لا تثق بـ (نِك)

أ. محمد الأحمدي

السرد فن أدبي يتطلب فهمًا عميقًا للنفس البشرية؛ لتمحور جوهره حول قدرة الكاتب على نقل الأحداث والمشاعر بشكل يثير تفاعل القارئ، ويترك أثرًا عميقًا في نفسه.
وعكس ما قد يخطر في بال البعض، لا تُروى القصص عن طريق كاتبها، بل نحن نقرؤها من وجهة نظر الراوي. وهو من يروي لنا القصة. وقد يكون شخصية موجودة في عالم القصة أو شخصية تحكي من الظلال ولا تتفاعل مع بقية الشخصيات.

يعد الراوي من عناصر السرد الأساسية، فهو يلعب دورًا حاسمًا في توجيه وتشكيل فهم القارئ ومنظوره للأحداث والشخصيات. وإحدى مهام الكاتب هي اختيار الراوي المناسب، وبناؤه ليمتلك صوته الخاص، ثم تحديد بعده أو قربه من الأحداث، ومقدار تأثره بها وتعاطفه معها. وأخيرًا تحديد الضمير الذي يتحدث به الراوي.

في رواية (جاتسبي العظيم) استخدم الكاتب الأمريكي (ف. سكوت فيتزجيرالد) تقنية سردية معروفة بـ (الراوي غير الموثوق) لنقل أحداث روايته عن طريق شخصيته الرئيسة (نِك كاراوي). وهذا الراوي لا يخبرنا بالحقيقة كاملة، بل يختار ما يتناسب مع قصته المحرّفة، فتجده يبالغ أحيانًا في وصف أحداث ويقلل من شأن أخرى.
وغيّر تحيّز (نِك)، طباعه وتصريحاته الغامضة المعقدة تزيد الشكوك في مصداقية نقله لأحداث الرواية.

(نِك) المريب


في السطور الافتتاحية يستذكر (نِك) نصيحة ذهبية من أبيه، أكسبته عادة التحفّظ في إطلاق الأحكام، معلقًا -على عادته هذه- بأن نصيبه من الأدب كان أكبر من نصيب بقية البشر، ليتوّج نفسه بالحلم والحياد والقدرة على كبح عادة إطلاق الأحكام القاسية الموجودة عند أغلبنا.

لكن قبل انتهاء الفصل الأول، يناقض نصيحته المزعومة واصفًا أول شخصيةٍ نقابلها في الرواية بأنها "تحمل ملامح حادة الطباع، ومتعجرفة، وعدوانية" قبل أن نرى الشخصية تفعل ما يدل على قوله. ومن ثم يلحق هذه الأوصاف بأن هُناك أناسٌ في منطقةٍ معينة يكرهون منظرها دون تحديد أسمائهم، وكأن (نِك) مجرّد ناقل خبر، ولم يحاول وسم الشخصية إلا بما هو معروفٌ عنها أصلًا.

وفي موقفٍ أكثر ريبة يصف (نِك) نفسه بأنه "أحد أصدق البشر الذين يعرفهم"، جملة إن قُدّمت بلا سياق إلى أي عاقل سيرتاب في قائلها، أما سياقها فيكشف لنا أكثر:

بعد تعبير إحدى الشخصيات عن إعجابها ب (نِك)، وبدل أن يرفضها أو يبادلها الشعور، يتهمها بأخذ العلاقة إلى مستوى آخر بسبب تعبيرها، وبأنها بهذا الاعتراف جعلته يظن أنه يحبها. ثم يكمل كاشفًا السبب الحقيقي لردة فعله الغريبة أن ما يمنعه من مبادلة الشخصية شعور الحب؛ هو أنه في علاقةٍ مع فتاةٍ من مسقط رأسه، لُمِّح في الرواية إلى أنها خطيبته.

يذكر (نِك) هذه العلاقة -الحقيقية حد إشاعات الخطبة- عرضيًا وبفقرة شديدة الغموض، وعوضًا عن تسمية الأشياء بأسمائها؛ يصفها بالورطة وأنها ليست سوى "اتفاق مبهم" عليه التخلص منه.
لينهي تأمله بهذه الجملة الانتصارية: "تلك هي فضيلتي: إنني أحد أصدق البشر الذين أعرفهم".

(نِك) ماهرٌ في التملص من الأحداث، وكأنها تقع من حوله وهو ليس سوى مراقب؛ فالفتاة التي اعترفت بإعجابها له "جعلته يظن أنه يحبها"، جملةٌ تسير في دهاليزٍ ملتوية حد استحالة اتهامه بشيء. أمرٌ آخر يجيده (نِك) هو التضليل، فخطبته المشاعة ليست إلا "اتفاقًا مبهمًا" كل ما عليه هو أن "يبطله بلباقة" ومن ثم "سيصبح حرًا"؛ وكأنها مشكلة لا علاقة له بها إلا أنه أراد التفضل بحلها.

نِك وجاتسبي


تكشف علاقة (نِك) ب (جاتسبي) الكثير من تفاصيل شخصيته؛ فخصال (نِك) الإنسانية تظهر عندما يكون برفقة "جاتسبي"، إيجابًا أو سلبًا، فينزع رداء حياده ويترك مشاعره تتكشف أمامنا؛ سواءً بمديحه المبالغ ل (جاتسبي)، مثلما وصف ابتسامته بأنها "تفهمك كما تحب أن تُفهم، وتؤمن بك كما تحب أن تؤمن بنفسك"، أو بقراره إخفاء معلومة جوهرية أدت إلى الكارثة التي حلّت ب (جاتسبي).

برر (نِك) إخفاءه للمعلومة بقوله: "كنت أكرهه إلى حد أني لم أجد من الضروري أن أخبره بأنه كان على خطأ"، بل وحتى حينما يفتح الموضوع مرة أخرى وتتسنى له فرصة ثانية؛ يرفض أن يضغط على صديقه لينقذه مبررًا تصرفاته -مجددًا- بأنه "كان يتعلق بأملٍ أخير، وما كنت أطيق أن أنفضعنه هذا الأمل".

قد يُنظر إلى هذا التمنّع بأنه تطبيقٌ للحياد الذي أعلنه (نِك كاراوي) في افتتاحية القصة، ولكن الحياد بالنسبة له يبدو ميزةً اختياريةً يفعّلها وقت حاجته للتملصمن المآزق واختيار الطريق الأسهل؛ فهو لا يتحرّج عن إطلاق الأحكام يمنة ويسرى على شخصيات الرواية، بل ويكاد يملك رأيًا معقدًا عن كل شخصيةٍ تفاعل معها -حتى تلك الثانوية-، لكن حينما تقوده آراؤه إلى دخول أي معترك يتحول إلى رجلٍ متجاهلٍ محايد.

إدانة (نِك كاراوي)


تطل على (وادي الرماد) لوحة إعلانية كبيرة فيها "عينان زرقاوان وكبيرتان(...) لا تتطلعان من وجهٍ ما"، تحمل العين العملاقة عدة رمزيات لعل أهمها المراقبة. في هذا الوادي يحصل حادث يقود إلى الكارثة في نهاية الرواية، ورغم حصول الحادث تحت مراقبة العينين؛ إلا أن هوية المتسبب بالحادث تبقى مخفية عن الجميع. أرى في هذا الحدث رسالةً مخفية؛ حتى العين التي يُعتقد أنها ترصد كل الأحداث ما زالت تنقل القصة ناقصة، لعل هذا النقل الناقص يخلق مساحة لنا للتعاطف مع (نِك كاراوي). فإن كانت الأعين الكبيرة المراقبة لا تقدر على نقل الحقيقة كاملة، كيف ستنقلها أعين (نِك) البشرية المعيوبة؟

إن افترضنا أن مقالتي هذه بمثابة مرافعة لإدانة راوي (جاتسبي العظيم) فلن آخذ دور القاضي وأحكم عليه، لأني مثل (نِك)، راوٍ متحدث متحيّز نحو قراءتي لشخصيةٍ معقدة متناقضة.
أما بالنسبة لرأيي الشخصي، ف (نِك) هو تجسيدٌ متقن لتقنية الراوي غير الموثوق، الذي إن أمعنت في تفاصيل حديثه، وقرأت الرواية أكثر من مرة؛ ستلحظ عليه عدة مآخذ، بعضها ببساطة كذبةٍ بيضاء، وبعضها الآخر تسبب بمآسي عديدة؛ أكبرها الكارثة التي -وإن لم يوقع بها (جاتسبي) بنفسه- إلا أنه كان بمقدوره إيقاف حدوثها.