سرد البداوة وإشكالية المفهوم

أ.شتيوي الغيثي

منذ أن طُرحت فكرة سرد البداوة بوصفها أحد تمظهرات الذاكرة الجمعية لمجتمع الجزيرة العربية، أو أحد تجليات الصحراء على امتداد أجزاء كبيرة من العالم العربي؛ والمفهوم يخضع لحالة من التساؤل والاعتراض أحيانًا -وربما التحفظ على أقل تقدير- ممن يقف أمام هذا المفهوم موقف المساءلة الثقافية؛ لا لأنَّ هذا المفهوم غير حاضر في الذهنية العربية، وإنما لأنه يصبغ السرديات العربية المتنوعة صبغة واحدة، أو يضعها وفق إطار كُلّي جامع، فضلًا عمّن يذهب باتجاه أن السرديات العربية في المتخيل القديم سرديات متنوعة في أصلها، بصرف النظر عن أصولها الثقافية البدوية في معظمها، ومدى جعلها جذورًا للسرد العربي الحديث بكافة أجناسه الأدبية المختلفة. وعلى رغم أنّ عددًا من النقاد أحالوا على السرديات العربية القديمة دراسة وتأصيلًا من أمثال (سعيد يقطين)[1] وغيره، إلا أن بعض النقاد مازال يعترض على اعتباره تأصيلًا للرواية الحديثة.

وإذا أضفنا إلى ذلك كله علاقة السرد الروائي الحديث بالبداوة فإن الأمر سيطرح إشكالية أكثر تعقيدًا تتعلق بالرواية بوصفها جنسا أدبيا حديثا. ولأنها كذلك؛ فهي منتج مدني أكثر من كونها منتجًا ينتمي إلى المعطى البدوي، أي أن ربط البداوة بالرواية سيكون ربطًا غريبًا، وربما مستهجنًا، فالرواية بنت المدينة كما يُقال، ولا يمكن طرحها بنتًا للبداوة إلا في أضيق حدودها، بنوع من التجاوز الذي ربما يقبله بعض النقاد. وهذا الطرح صحيح في بدايات الرواية الأجنبية أو الرواية العربية، لكن الناقد (عبدالله إبراهيم) سبق وطرح فكرة مغايرة، وذهب باتجاه حالة السرد في الصحراء من خلال ما يسميه بـ "رواية الصحراء" من خلال تمثيل المخيال الصحراوي في روايات إبراهيم الكوني، على اعتبار أن السرد فيها أعاد تشكيل المرجعية الصحراوية، فجعل منها حاضنة لكل الشخصيات والحكايات المسرودة التاريخية، وغير التاريخية فضلًا عن أساطيرها وعزلتها[2]، وهي فكرة فتحت المجال لتوسيع الدراسات حول أدب الصحراء في العالم العربي، وإن كان عبدالله إبراهيم قصر المفهوم على روايات الكوني؛ إلا أنها توسعت أكثر مع روايات عديدة أخرى، كروايات عبدالرحمن منيف أو بعض الروايات السعودية: (روايات أمل الفاران، وعواض شاهر العصيمي وغيرهما)، أو الروايات الخليجية والعربية الأخرى مثل: (روايات سعود السنعوسي وعبدالله البصيص وروايات العراقي حسين رحيم، أو الكاتبة السورية لينا هويان أو الكاتبة الأردنية جهاد الرجبي)، أو روايات الكُتّاب المصريين: (روايات بهاء طاهر، وميرال الطحاوي) وغيرهم. وهذه الروايات جميعها تعمل فعلًا على الثيمة الصحراوية بوصفها الفضاء المكاني الواسع الذي تدور فيه جزءٌ من حكايات الإنسان العربي، ومن هذا المنطلق قَبِل النقادُ مفهوم رواية الصحراء موضوعًا سرديًا، واشتغلوا بها من هذا الباب.

وفي ظنّي أنّ الاقتصار على رواية الصحراء راجع إلى التصور العربي العام حول ثنائية الحضارة والبداوة التي طرحها (ابن خلدون) في مقدمته الشهيرة التي تجعل كل مجتمعات الصحراء مجتمعات بدوية[3]، وسار على ذلك أغلب المفكرين والمثقفين والنقاد العرب، فلا فرق لديهم بين مجتمعات النخيل والزراعة ومجتمع البدو الرُّحّل، مادام أن الجميع يندرج ضمن الثقافة الصحراوية، وهذا ما انتبه له الدكتور (سعد الصويان) في كتابه (الصحراء العربية) الذي يرى فيه أن نظرة (ابن خلدون) تعكس رؤية الهلال الخصيب القائمة على مسألة الصراع بين ممالك الشمال وحواضرها، والهجمات، أو الهجرات القادمة من الجزيرة العربية، لتمتد هذه النظرة حتى وقتنا الحاضر[4]، وكذلك الحال لدى (علي الوردي) الذي ينتقد النظرة الخلدونية التي تجمع مجتمعات الزراعة مع مجتمعات الرعي البدوية المرتحلة، محيلًا تلك النظرة إلى ما كانت عليه الزراعة في وقت (ابن خلدون) واجتياح القبائل البدوية من بني هلال وبني سليم لبلاد المغرب[5]، ويشير (الصويان) إلى نموذج مختلف عن تلك النظرة داخل الجزيرة العربية التي تجمع بين حالة التحضر الزراعي المستقر رغم صحراويتها، وحالة البداوة الرعوية المترحلة، مع تبادل المصالح بين الحالتين[6].


  • [1] راجع: د. سعيد يقطين: الكلام والخبر - مقدمة للسرد العربي. المركز الثقافي العربي. بيروت. ط1 1997م. ص: 129-133
  • [2] راجع: د. عبد الله إبراهيم: موسوعة السرد العربي. مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم. توزيع قنديل للطباعة والنشر. دبي. ط1 2016م الجزء 5. ص: 183
  • [3] راجع: ابن خلدون: المقدمة. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1 1413هـ. ص: 97
  • [4]راجع: د. سعد العبد الله الصويان: الصحراء العربية - ثقافتها وشعرها عبر العصور. قراءة أنثربولوجية. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. بيروت. ط1. 2010م. ص 324 - 327
  • [5] راجع: د. علي الوردي: منطق ابن خلدون. الوراق للنشر. ط3 2013م ص: 120
  • [6] راجع: د سعد الصويان: الصحراء العربية. مرجع سابق ص: 351

وهذا الأمر يحيل إلى فكرة سرد البداوة ويوضحها أكثر، حيث تذهب رواية الصحراء إلى توسيع الدائرة السردية لتشمل حتى تلك المجتمعات الريفية والواحات والقرى الزراعية المستقرة، في حين تقتصر فكرة سرد البداوة على المعطى البدوي الذي جعل من الحالة الترحالية و"التبدون" الأساس في تحليل الظاهرة السردية، فليست كل روايات الصحراء هي بالضرورة روايات بدوية؛ إذ يمكن أن يكتب الروائي رواية، أو عدة روايات، في سياق القرى المتوزعة في الجزيرة العربية وصحرائها، والتي يمتد الاستقرار في بعضها إلى مئات السنين، وعلى ذلك فإن روايات (عبدالرحمن منيف) مثلًا تدور في إطار المكان الصحراوي دون قدرتنا على تصنيفها رواية بدوية، لأن المعطى البدوي -كما ذُكر أعلاه- مختلف عمّا ظهر في رواياته. في حين تأتي بعض روايات (إبراهيم الكوني) متماشيةً مع السرد البدوي. ولأجل ذلك يصعب في هذه الحالة جعل روايات (الكوني) وروايات (منيف) تحت إطار واحد لاختلاف المعطيات.

وإذا كانت روايات الصحراء أكثر شمولية في تصنيفها، فإن روايات البداوة أكثر تخصيصًا، وأكثر دقةً في تصوري؛ بل يمكن أن تكون هناك حالات مختلفة للبداوة التي ربما لا ترتبط بالصحراء مباشرة -إذا ما وسّعنا رقعة المفهوم- كقبائل البدو المغولية وبعض القبائل التركمانية وغيرها. وإذا سمحتُ لنفسي بالانتقال من البداوة العربية إلى غيرها، فإنني أتذكر هنا الرواية الصينية: (جنازة سماوية) للكاتبة (شيزان)، التي كانت تشتغل على ثيمة البداوة لدى قبائل التبت المترحّلة[7]، وهي رواية يمكن تصنيفها روايةً بدويةً بامتياز لقرب عوالمها من البداوة رغم أنها رواية أجنبية، وفي بيئات غير صحراوية.

ولعل مكمن الإشكال في مفهوم سرد البداوة راجع إلى تغير الحالة البدوية من طور تاريخي مترحّل، إلى طور مستقر مع الدولة العربية الحديثة، وأظنّ أن الوعي الدقيق بالبداوة نفسها يحيل إلى وعي بسردها، تفريقًا لها عن مفهوم رواية الصحراء الشائع بين النقاد الذي ربما يجعل الخلط كبيرًا وغير دقيق من وجهة نظري.


  • [7] شيزان: رواية جنازة سماوية. ترجمة: عبد المجيد يوسف. دار ميسكلياني للنشر والتوزيع. تونس. ط1 2019م