تجليات صورة الوطن على الشاشة: رؤية نقدية

د. محمد البشير

يسكن مفهوم الوطن في وعي صناع الفنون والآداب، بوعي أو دون وعي، ويكمن الإبداع في انعكاس مكانة الوطن، بسلاسة دون أن يجيّر هذا التوظيف والاشتغال إلى الاعتساف، والتكريس، ولي أعناق الفن والأدب من أجل تلميع الوطن أو تمجيده، فالوطن لا يحتاج إلى ذلك، وكل أوطان الخلق عزيزة عند أهلها. فيلم Dunki من إخراج الهندي (راجكومار هيراني) وتأليفه بمعية (كانيكا ديلون)، و(أبهيجات جوشي)، وبطولة الشهير (شاروخان)، نقدمه وسيلةً لفهم صورة الوطن لدى أكثر الشعوب عددًا مؤخرًا، فوفقًا لخبر صدر على عربية سكاي نيوز، "أعلنت الأمم المتحدة أن الهند ستتجاوز الأسبوع المقبل الصين من ناحية عدد السكان، لتغدو الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم بنحو 1,43 مليار نسمة"()، وهذا العدد لمن يسكن الهند، فكيف بمن هم خارجها؟

ويأتي تناولنا لفيلم هندي لأن بوليوود لا تقل أهمية عن هوليوود، ولها جماهيرها، فالهند "أكبر مُنتج أفلام في العالم"()، وحضور السينما منذ عام 1896 عندما عرض الأخَوان (لوميير) أول فيلم في فندق (واتسون) ببومباي؛ لتصنع الهند نكهة سينمائية خاصة، كعادة الهنود بصناعة ألوانهم، وظلت أفلامهم محل النظر والمشاهدة؛ فمشاهدوها في العالم أجمع من بني جلدتهم ومحبي أفلامهم من الأعراق الأخرى، والمتأثرين بحضارتهم العريقة، وألوانهم ورقصاتهم وأسلوبهم، ووقع الاختيار على هذا الفيلم تحديدًا، لوجود ثناء خاص لوزارة الثقافة في بداية الفيلم، وتصويره في السعودية، ولدورانه على صورة الوطن لدى عرق آخر.

  1. المحتل/الحلم

    الهند مرت بالاحتلال البريطاني ضمن إمبراطوريتها العظمى منذ بداية القرن التاسع عشر، وحتى استقلالها وتقسيمها عام 1947، وبداية قلاقل المحتل بهذه الحدود، لتكون الهجرة إلى بلاد المحتل حلمًا يجسده الفيلم.

    الفقر والظروف الاقتصادية جعلت الهجرة من أجل كسب المال؛ حلم كثير من الهنود، فتعلموا الإنجليزية من أجلها، وهذا ما سرّب الكوميديا في تراجيديا الهجرة المفرطة في السواد؛ لتكون الكوميديا خيوطًا بيضاء تزيّن سواد الحالة، فلا يقهر الحزن سوى قليل من الضحك، وهذا ما يجعل هذا الفيلم أو غيره خاضعا لطرفي عملية الاتصال الملقي/المتلقي وثقافتهما ومزاجهما، فالكوميديا كما يقول (محمد رضا) تعتمد "على المُلقي (مصدره الاجتماعي والثقافي وغايته) والمتلقي (الصفات ذاتها)"

    فالأفلام الكوميدية المحلية، ربما تفقد شيئا من خفة دمها خارج وسطها، وطبيعة الأفلام الهندية حشد كثير من المقومات لإرضاء أكبر قدر من المشاهدين، ولذا جاءت الكوميديا لطيفة داخل السياق، واستثمار الحالة بتنوع الشخصيات، واللعب على ما يمتلكه كل شخص (الدافع/الحلم)، فعندما تعثّر أحدهم، ووصل إلى مرحلة لا تُطاق، أشعل في جسده النار؛ ليكون شعلة ووقودًا للإقدام على الوسيلة الثانية الأصعب، والأقسى، والتي حملت عنوان الفيلم (DUNKI) وهي الهجرة غير الشرعية عبر طريق قليل من ينجو فيها؛ ليروي. ونجح أبطال الفيلم في رحلة العبور، وانتقاد الأمم الأخرى بابتزازهم، وتصويرهم بالمعتدين، والمغتصبين، والانتصار عليهم بقوة البطل الهندي المعروفة.

Description missing for this image.
  1. الحلم/الكابوس

    لحظة الوصول الباهرة كانت على قدر مشقة الطريق، والكابوس عندما انهار الحلم بقبح الواقع، فالمهاجرون يعيشون في ظروف لا تليق بآدمي، ويمتهنون مهنًا تخالف ما يكذبون به من صورهم التي يتناقلونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإبداء النقطة المضيئة أمام محيط مظلم يقبع خلف الصورة. لعب الحوار دورًا وعظيًا مباشرًا بتصوير الحالة وتبريرها، فمن انتقده البطل بكذبه وتزييفه للواقع؛ جابهه بالأثر العائد على والدته في الهند بفضل الأموال التي يرسلها، والفخر الذي طالها من وجوده في بريطانيا، فقليل من الوهم لا يضر؛ ما دام يعود على والدته بالنفع.

    إن توزيع الحكمة على ألسنة الشخصيات، والتناوب في تناولها كان باديًا، فحين يأتي الجواب المقنع بجمال الوهم أمام قبح الواقع من شخصية فرعية، فلا بد أن ننتظر الحكمة من البطل الذي فجّرها في ساحة المحاكمة، وأدار حوارًا وطنيًا بامتياز، وهذا ما يبرر العناية بالشخصية وخلفيتها، فالبطل نتاج تربية عسكرية، والمحكمة تطلب منه أن يدّعي اضطهاده في وطنه من أجل أن يظفر باللجوء السياسي، والفوز بوطن بديل، وهذا ما رفضه البطل دون أن يترك الرفض بلا تبرير، فكل ما ساقه من حجج؛ تضع الدول المتقدمة في مأزق حقيقي؛ حين ترضى بالكذب، وهي تدرك أن الأمر خلاف ذلك، بينما يستحضر وطنه المرحب بالطير في هجرته السنوية من جليد روسيا، واللوذ بدفء الهند، فهل نظام الطير أكثر آدمية من بلد الحريات والإنسانية؟!

    عاد البطل لبلاده ولم يخنه بكلمة، وفارق محبوبته التي هاجر من أجلها ومعها قبل أن يفصح لها بذلك، ولسان حاله يقول:
    بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ - وأهلي وإن ضَنّوا عليّ كرامُ
    عاد البطل ولم يعد من معه، واضطروا لطعن بلدانهم من أجل لقمة عيشهم، على اعتبار أن الأم لا تغضب على بنيها مضطرين غير راغبين، وهذا ما يبرر الحقيقة التي تسكنهم، وتعيدهم بعد سنين، ولكن ولات حين عودة! فلا الهند تستقبلهم بعد هجرها، ولا أجسادهم تقبل بالموت خارج تراب الوطن.
Description missing for this image.
  1. الحاجة لمخلّص

    يظل البطل هو المنقذ في مثل هذه المواقف، فيعود المهاجرون عبر دبي نقطة اجتماع لهم، ويعزمون على التفكير في طريق للعودة، وقد جال الفيلم كثيرًا في البلدان أثناء هجرتهم الأولى، وعلى غرار تلك الهجرة؛ فكّر البطل في خطة عبر وسيط كما كانت سابقتها؛ لتكون السعودية وسيلة للعودة، وكما أن شيئا من الصورة النمطية للهندي عند العرب، في تكرار قول "شايفني هندي؟!"، وتوظيف شخصية الهندي في الظُرف والتندّر! وجدنا أن هذا الفيلم يصوّر شرطيًا بهذه الصورة! حين استثمر حزمه في القبض عليهم، والعزم على معاقبتهم بإعادتهم لديارهم، وتحقيق أمنياتهم دون أن يعلم، والتركيز على إيصال رسالة الحماقة لهذا الشخص، أمام دهاء البطل والوسيط، ودون أي مشقة وعنت، بل عبر طائرة ودون تحمل تكاليف السفر!

    هذا ما يدعونا إلى التفكير مليًّا في تعزيز صورتنا أمام الآخرين، واستثمار حضور الإنتاج في وطننا بما نفرضه من احترام دون إملاء، فأجمل التقدير ما جاء عفو الخاطر، وانعكس قولًا وفعلاً، والنظر إلى الجانب المشرق من الحدث بالكرم المعتاد، والذي لا يقرأه المقابل بهذا التصور، فالإمساك بوسط العصا مطلب إن استطعنا تحقيقه.

    وختامًا.. من حق كل أمة الافتخار بذاتها، وهذا ما رسمته هوليوود بصورة البطل الأمريكي الخارق، الناصر للحق أمام العدو الذليل الإرهابي المعتدي، وتعزيز الحلم الأمريكي في نفوس المواطنين بالحياة الآمنة؛ حتى لا تجد من يجادل في هذا الثابت لديه، وفي المقابل كان الاتحاد السوفيتي على وعي بأهمية السينما منذ أن شاهد (لينين)() فيلم (Intolerance) (التعصب) عام 1916 للمخرج (ديفيد جريفيث)، وقد كان الفيلم محل اهتمام (لينين) كثيرًا؛ لدرجة أنه أصبح هذا الاهتمام فعلًا لاحقًا بقرار تأميم السينما الروسية()، وإسناد مهمة التنفيذ عام1920 إلى أناتول لوناتشارسكي؛ وعيًا بأهمية الفيلم في تعزيز قيم المواطنة، وهذا ما يدعونا إلى صناعة أفلامنا بوعي واكتمال مقومات الصناعة دون عسف أو تقرير، واستثمار مستقبل أفلامنا بأبطال خارقين، وما أكثرهم، ووطن يُفتخر به، وهو مكان للفخر وزيادة.
Description missing for this image.