التحليل الثقافي في مقاربة العمل الأدبي

أ.د. حسين محمد القرني [1]

برزت التأويلية في عصر ما بعد الحداثة واهتمت بالنظر في الأنساق والبنى الاجتماعية والثقافية، وعدَّتها مفاتيح للولوج إلى عوالم النص، وتفسير غوامضه، وتأويل مفارقاته، واستكناه مرامي مبدعه، وفك شيفراته من خلال التحليل المتأني، والدراسة الفاحصة لكل ما له علاقة بالنص من خلفيات علمية وثقافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية، ومن أبرز الاتجاهات التأويلية ما يسمى "التاريخانية الجديدة" أو "التحليل الثقافي" وهو الاسم الذي اختاره ميجان الرويلي وسعد البازعي في دليل الناقد الأدبي.

سأقول إنه اتجاه لا منهج، لأنه في الأساس حصيلة جهود متفرقة قام بها عدد من النقاد الغربيين من أشهرهم ستيفن غرينبلات؛ لتأسيس مفهوم جديد لمقاربة النص من خارجه اعتماداً على عوامل إشارية سياقية. وفيه حضٌّ للمتلقي على استلهام التأريخ عند تفسير النص الأدبي دون التسليم بحرفيته؛ أو تلقائية تأثيره على العمل الأدبي، ولكن باعتباره أحد مفاتيح القراءة التي تلقي بالضوء على شيء من غوامض النص.

ولكن التاريخانية الجديدة – كما تبدو لي – قد توسعت كثيراً في اشتراط ما ينبغي الإحاطة به لفهم النص الأدبي كالأفكار السائدة في المجتمع، والتقاليد والأعراف، والمنتجات الثقافية؛ الأدبية منها وغير الأدبية، والفنون الشعبية، ومراكز السلطة، ودوائر الثروة، وطبقات المجتمع، وتنظيماته، والتراتبية فيه. ذلك أنها كانت تسعى لتحديد مواضعِ تقاطعِ دوائر المصالح مع مراكز السلطات المختلفة فيه، زعماً أن هذه التقاطعات تمثل مكاناً ملائماً تتضح فيه "شعرية الثقافة" والأفكار السائدة التي عايشها المبدع، وتشكَّلَ في إطارها فكراً وإبداعاً. كما توسعت في مادتها التي يمكن تحليلها ثقافيها كالابتهالات، والطقوس الشعائرية، والدعايات - في رأي غرينبلات - يمكن تحليلها ثقافياً، وإن لم تُتلقَ للوهلة الأولى باعتبارها (فنوناً).

لقد بدا ستيفن غرينبلات، وهو الناقد الأبرز في هذا الاتجاه، حريصاً على تجاوز النص باستحضار القيم من جهة، والثقافة بمؤسساتها وممارساتها من جهة أخرى؛ لأنه يرى أن التحليل المتأني والمستقصي يمكِّن من استحضار الحمولات الثقافي في النص الأدبي القادر على حمل سياقه معه. كما يرى غرينبلات أن النص في مقاربة دائمة بين هذه المرجعيات وما يمكن انتقاله من أفكار عبرها، كالبشر الذين يخضعون لهذه الآلية وقد طوره من مصطلح التاريخانية الجديدة ثم ارتضى في أواخر الثمانينات مصطلح (الجماليات الثقافية/ شعرية الثقافة).


  • [1] أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك عبد العزيز.

لقيت أطروحة غريبيلات أصداء حسنة لدى بعض النقاد في الجامعات الأمريكية وخاصة لدى هيرولد آرام فيزر الذي حاول وضع تأسيس منهجي لهذا الاتجاه في مقدمته لكتاب (The New Historicism) الصادر عام 1989، فبيّن أنه ينطلق من خمس فرضيات تجمع التاريخانيين الجدد على الرغم من اختلاف توجهاتهم في أعمالهم النقدية وتعددها في مقارباتهم للنص الأدبي، وقد أجملها فيما يلي:

أولاً: كل عملٍ تعبيريٍ متجَذِّرٌ في شبكة من الممارسات المادية.
ثانياً: كل محاولة للكشف أو النقد أو المعارضة للعمل التعبيري إنما تستخدم الأدوات نفسها التي تشجبها، وقد تتحول إلى ضحيةٍ للممارسة التي تحاول كشفها.
ثالثاً: النصوص الأدبية وغير الأدبية تذيع معاً ولا تنفك عن بعضها البعض.
رابعاً: لا يوجد خطاب - توثيقي أو متخيل - يستطيع أن يقدم حقائق ثابتة، أو يعبّر عن طبيعة إنسانية لا تغيير.
خامساً: الآليات النقدية واللغة الملائمة لوصف ثقافة ما تحت نظام رأسمالي هي بالضرورة مشاركة في تلك الاقتصاديات.

وعليه فيحق لنا أن نسأل: ما الجديد في (التاريخانية الجديدة)؟ وللإجابة عن ذلك لا بد أن نقرأ هذا الاتجاه في سياقه التاريخي،

فقد ظهرت (التاريخانية الجديدة/ التحليل الثقافي) في سياق الارتداد عن الإيمان بصلاحية المناهج النقدية المنغلقة على النص الأدبي، التي زعمت أن (كل الصيد في جوف الفرا) وأن النص مستغن بما فيه عما هو خارجه، حتى مؤلفه الذي ينبغي له أن يموت! ثم جاءت التاريخانية الجديدة لتعيد إلى المناهج السياقية إلى الواجهة من جديد.

إذن فالتحليل الثقافي أو التاريخانية الجديدة هي امتداد طبيعي للمناهج التي عُنيت بالسياقات المختلفة (الاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية، وغيرها)، ولكنها قد نظرت إلى العوامل المحيطة بإنتاج النص الأدبي، كالوقائع التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية وما شابه ذلك، لا بوصفها معايير صارمة ومحددات دقيقة لمسار التفاعل المتوقع، بل بوصفها هي موطناً للتحليل، واستنباط أنساقها وما يستنتج من قراءتها من أفكار شائعة عن العصر الذي أنتج فيه النص الأدبي، ووسعت دائرة ما يصلح للتحليل الثقافي، كما استعملت مصطلحاتٍ تنتمي إلى حقول معرفية متعددة، كالاقتصاد وعلم الاجتماع ويوظفها في العمل النقدي الذي يعتمد التحليل الثقافي لمقاربة الأعمال الأدبية.

وقد ألمح الغذامي في كتابه "النقد الثقافي" إلى دور نقاد ما بعد البنيوية وأصحاب نظرية الخطاب، الذين جعلوا الأدب يعبر حدود التاريخ وعلم الإنسان والسياسية والاقتصاد، وتهشيم الحدود الصارمة للعلوم المختلفة التي كانت تمثل سياجاً بين هذه المعارف. هذه النظرة الجديدة للتاريخ، والعلاقة بين المعارف المختلفة، وتوظيفها لاستخلاص الأفكار الشائعة في عصر من العصور وتمثلات ذلك في العمل الأدبي هو في ظني الجديد في التاريخانية الجديدة.

كما أرى أن أهم ما يقدمه التحليل الثقافي لأي عمل أدبي هو السعي لإعادة قراءته في ضوء السياقات التاريخية والثقافية المحيطة به لكشف الأنساق المضمرة والمخاتلة، من خلال استحضار السياقات والحمولات الثقافية فيها. كما يُحسب للناقد الثقافي أنه لم ينظر إلى الأدب على أنه انعكاس لسياقه، أو يتصور العلاقة بين الأدب والتاريخ على أنهما سبب ونتيجة، بل نظر إلى العمل الأدبي بوصفة نتيجة لتقاطعات عديدة لشبكة معقدة من الأفكار التي أنتجتها دوائر السلطة والمال في الأوساط الاجتماعية والثقافية التي أنتج فيها العمل الأدبي.

وأظن أن قصور المفاهيم النقدية القديمة كالمحاكاة، والتخييل، والترميز، وعجزها عن فهم الظاهرة الثقافية وتحليها قد أوجد الحاجة إلى مصطلحات جديدة واتجاهات تناسب ما استجد من ألوان وأعمال مادية تتحول إلى فنية أو تنتقل من خطاب اجتماعي إلى فني، لا لأن "الفني متشابك مع المؤسسة الرأسمالية، ولكن أيضاً لأن الخطاب الاجتماعي ذاتيٌّ محمّلٌ بالطاقات الجمالية الفنية" كما يرى يوسف عليمات في كتابه النسق الثقافي. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال فهم الأنساق، والأنساق ذاتها لا يمكن كشفها دون بناء تصور كامل عن المجتمع وبنيته الثقافية والفكرية، ودوائر السلطات فيها ومواطن التنافس والصراع. وأخيراً فإن الحاجة التي أفرزت التاريخانية الجديدة لاتزال في نظري قائمة اليوم، وأرى أننا بحاجة دوماً إلى قراءة ثقافية تتجاوز القراءة الجمالية التي تنظر في النص من حيث الألفاظ، والتراكيب، وطرائق التعبير والتصوير، وتحاكمه إلى معايير معجمية ولغوية ونقدية، وتستنبط المنتج الدلالي العام للنص فحسب. إنه لا مناص من قراءة المنتج الدلالي في إطار مرجعياته الثقافية، وسبيلنا إلى ذلك – دائماً- قراءتان أولاهما أفقية تقرأ كل ما يحيط بالنص من خلال التحليل الشامل لسياقه الذي أنتج فيه؛ والثانية رأسية تغوص حافرة في طبقات النص تستبطن ما أكنّ، وتستظهر ما أخفى وأجنّ، ومن كلتيهما نخرج بقراءة تكاملية هي قوام التحليل الثقافي.