الرجل الذي توسّد الحكاية

فواز عبد المحسن


ما الذي أوصلني إلى هنا؟

بدأ اهتمامي بـ (الجهيمان) عندما طَرحتُ سؤالًا: كيف تكوّنَ هذا العقل الاستثناء، المتجاوز لحدود بيئته النجدية، والمتجذر فيها في الوقت ذاته، قبل ستين عامًا؟

كنتُ أتصفح مؤلفاته، مُتنقلًا من كتابٍ إلى آخر، حتى تساءلت إن كان سؤالي صحيحًا، أو يحملُ مبالغةً من قارئٍ يبحث في الحراك الثقافي لحقبة الستينيات، عن قدوةٍ أدبية.

حاولتُ الابتعاد عن أجواء كُتبه التي غمرتُ نفسي بها، وبدأتُ أقرأ سيرة (حمد الجاسر) "من سوانح الذكريات", فوقعتُ على نصٍ أبهجني، حتى أني أيقظت صديقًا من نومه لأقرأ له بصوتٍ عالٍ: "ولقد اِجتَذبتْ منطقة الظهران بسرعة، ما انتشر فيها من مظاهر العمران الحديثة، وما تردد من أصداء ذلك في داخل البلاد وخارجها، اجتذب ذلك رُواد الرحلات والتنقل لمشاهدتها، وكان من بين هؤلاء بعض أصدقائي ممن كنت أستمتع بلقائهم وبالأنس بهم، ومن أولئك الأصدقاء الذين زاروا الظهران في عهد الأمير السديري الأستاذ عبدالكريم الجهيمان، وقد مكثَ فترة، عرض عليه الأمير وظيفة إدارة بلدية الخبر، فتردد في الأمر، وبمشورة من أصدقائه رفضها. وقد زار الأستاذ عبد الكريم البحرين ثم عاد ومعه مجموعة من الكتب الحديثة، وكان مما أهدى إليّ منها كتاب «أنا تول فرانس في مباذله» للأستاذ شكيب أرسلان، ولما استوضحت منه: لمَ اختار لي هذه الهدية وهو يعرف ميولي لمطالعة الكتب التاريخية القديمة؟ أجاب: رأيتُ بينك وبين (أناتول) تشابهًا من بعض الوجوه)! والصديق أبـو سهيل ذو لفتات ذهنية يستعصي إدراك كنهها، ولهذا فأنا حتى الآن لم أتبين وجه التشابه الذي أراد".[1]

أما قبل:

علاقتي بالأدب السعودي معقدة، شأنها شأن علاقتي بالرياض. جدي، أبي، وأنا جميعنا ولدنا في هذه المدينة التي باتت غريبة.

قبل عشر سنوات، وصفتها بـ "الاسمنتيّة"، بعد أن ضيّقت عليّ بمولاتها الضخمة التي لا يُسمح لغير العوائل بدخولها، وتدفعني إلى الرحيل.
اتّسعت فجأةً، وتنكرّت لسكان جنوبها.
كانت لحظاتي السعيدة تبدأ ببداية إجازتي، عندما أغادرها، إلى تخومها أو بلدانٍ أخرى.

ثم جاءت رؤية 2030 وصالحت بيننا، وأعادت الثقة في محليّتنا، وأرتني جمال الرياض الخفيّ.

أدركت أنني لم أفهمها ولم تفهم هي احتياجات جيلي. كان عليَّ أن أوسّعَ من زوايا نظري، وعليها ألَّا تُقنِّطَني في المُقابل.

أنا ابن التسعينات، دخلتُ عالم القراءة متأخرًا، وحرصتُ على إخفاءِ ذلك حتى لا أكونَ أمثولةَ سخرية من حولي.
في ذلك الوقت، فتحتُ عينيَّ على القراءة بفضل إمام مسجد حارتنا.
وجدتُ نفسي أمام تيارين تصدّرا المشهد الثقافي. حاولت الاندماج فيهما وفشلت.
لم تكن بصيرتي نافذة، بل طبيعتي التي ترفض التوجيه.

بدلًا من البحث عن نفسي في محلّيتي، حزمت طاقة عقلي وبراءة ذائقتي، متجهًا للعالم، أقرأُ في كل الفنون الأدبية، شَريِطةَ ألَّا يكون مؤلفه أديبًا سعوديًا.

ثم جاءَ الجهيمان:

لا أحدَ يُشبِه كُتُبَه من مجايليه مثلَ الجهيمان.
ولا مقدمة من مقدماته تُشبِههُ مثل إهدائه "إلى أساتذتي الذي ثقفوني وفتحوا لي أبواب العلم بجميع فروعه.
وإلى زملائي الذين نافسوني أو شاركوني في البحث.
والحقيقة -كما يقولون- بنت البحث."[2]

تبدأُ المذكرات بالتردُّدِ في كتابتها وعدم الجدوى من توثيقها.
شكوكٌ، تحملُ في طيّاتها سمات العقلِ الجمعيّ وهو يَحصر اهتمامه في عوالم السياسة والاقتصاد، حتى كادَ أن يتشرّبها المؤلف، وتُعرقِل تأليفه.

ما أنقذه، هو روحه المرحة التي تستمتع بما يكتب، وإيمانه بيومٍ قادمٍ يَقْدِرُ فيه قارئٌ مشروعَه حقّ قَدره: "كنت قد فكرت في كتابة هذه المذكرات عن حياتي، لكنني ترددت.
قلت لنفسي: ماذا يستفيد القارئ؟ وأنا ليس لي تأثيرٌ بارز في حياة أمّتي، لا سياسيًا ولا اقتصاديًا.. ومع ذلك، فإن الجهد الذي بذلته في هذه المذكرات يجعلني لن أحاول خداع القارئ. فمن يتطلع إلى أن يجد في هذه المذكرات مباحث دينية، فأنصحه بأن لا يقرأها. ومن يرغب في مباحث فلسفية، فأنا أصارحه أيضًا بأنه لن يجدها. ومن يبحث عن مخاصمات ومصادمات وآراء مبتكرة، فلن يجد لها ظِلًا ولا أثرًا. أما من أراد صورًا من الحياة لعدة أجيال، فليقرأ هذه المذكرات. ومن أراد أن يطلع على بعض تجاربي، التي فيها الناجح والفاشل، فسيجد بعضًا منها. ومن يهدف إلى النقد الاجتماعي لتعزيز مستوانا الحضاري، فسيلاحظ بعض الإشارات والعبارات التي تهدف إلى ذلك"[3].


  • [1] حمد الجاسر، من سوانح الذكريات، ط1، ج2، ص797.
  • [2] المونولوج: حديث النفس أو النجوى التي تكون في دواخل الشخصيات.
  • [3] السوبرماتية أو التفوقية من حركات الفن التشكيلي الروسية.
محاولةُ اقترابٍ

دائمًا ما أسأل نفسي عن جدوى قراءاتي. قبل لقائي بكتب (الجهيمان)، كنتُ مهتمًا بالروايات، كتب التذوق الأدبي، كتب السير الذاتية، وكتب الرسائل التي أجد فيها ما لا أجده في غيرها من شفافيةٍ ورقّة. وكأنني أعدّ العُدة بهذا الزاد لأرحل به إلى مؤلفات (عبد الكريم الجهيمان) والتي كانت في مكتبة والدي منذ طفولتي، لكنني لم أمدد يدي إليها، لسببين:

  • الأغلفة المنفرة لطبعات الكتب التي صدرت في الطبعة الثانية، على عكس الطبعة الأولى.
  • اسمه الذي خلطتُ بينه وبين مقتحم الحرم المكي.

أحاول الاقتراب منه. لكن من أي (عبد الكريم) أقترب؟

محاطٌ بالأساطير منذ بدايةِ حياتِه، ولو كنت أريد الدقة لقلتُ: محاطٌ بها قبل وجوده على الأرض.

حين سألَ والدَهُ عن سبب تسميته، أجابه أنه اسمٌ لشخصٍ قديم في التاريخ من عائلة متواضعة صاحب همّةٍ وطموح، بزّ أقرانه، مع أن السياقات تشير إلى خلاف ما وصل إليه.

إذن، ترسّبتِ الكلماتُ في تجاويف عقله، ووعاها بوجدانه.

في ظرافةٍ، يعترضُ على أبيه، ويقول: "لماذا لم تستشرني في تسميتي؟". فيجيب دون أن ينتظر إجابة أبيه: "لو خيرت لاخترتُ اسمًا غير هذا.. محمدًا أو عبد الله، ولكن ما حيلتي الآن، فأنت لم تستشرني!"

المولد

قبل اجتياح الكوليرا بلاد نجد، وُلِدَ (الجهيمان) من أبوين من قريتين متجاورتين من بلاد الوشم، هما غسلة والوقف.

واجه (الجهيمان) عتاب ابن خاله عندما راجع تاريخ ميلاده في الوثائق الرسمية:
-"كيف تستسيغ لنفسك إخفاء تاريخ مولدك الحقيقي؟ أليس هذا كذبًا؟"
-"هذا ليس كذبًا، وإنما ترجيح قول أمي على قولك. وإذا افترضنا أنه كذب، فإنه كذب غير متعمد، ولا ضرر فيه على أحد، فهو كذب أبيض، إذا كان في الكذب شيءٌ أبيض." يضيف "هو على كل حال أخف من كذب فلان الذي صغّر عمره عشر سنوات، فقال من هو؟"
فسمّيتُ له شخصًا يعرفه.
فقد وُلِد هو وفلان في سنة واحدة.
وسارا في عمرهما متساويين حتى بلغ أحدهما الستين في العمر، وأوقف العداد عند هذا الحد، أما زميله في الميلاد فقد سار سيرًا طبيعيًا حتى بلغ السبعين. وأصرّ صاحب الستين ألا يتجاوزها، أما زميله الذي بلغ السبعين فقد قال: "إن الأمر بسيط للغاية، فأنا سوف أنتظرك في الباطن الجنوبي (القبر) عشر سنوات ثم تلحق بي!"[4].

إطلالتهُ على الحياة

"عندما فتحتُ عيني على هذا الكون وجدت نفسي كما أُريد لي، لا كما أردت، فلم أحظَ بعطف الأمومةِ كاملًا، ولم أحظ بعطف الأبوة كاملًا، فقد افترق والداي بالطلاق في صغري. وقد تفاعل في مخيلتي ظنون عدوانية وأفكار جهنمية ضد زوج والدتي الذي اختطفها مني وهي آخر ما أملك، وجعلني لا أراها إلا لماما. وكانت والدتي رحمها الله عندما تزور أهلها، تتولى تنظيفي، فآنس بوجودها، وأنسى أحقادي عليها وعلى زوجها الجديد. ولكنها بعد فترة قصيرة تستعد للعودة إلى بيتها الجديد في القرية المجاورة فأهم بمرافقتها، ولكنها تمنعني، وكلما منعتني من مرافقتها ازداد حقدي على زوجها الجديد، ثم يمتد إلى والدتي. فإذا أرادت أن تعود إلى زوجها ويئسُت من مرافقتها سبقتها إلى مرتفع في نهاية القرية وملأت حجري من الحجارة. فإذا مشت في طريقها إلى قرية زوجها جعلت أرميها بالحجارة وهي مدبرة لا تراني ولو أنها نظرت إلي بعينيها الحنونتين ووجهها الباسم المليء بعواطف الحب والشفقة نحوي... لو أنها فعلت ذلك لتبخرت أحقادي نحوها، ولكنها تسعى في طريقها غير ملتفتة إلى الوراء"[5].

سيظل المشهد ملازمًا لعقله طوال حياته التي جاوزت التسعين، وسيقذف بالأحجار الخيالية، أُوهامَ الذينَ لا يلتفتون إلى أبعادِ أزمنتِهم.

ألاحظُ تركيزه على التفاصيل الجمالية للحياة العادية اليومية. وهو على النقيض من ذلك، عندما يتعلق الأمر بالشأن العام، يتناوله بفعاليةٍ، ولكن بإيجاز من يؤدي الواجب: "ولو سألني سائل عن عهد طفولتي لقلت له: إنني والحمدلله قد عشتها طولاً وعرضًا، وتمتعت بأنواع من الحرية والانطلاق، على الرغم من افتراق والديّ، كما سعدت بلقاء العجائز من النساء من عائلتي ولا سيما جدتي من قبل الأم التي طعنت في السن، فكانت لا تفارق مصلاها إلا نادرًا، وإذا كان لقائي بها ليلًا فإنني أطلب منها أن تقصّ عليّ بعض الحكايات التي أحبها، والتي لديها منها الشيء الكثير"[6].

أمّا إذا كان الحدث مفصليًا مثل مقابلته للملك عبد العزيز، فيسردَهُ بالتفصيلِ الممزوجِ بالمشاهد الحيّة "أما إذا عدنا إلى القرية صرت أفاخر الأطفال وأمد لهم يدي اليمنى وأقول لهم بكل فخر واعتزاز: إن هذه اليد، صافحت الإمام عبد العزيز، فيتعجّبون مني كيف توصلت إلى هذه المرتبة من الشرف الذي حرموا منه"[7]


  • [4] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 20.
  • [5] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 27.
  • [6] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 32.
  • [7] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 106.
العيش مع الكتابة

الكتابةُ محوٌ عند (الجهيمان): "وهكذا نستمر نكتب ما نحتاجه من الصحف في تلك الألواح ثم نمحوه لنكتب غير ما حفظنا"[8].

عادةٌ اكتسبها من الكتاتيب، وأعانته في تشذيب خياله بعد ذلك عندما همَّ بجمع المرويات التي سمعها من شفاه العجائز، والتي كانت نواة الأساطير التي حفظها في خمسة مجلدات، وتُرجمت للغاتٍ عالمية؛ بما فيها اللغة الروسية التي عُرِفت باهتمامها بالتراث الشعبي العالمي "ولدى الأطفال نوعٌ من التسلية في أيام الشتاء، حيث نجتمع في مكانٍ دافئ فيقول أحدنا: ذبحت خريفي من يشرك؟ فأحدنا يشترك بالرأس والآخر يشترك بالرجل وثالث بالصدر، وهكذا حتى تنتهي أجزاء الخروف، ثم يبدأ الأول فيقص عليهم قصة من الأقاصيص التي سمعها من أمه أو جدته فإذا انتهى بدأ الآخر. وهكذا يتلو بعضهم بعضًا، في سرد تلك الحكايات التي فيها من تجارب الحياة التي قد لا نفهمها، ولكنها تترسب في الأذهان وتتخمر في العقول، فلما كبرنا، عرفنا ما ترمي إليه من فوائد، تنير الطريق في مستقبل حياتنا"[9].

هل يريد من خلال الأخطاء، الاندماج في العادي وتنفير المتشددين من النخب المثقفة ليصل إلى الإنسان العادي الذي يخطئ في أحاديثه، ولكنه يثق في فطريّة سامعه وأنه سيفهم ولن يصحح؟
أم لا يريد كبح جماح تدفق ذكرياته وإعاقتها بتصحيح الأخطاء ويتمنى أن يأتي فيما بعد من يغربلها وينقّحها؟

أكان يتعارك مع اللغة والأخطاء ليمسك بروح ما هو شعبي حتى لا يذهبَ هباءً، مثل معركته الحقيقية مع الذئب الذي صادفه في مفازةٍ صحراوية، وكاد أن يفتك به؟[10]

أم أنني اندمجت مع مشروعه، فأصبحت أبحث عن عذرٍ، بدلًا من المصالحة مع فكرة أن الأخطاء واردةٌ، وأن كمال الإنسان العظيم في نقصانه؟

لا أدري، ولكنه يؤكد: "أن الكتابة إما أن تكون حارةٌ جدًا أو باردة جدًا، لأن الكتابة الفاترة لا قيمة لها ولا حس ولا لون ولا طعم"[11].
فأخشى ما يخشاه أن يُمنعَ من الكتابة التي اختلطَ حبها بلحمه ودمه وتفكيره، وأصبحت متنفّسه في حياته الاجتماعية[12].

الكتابةُ تعنيْ القارئَ.
هو لا يترفّع ويقول: أكتب لنفسي! بل يكتب وفي ذهنه قارئٌ يشاركه ما يكتب، ولكنه لا يسمح له بتوجيهه. وإن تنصل من سطوته، بالسخرية. "وليسمحْ لي القارئ بهذا النوع من الثقة، الذي يقرب من الغرور، وسوف أعاهد القارئ أنني لن أعود إلى مثلها مدى السنين، وأشهد على نفسي بهذا جميع الناس، أجمعين أكتعين أبصعين"[13].

إطلالته على الشباب

يكون مسترسلاً عندما يحكي، كأنه طبعُه، بخلاف مقالاته التي يبدأها بالشكل الصحافي، ثم ما تلبث أن تنقلبَ إلى حكايةٍ، فتتضح الفكرة التي يرنو إليها.

انتقل إلى بيت والده بعد سن التاسعة. وفي اللحظة التي أصبح يرتحل فيها على الجمل، فتح نافذته على العالم من خلال الكتاب: "أثناء سير الجمل، ولا سيما إذا طال الطريق واستمر السير لعدة ساعات، أقول لوالدي: سولف عليّ أو قص عليّ حادثة سلفت. وكنت في أيام طفولتي، نشأت أحب أن أعرف كل شيء في هذه الحياة، وكنت أعيش في قرية من قرى الفلاحين، فلا كتب ولا دفاتر، ما عدا المصحف وكتب المواعظ. وكنت إذا خلا المسجد من المصلين، أخذت أفتّش في أي كتاب أراه، فأما المصاحف فقد قرأتها من الجلدة إلى الجلدة."[14]

ترد في فصل "إطلالة على الحياة" قصتان تاريخيتان مكتملتان. كان بإمكانه أن يطوّعهما ليروي سيرته من خلالهما، لكنه تذكر أنه يكتب سيرته وذكرياته، فأحجم.

يدركُ أن السالفة جزءٌ لا يتجزأ من حياته. فأساطير قلب الجزيرة هي سيرته وأمثالها فوائت حياته، وأدرك في لحظةٍ ما أن الحياة لا تُحتمل بلا حكاية، عندما طلب لأول مرة من أبيه أن يقص عليه حكاية وهما على ظهر الجمل.

تسلل الحكي إلى كيانه، فهو يروي الحكاية دون تمهيدٍ لها أو اعتذارٍ إن خالطت كلامه.

(الجهيمان) قبل أن يتصالح معنا، تصالح مع نفسه. يذكر الوقائع والشواهد والأمثال التي قد لا يحتملها القارئ في زماننا لو قِيلت دون تنقيح "وتقويس".

يؤمن بوعي القارئ، وقدرته على التفريق بين الحكاية وما فيها، وبين الواقع، وأن لكل مقامٍ مقالا.


  • [8] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 35.
  • [9] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 41.
  • [10] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 52.
  • [11]
  • [12] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 205.
  • [13] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 12.
  • [14] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، صفحة 98.
عندما طلبَ القراءة

الوضع الاقتصادي المريح، بحكم انتمائه للطبقة الوسطى، كان السمة الغالبة على حياته، وإن شهدَ بعض الفترات العصيبة زمنَ الفلاحةِ في بداياته القروية، قبل اكتشاف النفط قاعدةً اقتصادية.
فلم يقهره الفقر ويمنعه عن طلب العلم، ولم يَتلهَّ بثروةٍ.

كان للسجن بعد مطالبته بتعليم البنات، والسفر إلى مصر ثم أوروبا، أثرٌ بالغٌ في تحويل مساره. وكأن حرف السين في الكلمتين يرمز إلى سؤال "ماذا بعد؟"، ذلك السؤال الذي غالبًا ما يشكلَ نقطةَ تحولٍ في أحد منعطفات تاريخنا الشخصي: "وقد أحدث هذا السفر إلى مصر بالنسبة لي خاصة تحولات في تفكيري الاجتماعي وعرفت كثيرًا من الشخصيات البارزة في الدولة التي كنت معجبًا بسلوكها، وطريقة تعاملها مع الآخرين، وبما أن هذه السفرة هي أول سفرة في حياتي خارج بلادي، فقد رأيت فيها الكثير من الأمور التى منها ما أحببته، ومنها ما كرهته، فقد خرجت من مجتمع محدود، يعيش عيشة محدودة، عيشة الكفاف والعفاف وإذا بي في أيام قلائل أرى نفسي في مجتمع يموج بمختلف التيارات والرغبات والصراع في سبل العيش بين الكبار و الصغار والفقراء والأغنياء[15]

عالم الأعمال الحرة

في مذكراته وذكرياته، يروي قصصًا عن تجاربه في عالم الأعمال الحرة، وعن التجارة في الجزيرة العربية خلال فترة توحيدها. من بين هذه القصص، تبرز حكاية تاجر من نجد استطاع التعامل مع ديونه بأسلوبٍ طريف: "ففي سنة من السنوات كان الملك عبد العزيز في إحدى غزواته لتوحيد هذه الجزيرة. وكان يحتاج إلى السلاح ويحتاج إلى المؤونة، وكان هذا التاجر النجدي في شقراء وأهل شقراء من كبار تجار أهل نجد. فكان هذا التاجر يستدين من أهل شقراء، ويرسل إلى الملك عبد العزيز مؤونة وسلاحًا. فإذا حل الدين اجتمع التجار لديه يطالبونه بوفاء ديونهم، وكان من عادته أن ينام معظم النهار، ويسهر معظم ساعات الليل، كما أنه يخصص ما بعد صلاة العشاء للاجتماع وشرب القهوة والشاي مع من يزوره من أصحاب الديون التي حل أجلها. فإذا اجتمعوا دارت عليهم أكواب القهوة والشاي، أما التاجر النجدي فإنه يأخذ أحد كتب تفسير القرآن ويقرأ فيه على الحاضرين، ويستمر في القراءة حتى يمل الجالسون ويأخذهم النعاس، ولا يستحلون أن يوقفوا القارئ في تفسير كلام الله. ثم يتحدثون في أمور الدنيا ولذلك فهم يتسللون من المجلس واحدًا إثر واحد دون أن يستطيعوا المطالبة بديونهم التي حان وقت سدادها. وكان بجوار التاجر النجدي رجل من خواصه، فيسأله ما بين وقت وآخر هل بقي أحد؟ فيقول له: لقد ذهبوا كلهم ماعدا شخص واحد هو فلان. فيقول (نزيد له بصفحة) ثم يسأم وينصرف.
فذهبت هذه الكلمة مثلًا للرجل الذى يحتاج المرء إلى التخلص منه إلى شيء من الصبر الجميل"[16]

الأدب الشعبي: مشروع الحياة

بدأ مشروعه في عمر يناهز الأربعين، ومن المفارقات اللافتة أنه تعلم قيادة السيارة في هذا السن. خبرته الطويلة في عالم النشر والمطابع زرعت فيه اهتمامًا بتفاصيل كتبه التي نشرها. كانت الطبعات الأولى من كتبه جميلة الأغلفة، على عكس الطبعات اللاحقة التي نفّرتني، والتي صادفتها في البيوت والمدارس.
وبما أنني وصلت إلى كتبه، فلا يسعني الانتظار أكثر للحديث عن كتابيه "الأساطير" و"لأمثال"، فقد كانت رؤيته متقدمة على عصره -وصف قد يبدو مستهلكًا- لكنه ينطبق هنا بحق.
توصل الباحثون من أمثال (سعد الصويان) إلى أن العامي والفصيح لا يتعارضان، بل هما امتدادان متوازيان في الثقافة. يقول (الجهيمان): "فاجتمع لديّ من الأمثال الشعبية ثروة لا يستهان بها، ثم صرت أنمّي هذه الثروة حتى بلغت حدًا يقارب أمثال العرب الأوائل، بل يفوقه عددًا، ولا أبالغ إذا قلت إن في الأمثال الشعبية ما هو أبلغ أثرًا من الأمثال العربية السابقة.
وكنتُ قد طبعت الأمثال الشعبية في ثلاثة أجزاء، كل جزء يشتمل ألف مثل، وأشعت بين المواطنين أن من يأتيني بثلاثين مثلًا ليست في الكتاب أُعطيه هذه الأجزاء الثلاثة مكافأة، ومن يعطيني عشرة أعطيه عشرة ريالات. فانهالت علي الأمثال من كل جانب، وكنت أختار منها ما أراه ينطوي على حكمة أو تجربة في الحياة، سواء كانت تجربة ضارة أو نافعة، وبهذا اجتمع لدي هذا الكم الهائل من الأمثال التي تحوي تجارب الآباء والأجداد وسوف تكون مصدرًا نادرًا لمعرفة تأريخ حياتهم من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وأكثر ما دفعني إلى هذا الصنيع أن حياتنا بدأت تتغير، وأن مجتمعنا بدأ في تطور جديد، وأن هذه الأجيال بدأت تجهل عن ماضينا الشيء الكثير، فرأيت أن من الخير لبلادي أن أسجل هذا التراث الذي إن أُهمل في الوقت الحاضر فسوف يذهب في طوايا النسيان.
وبعد أن فرغت من كتابة الأمثال شرعت في كتابة الأساطير وهي لا تقل أهمية عن كتاب الأمثال فهي صورٌ من الحياة الماضية، وتعبر عن أحلامهم وآمالهم وتعبر عن مخاوفهم وآلامهم، علاوة على ما فيها من تسلية ومتعة وخيال يخرج بك من عالم الواقع إلى عوالم قد يكون فيها ما ترجوه وتتمناه. وهذان الكتابان "الأمثال" و"الأساطير" أعتبرهما من أعز مؤلفاتي التي بذلت فيها جهدًا متواصلًا ما يقرب من خمسة وعشرين عاما"[17].

سأقفُ هنا وأعود إلى قراءاتي:

أجمعُ قائمة قرائية بعنوان "100 كتاب من السعودية يجب عليكَ قراءتها قبل أن تموت"، وتصدَّر كتابان من كُتبه قائمتي.

قراءة "الأساطير" و"الأمثال" سندٌ متصلٌ لـ (الجهيمان) في حياته وذخيرةٌ أتكئُ عليها طوال طريقي.

(الجهيمان) لم يَكتُبْ شيئًا خالدًا، بل لزم الخلود من خلال الأساطير والأمثال؛ فخلد.

قد يكون (عبد الكريم الجهيمان) كاتبًا عظيمًا، وقد لا يكون. إلا أنه بالنسبة لي، ضرورة لفهم ثقافتي المحلية في إحدى فتراتها، بعيدًا عن التيارات المتأزمة والمشاريع التي قامت كردّة فعلٍ مغالية.

سرد في أساطيره وأمثاله الشعبية ما نحتاجه في نهضتنا الثقافية، متماشيًا مع رؤيتنا الطموحة التي تسعى لمعانقة عنان السماء.

أفكر بصوت عالٍ مع (عبد الرحمن الشقير) وأبادله الأفكار التي جمعتها عن مشروع الجهيمان. وبعد ساعات من الحوار، طرحَ سؤالًا: "وماذا لو لم تُكتب الأساطير الشعبية من قلب جزيرة العرب، والأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب؟"
أربكني السؤال!
أوقفت قراءاتي التي أستمتع بها، وبدأتُ كتابةَ المقال.


  • [15] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، ص163.
  • [16] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، ص183.
  • [17] عبد الكريم الجهيمان، مذكرات وذكرات من حياتي، ص208، ص205.