ليلى سالم كبيسي
المقدمة
لطالما كان الخلاف بين النظريات الأدبية في إيجاد المعنى ومنبعه، فهل هو المؤلف؟ أو النص؟ أو القارئ؟ ونجدها فيما بعد الحداثة تركز كثيرًا على مركزية النص والقارئ، بعد أن أعلنت عن موت المؤلف. خاصة منها نظرية التلقي المعنية بالقارئ وعملية قراءته وحواره مع العمل الأدبي، التي جعلت معناه يتحرر من أُحاديّته، وينتقل إلى التعدد بتنوع قرائه واختلاف مرجعياتهم. وفي هذه الورقة النقدية نرمي إلى الاستفادة من أهم الأطروحات المؤسسة لهذه النظرية، التي عند الناقد الألماني فولفغانغ إيزر (Wolfgang Iser,1926-2007)، خاصة المتمثلة في الكتاب المترجم له (فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب في الأدب)، الذي خُصص له جزء لشرح أهم أفكاره؛ التي وسعت آفاق عملية القراءة لتكون جزءًا من الامتداد الزمني ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، بما فيه من تجارب وخلفيات تشكل معينًا للمتلقي على فهم وبناء المعنى الخاص به.
فماذا عن تجربة القارئ مع اللوحة التشكيلية، التي تبرز عند قراءته لنص ما؟ هل لها تأثير في عملية بنائه للمعنى؟ وإن كانت كذلك، فكيف سيكون؟ هذا ما تحاول الورقة النقدية أن تجيب عنه، من خلال سؤالها الرئيس: كيف ستملأ اللوحة التشكيلية الفراغ النصي؟ الذي تكمن أهميته في العلاقة القائمة بين النص والصورة؛ خاصة في عصر الصورة الذي نعيشه، التي باتت فيه اليد العليا التي تشكل الإدراك الإنساني، في مقابل قلة -أو غياب- النص (أي اللغة) في تكوين ثقافة الفرد والمجتمع، والاستهانة بأهميته.
ويتجلى ذلك في تأثيرها في مختلف الاتجاهات أدبية وفنية كانت أم لا، كالرموز التعبيرية على صعيد التواصل الاجتماعي، أو الأفلام الوثائقية (كبديل عن الكتب) على صعيد تنمية الثقافة الفردية، وغيرها. وإن شئنا البحث عن هذه العلاقة في الفنون، فنجدها في أدب الطفل والقصص المصوّرة، الذي يرتكز فيه أولهم (ليس في كل مستوياته) على الصورة لملء الفراغات، وإثراء النص السردي. مما يعني أن الاهتمام والبحث والتقصي عن هذه العلاقة يُسهم في فهم هذا الصنف من الأدب، بالتالي إذكاءً لجدوته في العالم العربي، السعودي منه على وجه الخصوص.
وحتى نلمس خيطًا نفهم منه العلاقة بين النص الشعري واللوحة التشكيلية، جاء التطبيق في الورقة على نموذج شعري عربي من عصر الطوائف، ونموذج فني ياباني من عصر إيدو؛ محاولة لرؤية الكيفية التي تؤثر فيها الثانية على الأولى، استنادًا إلى منهج المدرسة الأمريكية في الأدب المقارن. سائلين من المولى التوفيق والرشاد.
نظرية التلقي
هي نظرية واسعة المرامي؛ لتنوع واختلاف المنابع التي استفادت من أطروحاتها لتأسيس نفسها، كالشكلية الروسية وبنيوية براغ[1] وغيرها. وهي ذات اتجاهين: ألماني وأمريكي، وما يعني الدراسة، أولاهم المتمثلة في جامعة كونستانس، التي هيمنت على الساحة النقدية [2].
وقد ظهرت نتاجًا لـ"جهد جماعي كان صدى للتطورات الاجتماعية والفكرية والأدبية في ألمانيا الغربية خلال الستينات المتأخرة" [2] خاصة منها النزاع مع البنيوية لإهمالها السياق الخارجي للنص. وقد تطورت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، على يد أبرز منظريها: هانز روبرت ياوس (Hans Robert Jauss)، وفولفغانغ إيزر (Wolfgang Iser) [3].
اللذان يشتركان في أن المتلقي هو حجر أساس فهم الأدب، ويختلفان في توجه دراستهما؛ فالأول ركز على قضية تطور النوع الأدبي (أي تاريخ الأدب) متأثرًا بغادامير، ومعتمدًا على علم التفسير. أما الثاني فقد اهتم بقضية بناء المعنى متأثرًا بإنغاردن والفلسفة الظاهراتية [4]. وهو من سيعرج الآن على أهم أطروحاته المترجمة في كتاب (فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب في الأدب) بشيء من التفصيل.
فولفغانغ إيزر
سبق وأشرنا إلى اهتمام إيزر بقضية بناء المعنى، وهو بناء على ذلك يشدد على أن نظرية التلقي نظرية في الفهم، لا في كشف المعنى واستخلاصه؛ أي أنها تحاول أن تبين كيف تصبح قراءة العمل الأدبي عملية بناء للمعنى[5] ؛ فالنص لا يقدم المعنى للقارئ، "بل يقترح أبنية لتوليد المعاني، التي ليس لها وجود حقيقي خارج إدراكه" [1].
إذن، أساس فعل القراءة هو التفاعل بين بنية النص والمتلقي؛ لوقوع العمل الأدبي بين النص والقارئ، بالتالي يصبح التفاعل بينهما تحقيقا لوجوده [2]. والعمل الأدبي عنده عبارة عن بنية، وهو مفهوم استعاره من إنغاردن [3]. وهي: بنيات ذات "طبيعة معقدة، ذلك أنه بالرغم من أنها متضمنة في النص فإنها لا تستوفي وظيفتها إلا إذا كان لها تأثير على القارئ" [4].
وغالبًا ما يكون للبنية وجهان يميزانها هما: الوجه اللفظي، والوجه التأثيري. فالأول موجِه لفهم وإدراك القارئ، والأخير نتيجة هذا التوجيه[5] . ولفهم واستيعاب التأثير الذي يسببه العمل الأدبي، لا بد من وجود قارئ له جذوره المتأصلة في بنية النص؛ ليجسد الاستعدادات الضرورية لممارسة العمل الأدبي تأثيره، وهو ما سماه إيزر بالقارئ الضمني [6]. وهو "بنية نصية تتوقع حضور متلق دون أن تحدده بالضرورة، ومفهوم يضع بنية مسبقة للدور الذي ينبغي أن يتبناه كل متلق على حدة" [7]. بالتالي يصبح القارئ الضمني بنية مساعدة للقارئ الحقيقي، حتى توجه مسار قراءته، وتسهل عملية بنائه للمعنى الخاص بالعمل الأدبي.
ثم يبين إيزر أن النص في حاجة لقراءات عدة حتى نصل إلى مرادنا، وهي ما سماه بوجهة النظر الجوّالة التي تتيح الحركة داخله، وتمثل الوسيلة "التي يكون بها القارئ حاضرًا في النص" [1]. كذلك تعمل على تقسيم النص إلى بنيات تتفاعل لتولد نشاطا تجميعيًا يمثل أساس فهم النص [2].
والنص الأدبي بطبيعة الحال لن يذكر كل ما يريد، بل سيترك فراغات في بنيته ليحفز ويحث القارئ على إعادة القراءة ومحاولة الاقتراب من خباياه شيئًا فشيئًا. فالفراغات النصية عند إيزر تنشأ من ذلك التساؤل عن عدم القدرة على سبر أغوار ما يقوله النص، من تلك الاحتمالات التي تتوارد في ذهن القارئ. "ولا يمكن بلوغ التوازن إلا عندما تملأ الفراغات، وبالتالي تبقى هدفًا للهجوم المستمر من طرف اسقاطات القارئ" [3].
أي أن للفراغات النصية الأثر العظيم في المعنى وتكوينه، ويرى إيزر أن هذا الأثر لا يوجد إلا في علاقة هذه الأجزاء النصية وترابطها ببعضها[4] -نظرة لسانية خالصة- مما يعني أهمية ما يقع على القارئ الحقيقي (المتلقي)، من مهمة التجميع والمؤالفة بين الأجزاء، وملء سليم للفراغات.
فكل لحظة من القراءة هي جدلية تذكر وترقب/ ماض ومستقبل؛ أي أنها تعبر عن تذكر أفق ماض امتلأ بالأفق المستقبلي المترقب، وكلاهما مرتبط ببعضهما[5] ؛ فالماضي والحاضر سيؤثران في خلفية كل واحد منهما، متى ما عشنا لحظة القراءة ستظل تحت تأثير قراءاتنا الماضية، وفي ذات الآن ستؤثر هذه القراءة الحاضرة في قراءاتنا الماضية.
وبعد كل ذلك، أي بعد أن انتهى القارئ من التشكيل الجشطالتي الأوليّ (التجوال داخل النص وملء الفراغات) من خلال تلك العلاقة التفاعلية الجدلية بينه وبين النص، عليه أن يغلقه [1]. ولا يوجد "إطار مرجعي معين من أجل تنظيم هذه العملية، فإنه يجب على التواصل الناجح أن يعتمد في النهاية على النشاط الإبداعي للقارئ" [2]، وهذه هي متعة القارئ المتمثلة في كونه أصبح منتجًا [3].
ملء اللوحة التشكيلية للفراغ النصي
إذن، حتى يتأتى للورقة النقدية أن تجيب عن سؤالها: كيف ستملأ اللوحة التشكيلية الفراغ النصي؟ فذلك يعني بداية، ترتيب خطوات إيزر لتلقي النص والتفاعل معه:
١- القراءة المتكررة للنص الشعري، التي تكشف عن فراغاته النصية.
٢- استدعاء المتلقي لتجاربه السابقة المتعالقة بالنص، أو حتى المُقارِبة (جدلية التذكر والترقب/ ماض ومستقبل).
٣- بعد ذلك، إما بروز تجربة واحدة بشكل مكثف، بها ما يتصل بالنص الشعري، ويعين على ملء فراغاته. وإما لا توجد.
وذلك في نطاق قراءة النص وتذوقه، أي أنها قراءة تحتاج إلى خطوات منهجية يستعان بها؛ لتبيان هذا التعالق أو التقارب:
١- إيضاح العلاقة العامة بين النموذجين.
٢- تحديد الفراغ النصي الرئيس، وربطه باللوحة.
٣- تسليط الضوء على ما تقارب بين ثيمات النموذجين الرئيسة.
٤- إيجاد الفراغ النصي الفرعي، ومحاولة ملئه بما تثريه اللوحة.
بناء على ذلك سنطبق تاليًا لنرى كيف سيؤثر النموذجان في بعضهما.
بين قصيدة الجبل لابن خفاجة، وسلسلة جبل فوجي لهوكوساي
سبق وأن تطرقنا سريعًا في المقدمة عن منشأ النموذجين، وهما أرض الأندلس العربية في عصر الطوائف، واليابان في عصر إيدو، أي أننا أمام مبدعين [1] تباينت ثقافتهما وتباعد زمنهما، إلا أن كليهما احتفى بالطبيعة وتصويرها، "وما تضفيه من نشوة تلون الإحساس بالموجودات"[2] ، أيضًا فقد عاش ابن خفاجة في فترة يشوبها الانقسام والصراعات، وهوكوساي في ذلك الزمن الذي أغلقت فيه اليابان أبوابها على نفسها، ومنعت السفر والتجوال[3] . أي أنهما عاصرا أوقات عصيبة تزعزع كيان موطنهما الأم.
كما أنهما عاشا في بلادين تتغنى بالطبيعة الخلابة، التي كان لها التأثير في خيالهما ليبدعا تلك الكلمات والألوان. والثقافة الإسلامية تلتقي مع الشنتو [1] في الإيمان بالزوال لا الخلود [2]. بذلك تُلحظ نقاط التقاء في الظروف التي تكونت منها شخصية المبدعَين وساهمت في تقارب فنيهما، وإن كان الأمر في حاجة لتقص وقراءة أكثر وأعمق.
أما ما يخص النماذج المختارة، فقصيدة الجبل لابن خفاجة لن نسلط النظر إلا على الجزء الذي يصف فيه جبله [3]:
وأرعنَ طمّاحِ الذؤابةِ باذخٍ
يُطاولُ أعنانَ السماءِ بغاربِ
يَسدُّ مَهبَّ الريح عن كل وِجهة
ويزحم ليلًا شُهْبَهُ بالمناكبِ
وقور على ظَهْرِ الفلاة كأنه
طِوال الليل مُطرق في العواقبِ
يلوث عليه الغَيم سُود عمائم
لها من وميض البرق حُمْرُ ذَوائبِ
أَصَخْتُ إِليْهِ وهو أخرس صامتٌ
فحدثني لَيل السُّرى بالعجائبِ
وقال ألا كم كنت ملجأ قاتل
وموطن أوَّاهٍ تبتل تائبِ
وكم مَرَّ بي من مُدْلِجٍ ومُؤَوِّبٍ
وَقاَلَ بِظلي من مَطِيٍّ وراكبِ
ولاطم من نُكْبِ الرياح معاطفي
وزاحم من خُضْرِ البحار جوانبي
فما كان إلا أن طَوتهم يَدُ الرَّدى
وطارت بهم رِيحُ النَّوى والنوائبِ
فما خَفْقُ أَيْكي غير رجفة أضلع
ولا نَوْحُ وُرْقي غير صرخة نادبِ
وما غَيَّضَ السُّلْوان دمعي وإنما
نزفت دموعي في فراق الصواحب
فحتى متى أبقى ويَظْعَنُ صاحبٌ
أُوَدِّعُ منه راحلًا غير آيِبِ
وحتى متى أَرْعَى الكواكب ساهرًا
فمن طالع أخرى الليالي وغاربِ
فَرُحْمَاكَ يا مَوْلَايَ دعوة ضارع
يَمَدُّ إلى نُعْمَاكَ راحة راغبِ
فَأَسْمَعَنِي من وَعْظِهِ كُلَّ عِبْرَةٍ
يُتَرْجِمُهَا عنه لسان التجاربِ
فَسَلَّى بما أَبْكَى وَسَرَّى بما شَجَا
وكان على لَيْلِ السُّرَى خَيْرَ صاحبِ
وقلت وقد نَكَّبْتُ عنه لِطِيَّةٍ
سلام فإنا من مُقيم وذاهبٍ[1]