قراءة بنيوية في تعدد الأصوات السردية في قصة (الْبَرْدُ) من كتاب ليس هناك ما يبهج، لعبده خال

ضياء محمد علي محمد السّلطاني

- المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: يبدو أن القصة في هذا العالم لم توجد عبثًا، إنما وجودها جاء من كتلة مشاعرية -وقد لا تكون كذلك- خبيئة في جوف قائلها، فتخرج وفيها العمق والتعبير اللذان يوصلان للقارئ والقائل الشعور المرجو أو الفكر الذي يختلجه، ولمعرفة هذه الحالة التي تمر فيها القصة، وجب تحليل القصة وفق منهجية واضحة تحاول أن توصل القارئ إلى ما يريد أن يصل إليه، وليس بالضرورة أنه أراد إيصال هذا الشيء، فلعل هذه القراءة المنهجية توصل أيضًا أشياء لم يكن يعرف بها المبدع، فلذلك سيتناول قصة من القصص ويحللها وفق المنهج (البنيوي). فسينطلق المقال أولًا من الشكل والمظهر، وبعدها يغوص في طيات النص، ويرى ما يمكنه صنعه وفق هذه المنهجية، والله ولي التوفيق والسداد. أولًا: سيبدأ المقال باستخلاص لمستويات النص الأساسية، وذلك من خلال: (العتبات، ويمر بصوت الراوي وينتهي بالحوار الذي يمثل صوت الشخصيات)، وبعدها يوضح وظيفة السارد/الراوي، ومن ثم الفكرة الرئيسة (الثيمة العامة)، وبعدها يعرج على بنية القصة وتقسيمها إلى مشاهد، وبعد ذلك محاولة استخلاص الوظائف الرئيسة والثانوية في النص، ومن ثم استخلاص العلاقات العامة الممكنة، وبعدها يحلل بنية الزمان والمكان في النص، وفي النهاية سيحاول ربط جميع أجزاء النص بالثيمة الرئيسة ويعطي خلاصة نقدية من خلال ما وصل إليه.

مستويات النص الأساسية

• العتبات: إن عتبات النص بنيات لغوية وأيقونية تتصدر المتون لتنتج خطابات واصفة لها تعرف بمضامينها وأشكالها وأجناسها، وتقنع القراء باقتنائها من خلال التأثير بهم، ومن أبرز مشمولاتها: اسم المؤلف، والعنوان، والأيقونة، ودار النشر، والإهداء والمقتبسة، والمقدمة. وتظل هذه العتبات مرتبطة بهذه المشمولات ارتباطًا وثيقًا، وذلك على الرغم من التباعد الظاهري الذي قد يبدو بينهما أحيانًا [1]. وهناك عتبات خارجية وعتبات داخلية، ويكون ترابط بينهما في أغلب الأحيان، فأما عنوان هذه المجموعة القصصية هو (ليس هناك ما يبهج)[2] ؛ فيتكون هذا العنوان من (فعل ناسخ + شبه جملة ظرفية + مصدر مؤول)؛ فالجملة أساسها قائم على النفي، ولكن هذا النفي مختلف هنا، فهو نفي للفرح والبهجة، وأن ليس هناك ما يفرح ويبهج القلب، فكأن العنوان وبدايته فيه إذعان للقارئ، إن ما في الداخل من كلمات لن تبهجك ولن تفرحك، فلا تبحث عن الفرح في الداخل. وأما عنوان القصة التي اختُيرت فهو (البرد)، فهي قصة تتكون من خمس صفحات ونصف، كتبت الأسطر متتالية كاملة من أول الصفحات إلى آخرها، فمن خلال الربط بين العنوانين -الرئيس والفرع- فنفي الفرح والبهجة يترابط مع قساوة البرد، وما يؤدي إليه من ضرر وموت، فالكتاب لا يدعو للبهجة والقصة أيضًا لا تدعو إلى الحياة، وإنما الموت، الموت فقط!

• ألوان غلاف الكتاب متنوعة، فنرى العنوان باللون الأحمر، واسم الكاتب باللون الأسود، وصورة الواجهة تتكون من ثلاثة أشخاص، ملامحهم غير واضحة، ولباسهم أيضًا مختلف، فتتنوع ألوانهم بين الأحمر والأزرق والقرمزي، فأما اللون الأحمر يدل على العاطفة الجياشة، وأما الأزرق فهو يدل على العذوبة والطهر. ومن ثم وضع العنوان بالخط العريض الأحمر، فهذا له دلالة تخص محتوى الكتاب، فأغلب قصص هذا الكتاب قائمة على العاطفة المعمقة. وألوان أوراق الكتاب مائلة للصفرة البيضاء، وهذا يدل على اللون الباهت الذي لا إثارة فيه، فيمكن ربطه بمضمون هذا الكتاب من ناحية عدم البهجة وعدم السعادة، فكما أن اللون لا يعطي بهجة فأيضًا الكتاب لا يعطي أيضًا سعادة.

• وجاء الإهداء في هذه المجموعة القصصية في الصفحة الثالثة من بدايتها، وكانت الكلمات مرتبة بشكل عمودي فوق بعضها بعضًا، فبدأه بشبه جملة خبرية، وذلك للفت الانتباه إلى الحقيقة من وراء هذا الإهداء، فبدأ بـ(إلى أبي)، ويتبعها بكملة (ذكرى) وهذه الكلمة هي المبتدأ للجملة الاسمية، وكأنه يلفت الانتباه إلى المسند وهو في العادة لا يكون المهم في الجملة الاسمية، وإن الإهداء مقدم إلى والده، والذي يأتي بعد هذه البداية يكون تبعًا لها، فتتبع البداية كلمة ذكرى معطوفة عليها كلمة (حزن)، ويعطف إليهن كلمة أخرى متبوعة بوصف وهي (لهفة متأخرة)، فهو دمج الذكرى بالحزن واللهفة، ووصف اللهفة هذه بأنها جاءت متأخرة، فكأنه ندب على ما فات. فلذلك إنه جعل هذا الإهداء بهذا الشكل ليلفت الانتباه إلى الهدف من هذا الإهداء، وبعدها جاء بما يشعر به ويقلقه في هذا الإهداء، وأن هذا الإهداء فيه ذكرى حزينة ولهفة وتذكر متأخر، ويظهر أن هناك ندم وتأخر بهذه الذكرى، وتأخر بمعرفة قيمة الذي أهدى إليه.

ويبدو أن الإهداء مرتبط بالفكرة الرئيسة التي تشغل الكتاب، فكرة عدم البهجة، وإنه لا يوجد ما يبهج واقعًا. وهو رتب الكلمات بشكل عمودي وجعل كل كلمة في سطر، ليجعل كل كلمة تعبر عن سطر وتدل على أكثر مما يكون مدلًا لكلمة. ويبدو أن هذا له علاقة بتعميق المعنى ولفت الانتباه أيضًا. فعندما جعلت الكلمات كل واحدة في سطر هذا أحوط لجعل التركيز على هذه الكلمة فقط داخل هذا السطر، ولا يذهب الانتباه إلى غيرها. ويمكن ربط هذا الإهداء أيضًا بعنوان القصة المختارة (برد)، فكأن الحزن برد وتأخر، وأدى ذلك إلى اللهفة المتأخرة. فبرود المشاعر يجعل الإنسان يفقد شيئًا من إنسانيته. فطبيعي من الإنسان أن يتفاعل عاطفيًا بشكل لحظي مع اللحظة المؤثر به، لكن يمكن أن تتأخر لفكرة تأخر تقبل الأمر، وإنه لم يحصل، ويمكن القول في (استيعاب الأمر).

• الأصوات داخل النص:
• صوت المؤلف: يظهر في البداية من خلال الإهداء.
• صوت الراوي: يظهر في أغلب أجزاء النص فتراه يظهر مثلًا: (بداية النص عندما قال: الليلة العاشرة والوجوه هي الوجوه...، للريح أزيز حاد...، يصمت حتى نظن...، في البدء قهقهنا...، فانقلبنا نشوي...، لا زال الباب يقرع...، لمحت عين جدي...، لم يكمل جملته...).
• صوت وفعل الشخصيات (الحوار): (عندما يبدأ الجد بالحديث فيقول: الزمن غادرنا...، في الزمن الغابر...)، (صوت الفارس عندما يقول: أنا القاهر...)، (صوت الناس الذين رجموا الفارس عندما يقولون: ابتعد عنّا أيها الغريب!!!)، (صوت الشخصيات التي لم تُرد فتح الباب، التي تبدأ من قول: أنا شيخ...، إلى قول أحد الأشخاص: بدل أن تأمر افتح الباب أنت)، (صوت قارع الباب الذي قال: يا له من صيف هالك!!).

وظيفة السارد/ الراوي

إن وظيفة السارد في هذه القصة تكمن في أنه جعل الحوار مباشرًا على لسانه ولسان الشخصيات المساعدة أو الثانوية، فكان السارد يتدخل أحيانًا؛ ليخلق حدثًا مفاجئًا غير متوقع، فالسارد هو سارد داخلي مشارك في صوغ أحداث قصته.

الثيمة الرئيسة

فكرة الخوف من الموت وحيدًا دون أن يكون معه أحد، فالموت لا يكون موتًا عندما لا تكون وحيدًا.

بنية النص: فسيُقسّم هذا النص إلى عدة مشاهد:

• المشهد الأول: الجلوس حول المدفأة والتكور حولها من البرد، وبعدها يبدأ حديث العجوز عن ذكرياته للجمع الموجود في الغرفة.
• المشهد الثاني: رائحة الغرفة وكأنه يوجد أحد مات فيها، وخوف الجميع من كلام العجوز (الجد).
• المشهد الثالث: قرع الباب، وخوف الجميع من فتح الباب لهذا الطارق.
• المشهد الرابع: حديث العجوز عن الفارس الشجاع ومغامراته.
• المشهد الخامس: حوار الحفيد (الذي هو العجوز في الوقت الحالي) مع جده والحديث عن الموت، والتحذير من عدم الموت وحيدًا.
• المشهد السادس: نهاية حياة الفارس الشجاع.
• المشهد السابع: قرع الباب في البداية، واستمرار قرعه، ورفض الجميع فتح الباب للطارق، والذي فتح الباب هو الحفيد، وتصوير حالة طارق الباب.

الوظائف الرئيسة والثانوية في النص

أفعال الشخصيات (توزيعية)
الريح البارد.
• وجه العجوز المتعب من الحياة وتجاربها.
• الكلام.
الريح البارد وقوته.
الصمت
• الموت (الميت).
• الكلام من العجوز (عند موت أحدهم).
• الصراخ.
حركة الذين في الغرفة الغريبة وحركة الخوف.
البرد.
• الكلام.
• قوة الفارس وفتكه.
• الخوف من الموت.
• حركة الطفل.
• النهاية المخزية.
• السهم (الذي قُتل به الفارس).
• كلام العجوز للذين في الغرفة من أجل أن يفتحوا الباب.
• الاختيار من الجد للحفيد.
• تراكم الثلج.
• الحر.
• فتح الباب.
• البرد القارص.



الوظائف الثانوية (إدماجية)
عملية التدفؤ، والالتفات حول المدفأة، والتثاؤب، وتقمير الأيادي وتدفئتها، وتكوير الأيادي.
• تحديق العيون في وجه العجوز.
• مط الشفتين.
النظر إلى النافذة عند سماع أزيز الرياح الحاد، والارتعاد منه والتكور، واصطكاك الأسنان، والتحدث بتقطع.
حث العجوز على الحديث.
• رائحة الميت.
• الضحك من الجميع.
• الترقب بالعيون والخوف.
كلام العجوز والتحذير.
الارتعاد من البرد.
• ارتفاع الصوت الثقيل.
• الزئير
• الحركة والحياة والخوف، والتحرك والقفز ورفع الصوت.
• ضحكة الجد (العجوز).
• بكاء الطفل.
• الموت.
• الأعذار من الجمع.
• الفزع من الحفيد.
• إزالته بعناء.
• التعرق من الرجل.
• الدخول إلى الغرفة.
• اصطكاك الأسنان بعنف، احتضان النفس، التدافع حول المدفأة.

العلاقات والعوامل في النص

العلاقة
الرغبة (صاحبها)

الحفيد، والجمع الموجود في الغرفة.
العجوز وهو صغير.
طارق الباب.
الجد (العجوز).

العامل (موضوعها)
سماع حديث الجد.
الحديث عن الفارس (حكاية فارس الفرسان).
فتح الباب، والدخول.
فتح الباب، ورؤية من بالباب.

العلاقة
التواصل (المرسل)

الحفيد، والجمع الموجود في الغرفة.
العجوز وهو صغير.
طارق الباب.
الجد (العجوز).

العامل (المستقبل)
العجوز
جد العجوز الكبير.
الجمع الذي في الغرفة.
الحفيد، والجمع الذي في الغرفة.

العلاقة
الصراع (مساعد)

التجمع حول المدفأة، والتعلم وسماع ما مرّ به الجد (العجوز)، ومعرفة لماذا هو حزين؟
سماع حديث الجد عن الفارس.
الدخول إلى الغرفة من أجل أن يدفئ نفسه.
الحفيد لا يوجد لديه عذر لجده.

العامل (معارض)
دق الباب.
قرع الباب مجددًا.
الباب المغلق الذي يغطي معظمه الثلج.
أعذار الجمع عن فتح الباب.

البنية الزمنية والمكانية في النص

فيُرى أن زمن القصة ككل هو في الساعة العاشرة، ولم تُحدّد فترة الزمن، ولكن الذي يلحظ أن فترة زمن الحدث في المساء. أما زمن السرد فهو متنوع، فهناك زمن في الماضي الغابر، وزمن قرع الباب، وزمن فتح الباب، وزمن بدأ الحكاية، وزمن قتال الفارس، وهناك أزمنة كثيرة لكن يكتفى بذكر هذا القدر.

• تقنيات الإيقاع الزمني:
* الاسترجاع: (استرجاع العجوز لذكرياته عندما قال: في الزمن الغابر كنت قادرًا، كنا مفتونين بهذا الفارس، في تلك الليلة بكيت طويلًا).
* الخلاصة: (في الزمن الغابر كنت قادرًا على ملء الكون بالحركة...).
* الاستراحة: (كانت وجوهنا كالأبواب المواربة...، للريح أزيز حاد...، ومبدد الجموع ومورد الأنفس لحياض الهلاك...، ولا زلنا نتكور في أرديتنا الثقيلة والريح البارد يتحرك فينا فنغدو قوالب...، حين كان ريحًا موحشًا يعبر بلا اكتراث...).
* القطع: (لا يوجد قطعًا صريحًا -لكني اجتهدت بذلك، فوجدت عبارتين تراءى لي أنهما تدلان على القطع والله أعلم، هما: في الزمن الغابر، وعندما كبرت-).

- بنية المكان: مكان مغلق، لكنه ليس دائم الإغلاق، فيمكن أن يفتح، فهو فيه باب إذا فتح يوصلك للخارج، فعندما يفتح الباب يصبح المكان مفتوحًا وليس مغلقًا، فيلاحظ أن مكان الحكي هو الغرفة التي يجلسون فيها، ويكون في مدار الحكي.

أفكار النص

• إن الحياة تحتاج لأن يتحرك الإنسان، وإلا فسيكون الموت حتفه.
• يجب على الإنسان أن يسعى لأن يسمع من الكبار لأجل أن يتعلم من خبراتهم في الحياة السابقة التي عاشوها.
• الخوف من فكرة الموت وحيدًا، وأن يموت الإنسان ولا أحد يعرف عنه.
• الحال الثابت بأن الموت آتٍ في النهاية لا محالة، فمهما كان الإنسان قويًا فسيأتيه الموت، فلذلك لا تمت وحيدًا، فالموت لا يُعدّ موتًا إذا لم تكن وحيدًا؛ بمعنى أنه الموت سيكون موحشًا عندما تكون وحيدًا، فالوحدة تعمق من وطأة الحدث.
• المكابرة من الرجل الواقف خارجًا، وعدم الرضوخ في أول الأمر للبرد، لكن هذا الكبرياء سرعان ما ذاب وزال، واستسلم لشعور نفسه، واعترف أنه بردان. ففي النهاية الإنسان مهما كابر وثابر في المكابرة، حتمًا ستأتيه اللحظة التي ينهار فيها، ويذهب كل ما كان هباء منثورًا.

خلاصة تحليل النص النقدي

بعد قراءة هذا النص ومحاولة تحليله تحليلًا يحاول الكشف عن طيات الجمال الذي فيه، فإنه يلاحظ أن هذه القصة القصيرة التي عنوانها (البرد)، جاءت مبنية على مستويات عديدة، لا يمكن للنص أن يقوم من دونها، فهناك مستويات النص الشكلية، التي يقابلها القارئ أول ما يضع عينه على هذا النص، فهو لم يأت مباشرة لموضوع هذا النص، وإنما هناك محفّزات أو مؤثرات جاذبة له، فالبدء سيكون من المستوى الأول لهذه القصة وهو وجودها ضمن مجموعة قصصية موجودة ضمن طيات كتاب معنون بـ(ليس هناك ما يبهج)، فالربط الذي سيحصل أن عنوان الكتاب جاذب لمن يشعر بأن هذا العنوان يلامسه داخليًا، فانطلاقة الانجذاب أتت من العنوان ومحتواه، وبعدها يأتي الإعجاب بالعنوان الفرعي، فمثلًا قارئ عنوان هذا النص، سيعرف أن هناك تعاسة مخبأة داخل هذا النص، فعندما يقرأ ويرى أن فكرة هذا النص هي الخوف من الموت/ والخوف من الموت وحيدًا، فالبرد هو حالة تأتي للإنسان الذي لا يجد حبًا يدفئه، وعطفًا يضمه، فالبرد جاء ملخصًا لحالة متجمدة من العاطفة التي لا تجد من يحتويها، وإذا لم يجد فهو متجه إلى الهلاك، من خلال الانجماد.

فقد بدأ النص ببداية جاذبة وهي بيان ساعة الحدث وزمانه المحدد، فمن سيقف على عتبة البداية فسيجد جذبًا بأن ماذا حدث وقع في الساعة هذه، وهذه العتبة جاءت مساعدة للنص لكن بشكل تشويقي، فدائمًا ربط الزمان بحدث وقع، هو ما يتبادر للعقل الإنساني عندما يقرأ مثل هذا. ويُعدّ مصطلح تعدد الأصوات مصطلحًا نقديًا حديثًا، ارتبط مؤخرًا بالعمل الروائي الذي تكثر فيه الأصوات الساردة وتتعدد؛ أي تلك التي تنبع من أكثر من وجهة نظر. وهذا المصطلح ترجم إلى العربية منقولًا عن مصطلح موسيقي بحث هو (Polyphoina)، فهو مفهوم موسيقي في الأصل، لكنه وجد في الرواية مجازًا. ولمّا كانت القصة القصيرة جنسًا أدبيًا متمردًا دائمًا، ومستوعبًا لكل إمكانات الأجناس الأدبية الأخرى وتقاليدها، فقد استطاعت القصة القصيرة من خلال استيعاب هذا المفهوم أن تقدم خطابًا سرديًا يقوم على تعددية الأصوات . [3]

لقد سبق الإغريق النقد الحديث في القول بتعدد الأصوات؛ إذ عرفوه بأنه كل من كانت له القدرة على إصدار أصوات متعددة، وعلى كل من كان متميزًا بغزارة تعبيره اللغوي، كما أُطلق أيضًا على من أتصف بالثرثرة، ولكن جرت العادة على مر العصور وفي مختلف البلدان على استخدام أصل لكلمة (Polyphon) واستغلاله في مجموعة من المصطلحات التي تعطي معنى تنوع الأصوات أو تعددها أو تكاثرها . إن الشخصية القصصية في أبسط تعريف لها أنها أحد الأفراد الخياليين، أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القصة. ويعرف رولان بارت الشخصيات القصصية بأنها (هي في الأساس كائنات ورقية)؛ وذلك لأن الشخصية القصصية تمتزج في وصفها بالخيال الفني للكائن القصصي، وبما لديه من مخزون ثقافي يسمح له أن يضيف، ويحذف، ويبالغ، ويضخم في تكوينها وتصويرها كيفما يشاء؛ وذلك لأنها في الأساس شخصية من اختراع الكاتب فحسب . [4]

فهناك شخصيات متعددة في القصة المختارة (البرد)، فيلاحظ أن الشخصية الرئيسة التي تتمثل بالسارد (الراوي) وهو الحفيد الذي يبدأ القصة، وبعدها الشخصية المعاونة له وهي شخصية العجوز (الجد) الذي يسرد الذكريات، وهناك شخصيات ثانوية والتي تمثلت بالفارس القوي، والجمع الذي كان في الغرفة، وطارق الباب. فحضور الشخصيات لم يكن عبثيًا، فكلّه جاء لخدمة اكتمال فكرة النص، فترى الشخصيات كلها تدعم فكرة النص العامة وهي الخوف من الموت، بل الأحرى الخوف من الموت وحيدًا.

وهذه التعددية في الأصوات السردية قد تظهر تناقضًا بين نظرة الجماعة المُفعمة بالأمل في النجاة، وبين نظرة الجد المُشبعة بالخوف من المجهول. وهذا التناقض يُضفي بعدًا دراميًا على القصة، وتثار حولها تساؤلات حول المصير والمآل. ويمكن أيضًا في تعدد الأصوات تعميق للإحساس بالواقعية، فمن خلالها تظهر التجربة الإنسانية الواقعية في مواجهة الظروف القاسية. فهذه الأصوات المتنوعة قد تعبر عما داخل الإنسان من مشاعر مختلفة وأفكار مضطربة تراود الإنسان في مثل هذه اللحظات. فالذي يتراءى -والله أعلم- من هذه القصة القصيرة، أنها جاءت مناقشة وعارضة لفكرة الموت، لكن ليس الموت المعروف، وإنما الموت تجمدًا، سواء من الوحدة أو من قلة العاطفة والحنان، أو من قلة الاهتمام، أو من البعد القاتل. فهناك فكرة دفينة تكمن تحت الثيمة الرئيسة وهي الوحدة؛ الخوف الكبير من الوحدة، فالنص من أوله لآخره يدعم هذه الفكرة، فكأن النص وجد من أجل هذا.

ويُرى أن النص وفق في البنية الزمانية والمكانية، فهذا الحدث دائر في مكان شبه مغلق، ويمكن أن يكون مفتوحًا، حسب الحاجة السردية، فنرى هذا المكان الذي يتكون من جدران تحيط به، فكأنها إشارة إلى حصر الثيمة والتركيز عليها، فاختيار المكان كان ذكيًا، فالنص بهذا المكان أصبح بأبعاد واضحة المعالم، وفكرته واضحة جلية، تحتاج فقط النظر بحذق لفهم المراد، فهذا الكون المغلق تدور فيه (فكرة الموت والوحدة/ الوحدة أو الموت وحيدًا)، وكيف يكون ذلك؟ يكون بإمكانية حدوثه في غرفة مغلقة لا يعرف عنها أحد، لكن إذا فتحت أبواب هذه الغرفة فلم يعد هناك موتًا ولم تعد هناك وحدة. أما البنية الزمنية فجاءت داعمة للحديث؛ لأن الحديث لا يكون ذا شجون وملفت ومؤثر، إلا إذا هيّئت له الظروف المناسبة، فمن الظروف المناسبة في هذه القصة الزمن، وأيضًا لا ينسى الزمن العام؛ ألا وهو فترة الشتاء، والتجمع أيضًا حول المدفأة في هذا الزمن وهذه الأجواء، فكلها ظروف مساعدة لطرح ثيمة النص الأصيلة، ودعمها وتقويتها.

إن القصة تتسم بشيء من الوضوح، فلا يعتري جميع أجزائها الغموض، وهذا ميزة تحسب للنص، وأيضًا لا تُنسى اللغة الواضحة المشوقة، وهناك أيضًا إبداع في التسلسل السردي، فيلاحظ أن السارد يوجه دفة الحديث كيفما يشاء وكيفما يريد، فينقل الحديث تارة على لسانه وتارة على لسان غيره، وتارة يدخل حدثًا مفاجئًا، غير متوقع. وهناك ملحظ ظاهر في هذه القصة، إنها قائمة في أغلب جملها على الوصف، والوصف المعمق، وهناك مأخذ على النص -لكن يمكن تبريره-، إن الوصف يأتي لتأكيد الفكرة المرادة وتوضيحها، لكن الإغراق فيه أحيانًا يخرج الوصف عن هذا المعنى. فكل أجزاء النص ومستوياته جاءت داعمة للفكرة الرئيسة في النص، ووضحت هذه الفكرة، كما وضّح في الخلاصة النقدية. وفي النهاية هذا عمل إنساني، لا يخلو من النقص والتقصير، لكنها محاولة اجتهاد، فلعل هناك جزءًا من الإصابة في المقصود، والله ولي التوفيق.


    المصادر و المراجع

  • [1]حميد لحمداني، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، (بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 1991).
  • [2] يوسف الإدريسي، عتبات النص في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2015م).
  • [3] إسلام محمد عبد الفتاح، تعدد الأصوات في القصة القصيرة: المدرسة الداخلية المجانية للأدبية التركية فروزان، (جامعة عين شمس، مجلة كلية الآداب، عد18، 2022).
  • [4] عادل خميس الزهراني، خطاطة تحليل القصة، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبد العزيز.