عبد المنعم حسن محمد
لعبة الأحرف.. هكذا وبكل ما يحمله الإسنادُ من طرافة وسخرية.. تَصب المضمون في صيغة (المضاف والمضاف إليه)، كأية جملةٍ تقليدية، يطبعها الشعراء البراغماتيون على صدور دواوينهم، ثم يستلقون وهم ينفثون زفرة الراحة، مستبشرين بالفرصة التي تنتظرهم غدًا، حيث سيسيرون بخطوات الواثقين إلى ناشر مضمون، سيقودهم إلى الشهرة دون عناء!
(محمد سيدي) يقف على النقيض من التقليديين في المثال السابق، وليعذرني إذ أتيت على ذكرهم في حضرته؛ لأن طريقته مختلفةٌ كل الاختلاف ولا تنتمي من هذه الناحية إلى أي مثال سابق، إنه يخوض البحر نفسَه الذي خاضه ويخوضه آلافُ الشعراء المبدعين، مستمتعًا بالتحدي الصعب الذي يدركه، وساخرًا من جبال الأمواج المزمجرةِ حوله، إن الشأن إذن ليس ذا خطرٍ يهبط فيه الأقوياء وهم يستحضرون الهولَ بجدية.. إنه مجرد لعبة، ومهما صعدتْ الوتيرة إلى الصعوبة فإنه سيظل لعبة، وما دامت هذه اللعبة قد أُسنِدت إلى الأحرف، فهي جديرة باعتبار لا يقل عن مكانة الجديّة من الحياة..
هذه نظرة خاطفة من زاوية، ومن زاويةٍ أخرى أكثر استثارةً للدهشة واستبقاءً للأثر الغامض في النفس، يختزل الشاعر (محمد سيدي) معمار ديوانه في تعريفٍ يبدأ وينتهي عند نقطة التقاء العظمةِ بالضآلة. (لعبة) في ميزان هرم الوقار، (الأحرف) في متعلقات الصغار. هنا يتخذ (المضاف والمضاف) إليه سبيلًا آخر يبعد كلّ البعد عن التقليدية الثابتة، وإذا اعتبرنا الثبات قيدًا يستحيل أن تُضاف إلى حركاته المحدودةِ رقصةٌ جديدة، فستُباغت الظاهرة مسار السائد، وتكسر الاستحالة، وتربك معنى الثبات، وتبعث القلق من الرمس القابع في حجرة مظلمة في النفس!
(الديوان يُقرأ في الكافتيريا، بينما أنت تتناول الساندويتش).. بهذه البساطة قال لي لاعب الأحرف الماهر، وهو يعيرني النسخة الوحيدة التي في يده، وقد صدرت عن "دار أثر".. وبالفعل قرأته في نفس المدة تقريبًا وأنا في السيارة، وطويت صفحاته التسع والسبعين قبل أن أشرب آخر جرعة من الذي في يدي.. وبالمناسبة، كنت أقرأ بصوت مرتفع، وأفْصل بين النص والنص بقهقهة عالية، ولم تفارقني الابتسامة من الأثر الغامض اللذيذ قبل وقت طويل من انتهاء القراءة.