أنه موجود إذا لم يتألم قليلًا أو كثيرًا؟ وكيف يعود إلى نفسه ويكتسب وعيًا ذاتيًا إذا لم يكن به ألم؟ إذا سُرَّ المرء نسي نفسه ونسي أنه موجود، وصار آخر، غريبًا، ولا ينكفئ على نفسه ويعود إلى ذاته ويكون هو هو إلا بالألم".

إن ما يفسر غياب إحساسنا بالسعادة يكمن ربما في جوهر فلسفة (شوبنهاور) التي ترى الحياة نواسًا (بَنْدُولًا) يتأرجح بين المعاناة والملل؛ فالملل بالنسبة له هو احتضار السعادة في نفس المكان واللحظة التي خُلقت فيها، وفقًا لهذا الفيلسوف الألماني؛ فالإنسان ليس سوى آلة لتفريغ الرغبة، ومتى تحققت توالدت أخرى أشد شراسة ويبقى الإنسان ممزقا بين تحقيقها أو كبتها، وأمام هذا التهديد المزدوج يعاني الفرد ولا يجد سوى الفن -حسب شوبنهاور- لتحريره أو على الأقل التخفيف من معاناته.

لا غرابة إذن أن الاستجابة لمؤثرات الحزن في الأدب تجد ذروتها في لحظات الشك والبحث عن المعنى، وفي لحظات التعارض بين المقدرة والأمل فيشقى الفرد بهذا التعارض كما ألمح (محمد مندور) في معرض وصفه للحزن ضرورةً يلجأ إليها الأديب لبث شكواه وهمومه، والتي تتقاطع مع شكوى القارئ وهمومه، وهكذا يظل الحزن يبحث عن أشباهه في هذا العالم، ونظل نبحث عن الشيء المفقود الذي يمنحنا الإجابة عن سؤالٍ قلقٍ.

يتشرب الأدب هذا القلق، قلقا ناجما عن حيوات عرفت معاناة وصدمات ولقيت مصيرًا يليق بكل هذه التأثيرات، وربما يجد القارئ في المعاناة والحزن الأصيل مدخلًا لاستجلاء الحقيقة وسط ركام من الضلالات في عالم مزيف، ولعل هذه الأصالة هي التي تسمو ببعض الأعمال دون غيرها، ولعلها ما يدفع الكُتَّاب إلى الإبداع، فها هو الشاعر (عبد الرحمن صدقي) الذي تألق في الكتابة النقدية والثقافية لم يبزغ نجمه الشعري إلا بعد أن فقد زوجته الإيطالية؛ فتدفق شعره في مراث حزينة جمعها ديوانه (من وحي امرأة)، وعاينّا بدهشة بالغة كيف خذل الشاعر (أحمد رامي) حب عمره ولم يطلب (أمَ كلثوم) للزواج مفضلًا شعرًا مثخنًا بالجراح والفرقة على أبيات سعيدة تُنظَم على بحر ساكن، وقد برر (رامي) هذا التردد بحبه (أمَ كلثوم) الإنسانة والفنانة، بينما أحبت فيه الشاعر وإن تزوجته كسبت زوجًا فقط. رحلت (أم كلثوم) ورثاها (رامي) ملهمةً قبل كونها حبيبة فأنشد يقول:

ما جال في خاطري أنّي سأرثيها
بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها
صحبتُها من ضحى عمري وعشتُ لها
أدفُّ شهدَ المعاني ثمّ أهديها
وبي من الشجو من تغريد ملهمتي
ما قد نسيت به الدنيا وما فيها

لعل رومانسية الحزن وهواية الأحزان أو "الحزن الطروب" كما وصفه الناقد (ناجي نجيب) في كتابه الجدير بالقراءة "كتاب الأحزان"، تجد جذورها في تراث الأدب العربي قبل أن تقارع أحزان الأدب المعاصر والعالمي، فلا نكاد نقرأ قصيدة للقدماء من الشعراء العرب إلا صادفنا لحظات أسى بليغ، وأغلبنا وقف على الأطلال تلبيةً دعوة (امرئ القيس):

قفا نبْكِ من ذِكرى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ
بسِقطِ اللوى بينَ الدَّخول فحَوْمَل

كما أشجانا حزن (النابغة الذبياني) حين انطفأت ديار حبيبته (مي) فأنشد:

يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلْياء فالسَّــندِ
أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْها سَالِفُ الأبدِ

وبعثت مراثي (الخنساء) المتدفقة الأسى في القلوب وأذكت فيها جمر الفقد، واكتوينا بالنار التي حرقت البصرة في قصيدة (ابن الرومي) التي يبكي فيها خراب المدينة إبان ثورة الزنج، فكما أرقه هذا السقوط وأيقظ الدمع في عينيه فالقصيدة ذكرتنا بحالنا؛ فكم يشبه حاضرنا ماضينا وكم تمضي الأيام وتعود تكنس أحداثًا لتصنع أخرى ويبقى الألم صامدًا لا يغيره زمن ولا طفرة. أما (أبو العتاهية) و(المعري) فقد كان حزنهما رثاءً كونيًا للحياة بفضل تأملاتهما ذات المسحة الفلسفية التي تجاوزت الفرد إلى الجماعة.

وليس بعيدًا عن عصرنا، انبرت المنفلوطية ظاهرة أدبية فريدة تمجد الحزن وتحتفل به، حيث عالج (المنفلوطي) الحزن من خلال عبراته ونظراته وقصص الغرام الفرنسية التي افتتن بها وأعاد صياغتها بلغة عذبة رقيقة تغزو الأفئدة، فهامت الجماهير بأدبه الدامع وقلدته وسام الكتابة الحقة، وقد فطن (العقاد) لهذه الحاجة الجماهيرية للبكاء فقال: "كانوا بحاجة إلى منفلوطي يظهر لهم، لو لم يظهر هذا المنفلوطي الذي عرفوه وأقبلوا عليه"، وقد أكد (ناجي نجيب) في كتابه السالف الذكر أن (المنفلوطي) بالغ في تقديره للحزن ومنحه لباسًا فضفاضًا يعليه إلى آفاق شعورية نبيلة، وهو بهذا يتوجه إلى فئات مجتمعية لا تستطيع النهوض بذاتها وتعاني من الإحباط، فتجد في كتاباته السلوى وبعض مظاهر الرحمة والصدق فتردد بحزن سعيد ما قاله عراب الحزن: "كأنما كنت في حاجة إلى قطرات من الدمع أتفرج بها مما أنا فيه، فلما بكى الباكون وبكيت لبكائهم وجدت في مدامعهم شفاء نفسي وسكون لوعتي".

تتعدد التجارب العربية الغارقة في الحزن وتشعباته، لكن تبقى التجربة العراقية ذات خصوصية لافتة متجذرة في ذاكرة العراق منذ حضاراتها القديمة، بدأ الأمر ربما مع (جلجامش) نادبا صديقه (أنكيدو):

إنني أبكي أنكيدو، أبكي صديقي،
وأنوح عليه نُوَاح الندابة.

بجّلت الحضارة السومرية الحزن، وأفردت له مواكبَ تتغنى به خلف الكاهن (كالو) الذي أكل البكاء بصره، توارثت الأجيال هذه السمة وطورتها وشكلت ملامحها الخاصة، وأصبح الحزن نزعة تطغى على الشِّعر رغمًا عن ناظمه، يقول (مظفر النواب): "مو حزن لكن حزين"، فالنواب يؤكد ما أسلفته؛ أن الحزن يجد طريقه إلى الكتابة التي تفكك أواصره ليعكس في النهاية حالة جمعية رثائية للوجود الإنساني.

وقد اكتفيت بالتجربة العراقية لأني وقفت على تجربة شعرية واعدة لشاعر عراقي شاب هو (زين العابدين المرشدي) الذي أتى من بلاده حاملًا مرثيته الخاصة "عتاب متأخر من هابيل" أنشدها ضمن منافسات مسابقة "أقرأ" التي تنظمها مؤسسة "إثراء" وقد أهلته القصيدة ليفوز بجائزتها "قارئ العام"، يسرد زين من خلال قصيدته وصور حسية بليغة هذه الفاجعة وبداية الحكاية ويُشَرِّح وقائع الخطيئة الأولى التي ما يزال الإنسان إلى يومنا هذا يتجرع آثارها الوخيمة على نفسه وروحه، وكلما واجه واقعه وحقيقته نكأ الجرح مجددًا، لأن الحزن يقتات من ذاكرته التي تميزها القطيعة أما السعادة فتمنعها العجرفة من خلق ذاكرة لهذا يعيش الحزن وتموت السعادة.

ولن أستطيع حصر الأمثلة لكثرتها ولن يسع المجال أكثر مما ذكر، لكن من جهة أخرى لا يمكن أخذ عبارة "لا يوجد أدب سعيد!" على إطلاقها على الرغم مما تحمله من حقيقة، لأن الأدب عرف لحظات السعادة واحتفل بها، لكن أغلب ما كُتب عن تفاصيلها نُسي أو أقصاه النقد إلى خانة الأدب التربوي الباحث عن الفضيلة والنهايات السعيدة التي تتوج المسارات وتحترم القواعد، لكن الإنسان بطبعه لا يحب القواعد ويعود لما يألفه، إننا نغازل الحزن كما غازله الأديب المصري (مصطفى عبد الرزاق):

"يا حزن. كأنني أحببتك لكثرة ما عرفتك".