Description missing for this image.

ماغريت، الرجل ذو الألف فكرة

إيمان العزوزي

"مهمة الفنان هي التوجيه، إيقاظ الأعين الأشد تمردا"

بول إيلوار شاعر سريال

نجح الفنان البلجيكي "رينيه ماغريت" أن يُحدث تغييرا جذريا في الفنون البصرية، ولم يقتصر إبداعه على الرسم فحسب، بل تعداه إلى النقش والنحت والتصوير الفتوغرافي وحتى الكتابة والإخراج، في نظره يجب على الفن أن يهدم القواعد التقليدية ويحفز على التفكير، وأكد على أهمية تجاوز مفهوم الفن لمجرد الإمتاع، فهو وسيلة للتعرف على الذات ومن ثم اكتشاف العالم. آمن ماغريت بأن الفن الجيد عليه أن يحتفظ بعناصر الغموض والدهشة، التي تدفع المشاهد للتساؤل، وقد استطاع من خلال أعماله أن يتحدى اليومي والمتداول الذي يحجب عنا الرؤية ويُراكم صورا عشوائية في أذهاننا، وسعى بريشته إلى إزاحة تلك الصور، واكتشاف صور جديدة أكثر عمقا وتحفيزا، يقترب ماغريت من مفهوم التغريب الذي تبناه بريخت ويقصد به هذا الأخير "جعل المألوف غريبا" وهدفه في هذا يتوافق وماغريت وهو إبقاء المتلقي في حالة يقظة واعية مستعدا للنقاش، وكلاهما يقدم المتداول في حكم الجديد القابل للدحض أو القبول.

على الرغم من ارتباط الفنان بالحركة السريالية التي يُعد أحد أعمدتها كما يؤكد عراب الحركة بريتون بقوله: "ماغريت منح السريالية بعدها الأول والأخير."، إلا أن الحركة في بلجيكا تميزت عن نظيرتها الفرنسية بانتماء أفرادها إلى البرجوازية حيث اشتغلوا في مجالات متنوعة كالرياضيات وعلوم الأحياء والمحاماة، لهذا لم تكن أعمالهم مبنية على الحظ أو التقنيات المبتكرة ك"الجثة البديعة" و"الكتابة التلقائية" بل طوروا توجها عقلانيا يرى الفن أداة لخدمة الفكر وهذا ما يجعل ماغريت فيلسوفا، ضلَّ طريقه فأصبح رساما، ولأنه من الصعب الإحاطة بكل أفكاره التي تضمها الألف لوحة التي رسمها، سنقرأ بعضها، تلك التي أصبحت علامة مسجلة باسمه.

الوشاح الأبيض

خلافا لدالي ومعظم السرياليين لم يلجأ ماغريت إلى التحليل النفسي أو أعمال فرويد، وتجنب تقديم تفسيرات للوحاته، ومع ذلك، تكشف لوحاته عن جوانب من ماضيه وطفولته، ترعرع ماغريت في منطقة "هينو" التي كانت تلقب سابقا ب"البلاد السوداء" بسبب وفرة مناجم الفحم والحديد وصناعاتها الثقيلة التي ألقت بظلالها الكئيبة على المنطقة، قضى وقته يقرأ الأدب ويلعب مع أقرانه في المقابر وهناك حدث له التجلي الأول الذي حدد مستقبله حين صادف رجلا يرسم بين شواهد القبور فربط مذ تلك اللحظة بين الرسم والموت، وواجه بعدها لحظة فارقة أخرى حين انتحرت والدته سنة 1912 ملقية نفسها في نهر "سامبر" ولم يكن الطفل ماغريت قد تجاوز الرابعة عشر من عمره، عُثر على جثتها بعد شهر وقد غطى ثوب فستانها الأبيض جسدها و معظم وجهها.

Description missing for this image.

عبّر ماغريت عن مأساة والدته من خلال اللوحات التي رسمها نهاية العشرينات، تُظهر لوحة "هواجس المتنزه بمفرده" 1927 إشارة واضحة للانتحار غرقا، وقد استلهم عنوانها من سيرة "جان جاك روسو"، تصور اللوحة نهرا يشبه في عرضه نهر "سامبر"، وفي الأفق يمتد جسر للمشاة تحت سماء منخفضة تلائم جو البلاد الأسود، في المقدمة يظهر جسد عار وكأنه يطفو في الهواء وخلفه رجل يدير ظهره للجسد وللمشاهد وكأنه يمثل افتتاحية سيرة روسو: "ها قد أمسيت وحيدا، فلا شقيق بعد اليوم، ولا قريب، ولا صديق، ولا عشير سواي."، وعلى الرغم من تأكيدات ماغريت أن عناوين لوحاته ليست تفسيرا لها بل مجرد ومضات شعرية، إلا أنه يصعب ألا نسقطها على اللوحة خاصة لو علمنا أنه كره العودة إلى مدينة طفولته ورفض الحديث عن ماضيه في محاولة منه لقتله.

في لوحة "القصة المركزية" 1928 ركّب ماغريت ثلاثة عناصر تشكل مثلثا، آلة "التوبا" الموسيقية وحقيبة سفر مغلقة وامرأة تغطي رأسها بوشاح أبيض محكَم على عنقها وكأنها تخنق نفسها، تحمل التوبا دلالات السكينة الأنثوية وقد تشير أيضا إلى جهاز التنفس تحت الماء، تبدو الألوان في العمل باهتة مع التركيز على ظلال اللون البنّي، تعكس اللوحة برفقة لوحته الأخرى "الفيضان" 1928 هواجسه المرتبطة باختناق والدته ساعة غرقها.

سيظهر الوشاح مجددا في سلسلة أعماله التي تحمل عنوان" العاشقان"، في اللوحة الأولى نرى العاشقين يتبادلان القبلة خلف وشاح أبيض يُخفي وجهيهما في محيط أنيق يزيد القبلة توهجا، يعتبر الوشاح الأبيض عنصرا محوريا في المشهد إذ يشير إلى فكرة الحب الأعمى ذاك الذي جمع والديه، يحتفظ ماغريت بالزوجين في اللوحة الثانية، لكنهما يواجهان المشاهِد ويخرجان من الفضاء المغلق إلى مشهد طبيعي أخضر يذكرنا ببدايات ماغريت الانطباعية، وفي اللوحتين الأخيرتين، يزيل ماغريت الوشاح الأبيض عن العاشقين ويقتصر على رأس الرجل دون جسده محتفظا به دائما بالقرب من المرأة، وعلى الرغم من غياب الجسد ما يزال الرجل مهيمنا على المرأة في محيط يعود مجددا في اللوحة الأخيرة إلى الفضاء المغلق، وكأنه بهذه السلسلة يوثق حياة والديه المشوبة بأشباح الموت والعزلة والاختناق.

Description missing for this image.

هذا ليس غليونا

خلال إقامته في باريس، شهد ماغريت فترة إبداعية متألقة، حيث احتك بأعلام السريالية هناك وأنتج ما يزيد على 150 لوحة، من بينها تبرز مجموعة "اللوحة-الكلمة" التي تستكشف العلاقة المعقدة بين الصورة والنص، في هذه الأعمال تصبح الكلمة جزءا لا يتجزأ من لغته البصرية، ومن نفس طبيعة الرسمة. يُظهر ماغريت اهتماما خاصا بالتناقض بين الأشياء كما هي في الواقع وتمثيلها البصري والكلمات المستخدمة لوصفها، بهذه الطريقة استطاع أن يمنح الفن التشكيلي قوة خطابية مماثلة للغة، مما يعيد تشكيل نظام التواصل التقليدي. ومن خلال هذا النهج تحدى ماغريت الأولوية التي تمنحها السريالية للشعر على الفنون الأخرى وقد كان هذا التحدي أولى المواجهات مع بريتون والتي انتهت بعودة ماغريت إلى بلجيكا.

أشهر لوحات هذه المجموعة هي "خيانة الصورة" 1928 التي تجسد غليونا مع نص "هذا ليس غليونا"، يؤكد ماغريت أن الغليون مهما كان واقعيا في الرسمة المتخيلة يظل في النهاية مجرد صورة لا تمتلك وظيفة الشيء في الواقع، يصفها متهكما:" هل تستطيع تدخين الغليون؟ كلا، إذن فهو ليس غليونا."، يشير بهذه المفارقة إلى الجدل القائم بين الخيال والإدراك والمعنى السيميائي للأشياء.

على عكس ما يعتقده البعض، لم تكن لوحة "خيانة الصورة" ردا على بريتون وصديقه الشاعر بول إيلوار في معرض جوابهما عن سؤال: "ما الشعر؟" بـــــــ:" الشعر هو غليون"، في الواقع اللوحة سبقت جملتهما، وقد استخدم الشاعران تصور ماغريت في معارضتهما الشهيرة لتأملات الشاعر فاليري حول الشعر التي اختتمها بقوله: "الشعر هو البقاء".

Description missing for this image.

اللوحة داخل اللوحة

تجسد لوحة "الحالة الإنسانية" 1935مفهوم "اللوحة داخل اللوحة"، وهو الموضوع الأثير لدى ماغريت، تشير اللوحة بوضوح إلى كهف أفلاطون وإلى التقليد الإغريقي الذي يرى أن الفن ليس سوى محاكاة للطبيعة، يُظهر العمل حاملا يدعم لوحة غير مؤطرة تواجه منظرا طبيعيا من خلال فتحة كهف تضيئه نار مشتعلة، سيعتقد المشاهد أن اللوحة هي امتداد للمشهد الذي تغطيه وبالتالي القلعة المرسومة موجودة حقا خلف الحامل في المشهد، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: "هل ما يُعرض في اللوحة يمثل حقا ما يخفيه؟"، في الواقع كلٌّ من اللوحة والمشهد المرسوم داخلها يمثلان جزءا من الخلق الفني بحيث لا يوجد تمييز واقعي بينهما، لكن عقلنا يخدعنا بتصور المشهد واقعيا والرسمة محاكاة له، هذا الاستعداد الذهني هو ما ألهم ماغريت تسميتها بالحالة الإنسانية التي تتأرجح بين الواقع والخيال، تصف الفيلسوفة باربارا كاسان العمل قائلة: "الرسم لدى ماغريت ليس تصويرا للأشياء، بل هو تصوير المحاكاة، تصوير العملية ذاتها في أدق تفاصيلها، تصوير فعل الرسم، فهو ليس عملية ذهنية وحسب بل عملية تكشف الفكرة وتعرضها هنا والآن أمام العالم."

رجل من الحشد

سنة 1964، لبى ماغريت طلب محاميه "الأمريكي تورتشينر" " Harry Torczyner" برسم بورتريه ذاتي، وعلى الرغم من سخريته من فن البورتريه واعتباره نوعا من النرجسية، رسم "ابن الإنسان"، يظهر في اللوحة رجل يلبس معطفا وقبعة بولر، وهو اللباس الذي اشتهر ماغريت بارتدائه، وقد أبقى على رغبته في الاختفاء من خلال استخدام عناصر التمويه المألوفة في أعماله، مثل الجرس و الطائر، في هذه الحالة استخدم تفاحة خضراء مورِقة تطفو أمام وجه الرجل، مخفيةً ملامحه باستثناء جزء صغير من الحاجب والعين في إحالة أخرى إلى وجه والدته أول ما عثر عليها، هذه التفاحة التي أصبحت وجها بحد ذاتها، تخفي الواضح وتترك الشخصية مجهولة، تتماهى مع بيئتها التي يسودها اللونين الرمادي والأزرق الشاحب.

من خلال هذا العمل يعبر الفنان عن الصراع المستمر بين المرئي الظاهر والمرئي المخفي على حد قوله، يترك ماغريت أبواب لوحاته مواربة تسمح كما قال باشلار للوجود بأن يكون مرئيا ومخفيا في نفس الوقت، وقد وضح قائلا في هذا السياق: "كل شيء نراه يُخفي شيئا آخر والإنسان يتوق على الدوام إلى رؤية ما يختفي وراء ما يراه." تسمح رؤيته هذه أن تأخذ التفسيرات ما تراه مناسبا لسياقها، فالتفاحة قد تشير لآدم وخطيئته الأولى التي أثقلت كاهل البشرية، كما قد يشير الرجل إلى المسيح المخلص أو إلى إنسان القرن العشرين في مواجهة الحداثة أو إلى أبطال مسرحية صامويل بيكيت "في انتظار غودو".

ومن المثير للاهتمام أن شخصية الرجل في لوحات ماغريت تكاد تكون مستوحاة من كاتبه المفضل إدجار ألان بو وتحديدا قصته "رجل من الحشد" حيث يتبع الراوي رجلا يرتدي معطفا وقبعة ويحاول الاندماج والذوبان بين الحشود في لندن، وعلى الرغم من ملاحقته إلا أنه لم يتمكن من التحدث إليه ووصفه بأنه رجل الحشد الذي يفضل البقاء وحيدا. وهكذا عاش ماغريت، رجلاً راغبا في الاختفاء، يقدم أعماله وأفكاره التي ما تزال تثير العديد من التأويلات والجدل وتفتح أشد العيون انغلاقا وتمردا.

Description missing for this image.