Description missing for this image.

النسيان رواية لإكتور آباد فاسيولينسي

إيمان العزوزي

في روايته (أرض الماء) يقول (جراهام سويفت): "لا، لا تنسَ الأمر، لا تحذفه، لا يمكنك فعل ذلك، فقط سقه في قصة". بفضل ذلك تغدو القصص ضمن صورها المتعددة شهادات على ماضٍ متأصل في ذاكرتنا، تؤثر فينا متى قرأناها بغض النظر عن خلفيتنا الثقافية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية، وتدعونا إلى التحيز مع كاتبها كشاهد عيان على الفاجعة.

في منفاه الاختياري؛ لم ينسَ الروائي الكولومبي (إكتور آباد فاسيولينسي) أباه، كما لم ينسَ وطنه وشعبه، منعته الغصة في حلقه من التحدث أو الكتابة لعقدين من الزمن، لكنه قرر أخيرًا سنة 2006م كسر حاجز الصمت، وملء الصفحات البيضاء بالذكريات. تحكي هذه الذكريات قصة عائلة كولومبية عاشت مأساة فريدة عرفت الفقد والمرض والموت؛ حيث أعقب وفاة ابنتهما النابغة ذات الحس المرهف اغتيالُ الأب؛ لتشمل المأساة الخاصة العام كذلك، يحاول (إكتور) لمَّ شظايا هذا الماضي، مفككًا مفهوم النسيان. قد تبدو فكرة العنوان ملتبسة مع الغرض من السيرة فكيف للنسيان أن يكون حارسًا للذاكرة؟

يعرض (إكتور) في كتابه سيرة والده الطبيب والناشط والفاعل الجمعوي (إكتور آباد غوميز)، الغارق في هموم المواطن وحقوقه، في بلد مزقته حرب أهلية طاحنة اتسمت بالغموض والارتباك وتعدد الأطراف وتشابك الأهداف. كُتبت السيرة من خلال استرجاع الذاكرة، ذاكرة الطفل والشاب ثم الكهل، يجمع (إكتور) قصاصات سِيَريّة ليعيد تشكيل لوحة الأب والعائلة ثم البلد، وما يميز هذا السرد أننا ندرك سلفا نهايته المأساوية؛ لأن آباد الأب اُغتيل سنة 1987م بعد انتقاده اللاذع للجماعات شبه العسكرية التي استباحت كولومبيا. نكتشف حياة الأب من خلال عيني الابن المحب والفخور بوالده، وهذا ما قد يستغربه قراء الأدب بمختلف أجناسه، فهذه العاطفة السوية بين الابن وأبيه قلما نجدها في الأعمال التي مرت علينا، بل نقرأ نقيضها لدى دوستويفسكي، وكافكا، وفيليب روث، وغيرهم ممن أدانوا الأب، بل ذهبوا أبعد من ذلك وطالبوا بقتله، وهذا ما فسره فرويد في مقاله الشهير (دوستويفسكي وجريمة قتل الأب).

تُقدِّم السيرة ضمن المحكي وضمن ما يستنبطه القارئ بين سطورها، بيداغوجية أسرية فاتنة، حيث خلق آباد الأب أسلوبًا تربويًا لافتًا تجاه أطفاله؛ يقوم على الاحترام غير المشروط والمحبة المتبادلة بين أفراده، ليقينه بأن العطاء والإخلاص في المحبة سيقابل بالضرورة بمثله أو أفضل منه، راهن الأب على ذلك في علاقته ببلده وأهلها ولم يكن يعتقد أن يقينه سينقلب يومًا رصاصة تشق صدره.

Description missing for this image.

قد يظن القارئ أن السيرة تبالغ في تقديس الأب وتجريد صورته من كل شائبة؛ لكن السرد في (النسيان) يتبنى منظور الطفل الذي ظل مهيمنًا مهما حاول الكاتب الهروب منه. نشأ (إكتور) في سياق متوازن رغم الاختلافات الجلية التي هيمنت على أسرته؛ فقد كان والده اشتراكيًا علمانيًا، في حين حافظت الأم على إيمانها الكاثوليكي، أما شقيقاته فقد اتبعت كل منهن مسارها المستقل، وعلى الرغم من هذه التناقضات حافظت الأسرة على هدوئها الظاهر، إلا أنها كغيرها من العائلات عرفت أوقاتًا عصيبة وأسرارًا عالقة يصعب على الكبار والأطفال اكتشافها أو التحرر منها.

اختار إيكتور لروايته عنوانًا لافتًا وهو (النسيان الذي ينتظرنا)، وقد فضل المترجم مارك جمال في الترجمة العربية اختصاره إلى كلمة واحدة (النسيان). اقتبس الكاتب العنوان من أول أبيات قصيدة (هنا، اليوم) وهي سونيته تشاؤمية منسوبة للكاتب الأرجنتيني (بورخيس)، وجد قصاصتها بإحدى جيوب والده يوم مقتله مكتوبة بخط يده ومذيلة باسم بورخيس، وقد أثارت القصيدة جدلًا واسعًا في عالم الأدب اللاتيني، واتُّهم الكاتب بالتلفيق كما أكد شارحو أعمال (بورخيس) أن أسلوب السونيته غريب على قلم الشاعر، ونفت أرملته (ماريا كوداما) الأمر غاضبة من تكاثر القصائد المنسوبة لزوجها.

اختار إيكتور لروايته عنوانًا لافتًا وهو (النسيان الذي ينتظرنا)، وقد فضل المترجم مارك جمال في الترجمة العربية اختصاره إلى كلمة واحدة (النسيان). اقتبس الكاتب العنوان من أول أبيات قصيدة (هنا، اليوم) وهي سونيته تشاؤمية منسوبة للكاتب الأرجنتيني (بورخيس)، وجد قصاصتها بإحدى جيوب والده يوم مقتله مكتوبة بخط يده ومذيلة باسم بورخيس، وقد أثارت القصيدة جدلًا واسعًا في عالم الأدب اللاتيني، واتُّهم الكاتب بالتلفيق كما أكد شارحو أعمال (بورخيس) أن أسلوب السونيته غريب على قلم الشاعر، ونفت أرملته (ماريا كوداما) الأمر غاضبة من تكاثر القصائد المنسوبة لزوجها. هذا الهجوم دفع (إكتور) إلى اقتفاء أثر القصيدة، خاصة وأنه أضاع الورقة التي وجدها في جيب أبيه ولم يكتب أبياتها إلا من الذاكرة، فكتب سنة 2009م قصة طويلة بعنوان (قصيدة في الجيب)، تحكي تفاصيل رحلاته ومراسلاته باحثًا عن أصل القصيدة، واستطاع تقديم كل البراهين التي تثبت نسبة القصيدة لبورخيس. وقد ضمنها كتابه السِيَري الآخر (خيانات الذاكرة)، ويذكر (إكتور) في قصته المفارقة العجيبة التي رافقت مقتل والده، فإذا كانت القصيدة في جيب سترته لم تمنع عنه رصاصة الغدر فهي في المقابل بعثت قصيدة مجهولة من مرقدها وأنقذتها من النسيان.

Description missing for this image.

يرى (إكتور) أن النسيان البورخيسي استطاع أن يوحد المأساة الكولومبية في شخص والده، فهو الشاهد على ذاكرة الابن المتشظية. يعترف (إكتور) أن ما يعيب الذاكرة هي تلك المساحات التي يغلبها النسيان؛ فهي ذاكرة قصيرة العمر جدًا؛ لأن الإنسان لا يغفر أبدًا، لا يستطيع أن يغفر لكنه يستطيع أن يتناسى، ومتى تقدم به العمر واقترب بدوره من دائرة النسيان؛ ينتفض محاولًا ترك أثر يحفظ ذاكرته وذاكرة سلفه حية، وقد كان هذا دافعه الأساس للكتابة.

يراهن (إكتور) على الإنسانية، فكلنا إخوة ما دمنا نملك أفكارًا ونتواصل من خلالها، كما نتشابه في مشاعرنا وأحاسيسنا، ونحن القراء -كوننا أول متلقٍ للكِتاب، والمحاور الأول للكاتب- يرانا (إكتور) رفقاء طريق، نحيي الذاكرة من خلال الحديث عنها ونواجه بذلك النسيان، مستخدمين الكلمة والرواية والتواتر، وكلما اقتربنا من فهم هذه السيرة وما مرت به هذه الأسرة فإننا بشكل ما نؤخر موت الأب الذي يشير إلى الذاكرة الجمعية بوصفها تاريخ أمة، وهكذا سيكون النسيان أو الأصح الخوف منه هو المحفز الدائم لنبش الذاكرة، وتصبح الكتابة الحارس الدائم لها.

قد تكون (النسيان) رواية فاجعة، لكنها مكتوبة بحس شاعري وبذكاء ودقة، يقول عنها (ماريو فرغاس يوسا) البيروفي في مقالته (الكتب والصداقة) واصفًا كاتبها بأنه: "يتلاعب بمهارة بمزاج القارئ، ويخفي عنه بعض المعلومات، ويلهيه، من أجل إثارة فضوله وتوقه، مما يرغمه على المشاركة في المهمة الإبداعية، يدًا بيد جنب المؤلف". وتظل الرواية -رغم كونها تحكي أحداثًا تاريخية- ذاكرةً تراوح بين الخيال والحقيقة، ويؤكد (إكتور) على عنصر الخيال فيقول: "كان هذا هو عنصر الخيال الوحيد في ذلك الكتاب: تضخيمي للذكريات؛ لأن ذاكرتي كثيرة الخيانة وأنسى كل شيء تقريبًا".

Description missing for this image.