محمد عرب صالح
يَنْماز كلٌّ من السرد والشعر بطبيعتهما الخاصة الفارقة بينهما وبين باقي الأنواع الأدبية، وثمة علاقة تبادلية تأثرية تطال السرد والشعر عند تداخلهما، تضرب هذه العلاقة بجذورها في أعماق تاريخ الإبداع الأدبي منذ إرهاصاته الأولى، والشعر بطبيعته يطمح أن ينقل تجربة أو شعورًا أو رؤى معينة، متسمًا بغموض الأسلوب – بدرجة ما – ومَرَدُّ ذلك راجعٌ إلى طبيعة الشعر نفسها وغاية الشعر في ذاته، فالشعر الحقيقي دائم التجدد طالما يتجدد قارئه.
ويحتمل السرد خارج النص إجابة على سؤالين مؤداهما: كيف يسرد الشاعر خارج النص الشعري؟ وما هي طبيعة وأثر ذلك السرد الخارجي الذي يستدعيه المتلقي معتمدا على مفاتيحَ نصية أو ضمنية داخل القصيدة؟
وانطلاقا من المبدأ النقدي القائم على أن "أساس إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه للعالم، وهذه المعرفة هي ركيزة تأويل النص من قبل المتلقي "()، فقد لزم أن أضع حدًا فاصلًا بين السرد خارج النص، ومصطلح التناص، فالأول هو وجه مختلف عن التناص؛ لأن التناص في تعريفه كما أورده جينيت "هو الوجود الحرفي (الحرفي تقريبا، التام أو غير التام) لنص داخل نص آخر"()، وهذا مالم يعتمد عليه الشاعر داخل النص الشعري ـــ كما سيتضح فيما سيأتي من البحث ـــــ وإنما ترك ذلك للمتلقي أو بالأحرى لقارئ النص الشعري، والمقال ليس معنيا – في المقام الأول- بالمفاضلة بين النصين (الشعري، والمستدعى) فلكل منهما جمالياته وفنياته، بقدر العناية بالبحث في تجسيد التفاعل الخلاق بين الماضي والحاضر، وهل كان توظيفه لذلك الاستدعاء حيويًا في إطار فكرته الرئيسة، أو جامدًا لا يضيف للنص طاقة تعبيرية فاعلة؟
ولعل الجزء الثاني من عنوان البحث (سرد العنوان) يشير إلى دلالتين أساسيتين عندما يُطرح لأول مرة، فالدلالة الأولى: كون العنوان – شكلًا أو مضمونًا – يحتمل تقنية من تقنيات السرد مثل: (الاستباق، أو الاسترجاع، أو الحكي...).
والثانية: أن العنوان مقام السارد عندما يشير إلى نص غائبٍ موازٍ للنص الشعري، في محاولة لفتح باب آخر للقراءة على مصراعيه، تتجلى في دلالته السردية خارج النص الشعري، وأثر ذلك في النص، ومن ثم تأثيره في عملية التلقي التي هي المحور الأساس في هذه العملية الإبداعية المتبادلة. وللعنوان وظيفة تداولية ترتكز بشكل أساسي على المرسل إليه وهو (الجمهور)، وأقول: الجمهور؛ لأنه مفهوم أوسع وأشمل من مصطلح (القراء)، فقد يصل العنوان عبر ألسنة أشخاص لم يقرؤوا الديوان أو القصيدة إلى أناس لم يقرؤوا أيضا، ومن ثم فإن من يرسل إليه النص هو القارئ، أما من يرسل إليه العنوان فهو الجمهور().
وقد اقتصر المقال على قراءة مقتضبة في شعر محمود درويش وأمل دنقل ومحمد الثبيتي عبر أعمالهم الكاملة. فمن بين عناوين الدواوين الثلاثة والعشرين التي نشرها درويش لا يوجد سوى عنوان ديوان واحد وهو "أحد عشر كوكبا"، والعنوان – من الوهلة الأولى – يحيل إلى الحكاية القرآنية عن حلم يوسف ورؤيته أحد عشر كوكبا، والديوان يحمل بين طياته ست قصائد من المطولات الشعرية للشاعر"وقد اتخذ درويش من النبي يوسف عليه السلام قناعا لقصائده لما يرمز له هذا النبي من أهمية في قضية الرؤية وقراءة المستقبل، وما تحمله تجربته من أبعاد إنسانية تراجيدية تمثلت في اجتثاثه من حضن أبيه من قبل إخوته، ورميه في الجب للتخلص منه، ومن ثم سجنه زورًا وبهتانًا غريبا بمصر، بعيدا عن وطنه فلسطين"().