إيمان العزوزي
انطلق الكاتب الليبي خليفة الفاخري من شاطئ بنغازي محلقا في سماء ليبيا نحو العالم، يبيع الريح للمراكب ويتجول بين المنافي ويعشش في أحلام الناس، حين نطالع أعماله مُحاولين اقتفاء أثره، نتفاجأ من كثرة الحكايات الغريبة والطّريفة المتداولة حوله، ونكتشف أنّ هذا الرجل لم يكن أديبا بما اقتطعه من روحه ليزرعه على الورق فحسب، بل حكاءً بارعا يعكس جوهر الأدب في حديثه وتعامله مع الآخرين، وحتى في نمط حياته الذي يستحق أن تُروى عنه الحكايات كما تَروي قصصه حكاية بنغازي.
"إنه يصلي صلاة الجنقي المسيحي"
في عام 1942م والحرب العالميّة الثانيّة لم تضع أوزارها بعد وُلد الكاتب والقاصّ اللّيبي " خليفة الفاخري" بمدينة بنغازي التي لم تنجُ من رشقات القصف الجويّ؛ فما كان من ساكنيها إلّا الهجرة بحثا عن سماء آمنة ومنهم أسرة الكاتب. بعد استتباب الأمن عاد المهاجرون إلى مدينتهم، فالتحق خليفة بالجامع حيث تتلمذ على يد فقيه مغربيّ من مرّاكش، والذي برغم مظهره الموحي بالقسوة والغلاظة إلّا أنّه استطاع أن يستلب الفتى استلابا بحسن وجمال قراءته للغة العربية، فأقبل خليفة على دراستها بحبّ، فحفظ القرآن الكريم، ممّا يسّر عليه حفظ النّصوص الأدبيّة الأخرى بمستوى عال من الإتقان.
في تلك الفترة وبنفس الميدان الذي يوجد به الجامع، ميدان الحدادة، كانت هناك مكتبة من أشهر المكتبات اللّيبية آنذاك وأقدمها، مكتبة "بوقعيقيص" التي أسّسها في العشرينات من القرن الماضي "محمد علي بوقعيقيص" وهو ينحدر من إحدى العائلات الثرية في بنغازي، وتعتبر أوّل مكتبة حديثة مملوكة للّيبيين، وقد كانت منارة فكر: ونقطة ارتكاز ثقافيّة في المدينة، يحجّ إليها المثقّفون والراغبون بالاطلاع على جديد الصّحافة والنّشر العربيّ.
وفّرت هذه المكتبة الكتب، والصّحف، والمجلات العربيّة، وفتحت الباب على مصراعيه بين المشرق والمغرب، من أجل ذلك تبوّأت مكانة مرموقة في الميدان فظلّت على مرّ سنوات طوال علامة بارزة لا تفوت العابرين ولا تخفى عن الزّائرين. ومن المتأثّرين بمعروضاتها كان خليفة الطّفل؛ إذ كان كلّما غادر الجامع تطالعه واجهتها بجديد العناوين وقديمها فتغريه للاقتراب منها غير أنّ رقّة الحال حرمته متعة شراء الكتب؛ غير أنّ ذلك لم يمنعه من تأملها والافتتان بأغلفتها وبخطّ عناوينها اللّافت الأنيق، وهكذا ولع صديقنا بفنّ الخطّ وعمل على تطوير مهاراته فيه حتى أصبح المكلّف برسم ختمة الجامع، وبقي الشّغف بالخط العربي متقدا بين أصابعه يلازمه إلى أن أصبح فيما بعد خطّاطا.