فواز عبد المحسن
ما الذي أوصلني إلى هنا؟
بدأ اهتمامي بـ (الجهيمان) عندما طَرحتُ سؤالًا: كيف تكوّنَ هذا العقل الاستثناء، المتجاوز لحدود بيئته النجدية، والمتجذر فيها في الوقت ذاته، قبل ستين عامًا؟
كنتُ أتصفح مؤلفاته، مُتنقلًا من كتابٍ إلى آخر، حتى تساءلت إن كان سؤالي صحيحًا، أو يحملُ مبالغةً من قارئٍ يبحث في الحراك الثقافي لحقبة الستينيات، عن قدوةٍ أدبية.
حاولتُ الابتعاد عن أجواء كُتبه التي غمرتُ نفسي بها، وبدأتُ أقرأ سيرة (حمد الجاسر) "من سوانح الذكريات", فوقعتُ على نصٍ أبهجني، حتى أني أيقظت صديقًا من نومه لأقرأ له بصوتٍ عالٍ: "ولقد اِجتَذبتْ منطقة الظهران بسرعة، ما انتشر فيها من مظاهر العمران الحديثة، وما تردد من أصداء ذلك في داخل البلاد وخارجها، اجتذب ذلك رُواد الرحلات والتنقل لمشاهدتها، وكان من بين هؤلاء بعض أصدقائي ممن كنت أستمتع بلقائهم وبالأنس بهم، ومن أولئك الأصدقاء الذين زاروا الظهران في عهد الأمير السديري الأستاذ عبدالكريم الجهيمان، وقد مكثَ فترة، عرض عليه الأمير وظيفة إدارة بلدية الخبر، فتردد في الأمر، وبمشورة من أصدقائه رفضها. وقد زار الأستاذ عبد الكريم البحرين ثم عاد ومعه مجموعة من الكتب الحديثة، وكان مما أهدى إليّ منها كتاب «أنا تول فرانس في مباذله» للأستاذ شكيب أرسلان، ولما استوضحت منه: لمَ اختار لي هذه الهدية وهو يعرف ميولي لمطالعة الكتب التاريخية القديمة؟ أجاب: رأيتُ بينك وبين (أناتول) تشابهًا من بعض الوجوه)! والصديق أبـو سهيل ذو لفتات ذهنية يستعصي إدراك كنهها، ولهذا فأنا حتى الآن لم أتبين وجه التشابه الذي أراد".[1]
أما قبل:
علاقتي بالأدب السعودي معقدة، شأنها شأن علاقتي بالرياض. جدي، أبي، وأنا جميعنا ولدنا في هذه المدينة التي باتت غريبة.
قبل عشر سنوات، وصفتها بـ "الاسمنتيّة"، بعد أن ضيّقت عليّ بمولاتها الضخمة التي لا يُسمح لغير العوائل بدخولها، وتدفعني إلى الرحيل.
اتّسعت فجأةً، وتنكرّت لسكان جنوبها.
كانت لحظاتي السعيدة تبدأ ببداية إجازتي، عندما أغادرها، إلى تخومها أو بلدانٍ أخرى.
ثم جاءت رؤية 2030 وصالحت بيننا، وأعادت الثقة في محليّتنا، وأرتني جمال الرياض الخفيّ.
أدركت أنني لم أفهمها ولم تفهم هي احتياجات جيلي. كان عليَّ أن أوسّعَ من زوايا نظري، وعليها ألَّا تُقنِّطَني في المُقابل.
أنا ابن التسعينات، دخلتُ عالم القراءة متأخرًا، وحرصتُ على إخفاءِ ذلك حتى لا أكونَ أمثولةَ سخرية من حولي.
في ذلك الوقت، فتحتُ عينيَّ على القراءة بفضل إمام مسجد حارتنا.
وجدتُ نفسي أمام تيارين تصدّرا المشهد الثقافي. حاولت الاندماج فيهما وفشلت.
لم تكن بصيرتي نافذة، بل طبيعتي التي ترفض التوجيه.
بدلًا من البحث عن نفسي في محلّيتي، حزمت طاقة عقلي وبراءة ذائقتي، متجهًا للعالم، أقرأُ في كل الفنون الأدبية، شَريِطةَ ألَّا يكون مؤلفه أديبًا سعوديًا.
ثم جاءَ الجهيمان:
لا أحدَ يُشبِه كُتُبَه من مجايليه مثلَ الجهيمان.
ولا مقدمة من مقدماته تُشبِههُ مثل إهدائه "إلى أساتذتي الذي ثقفوني وفتحوا لي أبواب العلم بجميع فروعه.
وإلى زملائي الذين نافسوني أو شاركوني في البحث.
والحقيقة -كما يقولون- بنت البحث."[2]
تبدأُ المذكرات بالتردُّدِ في كتابتها وعدم الجدوى من توثيقها.
شكوكٌ، تحملُ في طيّاتها سمات العقلِ الجمعيّ وهو يَحصر اهتمامه في عوالم السياسة والاقتصاد، حتى كادَ أن يتشرّبها المؤلف، وتُعرقِل تأليفه.
ما أنقذه، هو روحه المرحة التي تستمتع بما يكتب، وإيمانه بيومٍ قادمٍ يَقْدِرُ فيه قارئٌ مشروعَه حقّ قَدره: "كنت قد فكرت في كتابة هذه المذكرات عن حياتي، لكنني ترددت.
قلت لنفسي: ماذا يستفيد القارئ؟ وأنا ليس لي تأثيرٌ بارز في حياة أمّتي، لا سياسيًا ولا اقتصاديًا.. ومع ذلك، فإن الجهد الذي بذلته في هذه المذكرات يجعلني لن أحاول خداع القارئ. فمن يتطلع إلى أن يجد في هذه المذكرات مباحث دينية، فأنصحه بأن لا يقرأها. ومن يرغب في مباحث فلسفية، فأنا أصارحه أيضًا بأنه لن يجدها. ومن يبحث عن مخاصمات ومصادمات وآراء مبتكرة، فلن يجد لها ظِلًا ولا أثرًا. أما من أراد صورًا من الحياة لعدة أجيال، فليقرأ هذه المذكرات. ومن أراد أن يطلع على بعض تجاربي، التي فيها الناجح والفاشل، فسيجد بعضًا منها. ومن يهدف إلى النقد الاجتماعي لتعزيز مستوانا الحضاري، فسيلاحظ بعض الإشارات والعبارات التي تهدف إلى ذلك"[3].
- [1] حمد الجاسر، من سوانح الذكريات، ط1، ج2، ص797.
- [2] المونولوج: حديث النفس أو النجوى التي تكون في دواخل الشخصيات.
- [3] السوبرماتية أو التفوقية من حركات الفن التشكيلي الروسية.