مفاتيح العودة ورتاج الوطن شعرية العنوان في قصيدة (أبد الصبار) لمحمود درويش

آسية بنت رياض الشمري

أولًا: مفهوم العنوان ووظائفه التأويلية

هناك عنوانات مختلفة تستفز القارئ، ولكن عنوانًا منها يغريه إلى الدخول إلى عالم النص، فيسترسل فيه إلى نهايته، يصطاده العنوان بمهماز كلماته ومفرداته المحملة بالمعاني المكثفة. لقد كان "الاهتمام بالعنوان غائبًا أو شبهه نظريًا وتطبيقيًا على السواء، وعلى مستوى التنظير لم يتميز العنوان من عمله منهجيًا على الرغم من تميزهما أنطولوجيا"[1] ، ثم ظهر أثر العنوان على يد النقاد كنص مواز لا يقل أهمية عن العمل النصي نفسه.

وبين السؤال الذي يواجه القارئ على غلاف ديوان (لماذا تركت الحصان وحيدًا؟)، والجواب الذي نجده في قصيدة (أبد الصبار)، تبدو جمالية عنوان القصيدة للمتلقي القارئ، فالعنوان فاتحة العمل التي تصافح القارئ وتنفث فيه روح النص فيقرر المضي فيه. وإذا كان السؤال في اللغة حالة من الاستغلاق (قفل/رتاج) والاستعصاء على المعرفة، كما يبدو في عنوان الديوان (لماذا...؟) الذي يبرز متسائلًا عن الحالة الفلسطينية، فإن القصيدة المختارة (أبد الصبار) تحمل مفاتيح الإجابة عن ذلك السؤال/ الديوان.

من هنا نشأت هذه الورقة البحثية التي تلقي الضوء على عنوان الديوان وعنوان قصيدة منه، في محاولة للتعمق في دلالات الكلمات المفاتيح في العنوان، لتكشف معاني النص الدرويشي، وقضيته الفلسطينية التي عاش لها. والوقوف على جمالية عنوان الديوان وسبر أبعاده والدخول إلى عالم دلالتها، ثم الوقوف على إجابة السؤال لنرى كيف استودع الشاعر في العنوانات معانيه؟

تحتل العناوين موقع الصدارة من النص الأدبي، وهو ما يكسبه قيمة دلالية كبيرة، فهو آخر ما يكتبه الشاعر وأول ما تصادفه عين القارئ. يقول بسام قطوس: "يعد العنوان نظامًا سيميائيًا ذا أبعاد دلالية وأخرى رمزية تغري الباحث بتتبع دلالاته ومحاوله فك شفرتها، من هنا فقد أولى البحث السيميائي جل عنايته لدراسة العنوانات في النص الأدبي"[2] . والعنوان كما عرفه لوي هوك: "مجموعة العلامات اللسانية من كلمات وجمل، وحتى نصوص قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه تثير لمحتواه الكلي ولتجذب الجمهور المستهدف" [3].

فوظيفة العنوان كما نجدها في معناه اللغوي البسيط تشير إلى الظهور والبروز، حيث يرد في لسان العرب "عنن: عَنَّ الشيءُ يَعِنُّ ويَعُنُّ عَنَنًا وعُنُونًا: ظَهَرَ أَمامك؛ وعَنَّ يَعِنُّ ويَعُنُّ عَنًّا وعُنونًا واعْتَنَّ: اعتَرَضَ وعَرَض" [4].

ثانيًا: تحليل العنوان بين القصيدة والديوان

ولو تتبعنا عنوانات أقسام ديوان محمود درويش نجد أن صاحبه قد ضمنه سيرته الذاتية المقاومة، وهويته الفلسطينية المناضلة، وتاريخ القضية، وكل ما مر بشعبها من حروب وحصارات ببراعة، ذلك أن نتاج محمود درويش كان سجلًا تاريخيًا فنيا حكى فيه ذاكرة شعبه الفلسطيني وواقعه، ووقف على ويلاته مع الاحتلال، فقد عاش معه التهجير والتشريد والقتل والتدمير ثم أودعه فنه ليستنهض به شعبه ويحيي ذاكرته.

في ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيدًا؟) كان درويش قد وصل إلى أسمى نتاجه الفني الإبداعي؛ حيث تألقت فيه شعريته، واتخذ من الرمز وتكثيف اللغة وسيلة لإيصال أفكاره. وقد قسم درويش ديوانه إلى ستة أقسام بعد أن افتتحه بقصيدة (أرى شبحي قادمًا من بعيد)، فجاءت عناوين الأقسام على النحو الآتي: أيقونات من بلور المكان، فضاء هابيل، فوضى على باب القيامة، غرفة للكلام مع النفس، مطر فوق برج الكيسة، أغلقوا المشهد. وتحت كل قسم منها مجموعة من القصائد.

ما بين السؤال في عتبة الغلاف إلى الإجابة سنسير مع العنوانات الآتية: (لماذا تركت الحصان وحيدًا؟- أيقونات من بلور المكان- أبد الصبار). فالعنوان سمة الكتاب أو النص ووسم له، وعلامة عليه وله، ذلك أن في العنوان مقصدية من نوع ما، ربما تقود هذه المقصدية إلى مرجعية ما، ذهنية، أو فنية، أو سياسية، أو مذهبية، أو أيديولوجية، فالعنوان في الوقت الذي يقود فيه القارئ إلى العمل فإنه من زاوية يخبرنا بشيء ما [5] .

أول ما يواجه القارئ (لماذا؟) فهل كان درويش يتساءل مع نفسه أم كان يسأل مخاطبًا حاضرًا يطلب منه تبرير الأفعال والقرارات، ويشير إلى محاولة فهم عميق إلى الغاية التي ترك من أجلها الحصان وحيدًا ويحمل في طياته عتابًا.

يستخدم درويش صيغة الماضي (تركت)، أي رحل عنه وهجره وذهب، في إشارة إلى أخطاء الماضي الذي يحاول أن يكفر عنه كل فلسطيني حين فرط في خيله/ وطنه. فمن صفات الخيل الصبر والشجاعة والقدرة على تحمل المشقات والسباقات الطويلة، والحماسة، والذكاء والفطنة، والأهم من كل ذلك الولاء لصاحبها والتضحية في سبيله، فهي تحمي فارسها وتحرسه. فهل كان الحصان يستحق ذلك الخذلان (لماذا؟).

فالحصان أيقونة العودة وسبيلها في استنهاض نخوة الفلسطينيين لمتابعة النضال، وهو يتوسط العنوان (لماذا تركت الحصان وحيدًا؟) في استفهام إنكاري يحمله معاني العتاب، والبحث عن إجابة مما يفتح أفق النص على التأويلات، مثلما أن كل فلسطيني وعربي بحاجة إلى التساؤل عن سبب المأساة الفلسطينية مواجهة الإجابات بكل شجاعة في سبيل استعادة الوطن.

وإن دلالة الحصان مرتبطة بفكرة الوطن الفلسطيني الشامخ برموزه، رغم غياب سكانه بسبب الاحتلال، فهل كان الشاعر يؤكد أن الحصان ما يزال وحيدًا، فلا تخفت فيك رغبة العودة. وأن تركه هناك يعكس حالة الفلسطيني الذي أُجبر على مغادرة قريته أو منزله، ولم يترك ملكيته للأرض والهوية، كإشارة تاريخية واضحة للعودة وعدم الاستسلام للنفي.

وربما يمتد أفق التأويل فيتمدد المعنى من وراء العنوان ليواجه كل قارئ عربي من خلال الغلاف (لماذا تركت الحصان وحيدًا؟)، فيجعله في صورة استفهام طويل يمتد عبر الزمن ليواجه الأجيال التي تركت الحصان الفلسطيني وحيدًا. فالحصان يمثل الارتباط مع الأرض، وتركه في مكان ما منتظرًا فيه رسالة رمزية من أصحاب المكان: (بأننا سنعود)، لأن الحصان إذا تُرك وحيدًا فهو عرضة للسرقة والنهب والتلاشي، فالعودة إليه مؤكدة، ووحدته تؤكد أن هذا المكان له أصحاب سيعودون يومًا ما.

وقد غلف درويش ذلك العنوان بالعتاب فسطعت شعرية العنوان الاستنكاري، وهي شعرية تحيل إلى نصوص الديوان كافة وتكثف المعاني حوله. فمن الممكن جدًا "أن يؤسس العنوان لشعرية من نوع ما، حين يثير مخيلة القارئ ويلقي به في مذاهب أو مراتب شتى من التأويل، بل يدخله في دوامة التأويل ويستفز كفاءته القرائية من خلال كفاءة العنوان الشعرية" [6].

ثالثًا: الهوية المكانية في القصيدة

في أثناء سيرنا للجواب على التساؤل الذي يثيره العنوان يطالعنا عنوان القسم الأول: (أيقونات من بلور المكان)، في إشارة صريحة إلى البقعة التي يوجد عليها ذلك الحصان، والهوية التي ترتبط بصاحبه، وهي هوية مكانية بامتياز. فنحن نضع نصب أعيننا أنه "يمكن للعنوان أن يساهم بشكل كبير في تفكيك شفرات النص من أجل تركيبه عبر معرفه بنياته الدلالية والرمزية وأن يضيء ما أشكل من النص وغمض" [7].

سنجد أن عنوان (أيقونات من بلور المكان) عبارة عن جمع أيقونة وهي "صورة أو تمثال مُصغَّر لشخصيّة دينيّة يقصد بها التَّبرُّك. أو هي غلافة صغيرة من فضّة أو ذهب تُحفظ فيها ذخيرة من ذخائر القدِّيسين وتعلَّق في العنق عادة[8] . أما "بلــور: فهو مصدر تبلور "عمليّة تتحوّل بها مادّة ما من حالتها المنصهرة أو الغازيّة أو من محلولها المشبع إلى بلورات" [9]. قال صاحب المنجد: تبلور وتبلر، صار شبيها بالبلور، البلور نوع من الزجاج جوهر أبيض شفاف" [10].

أما المكان فهو كل شبر من فلسطين وما على أراضيها. فكل ما يرتبط بالهوية المكانية أيقونة راسخة في الذاكرة الفلسطينية حتى وإن كان في منفاه.

يرى بيرس "أن الأيقونة هي أي شيء يؤدي عمله ووظيفته كعلامة انطلاقًا من سمات ذاتية تشبه المرجع أو المشار إليه" [11]. فالأيقونة تعمل على إحياء ذاكرة الهوية التي يعمل المحتل على طمسها، وهي أيقونات وصلت إلى موضع التقديس تعلق في الذاكرة وتوسم على الأعناق، لأنها تشير إلى الهوية كالخيل، والزيتون، والبرتقال، واللوز. كما أنها تبلورت من حالتها المتماهية عند أغلب الناس وصارت رمزًا فلسطينيًا خالصًا، وشفافية البلور ونقاؤه يعكس وضوح حق الفلسطينيين في أرضهم.

رابعًا: المشهدية السردية في القصيدة

وإذا انتقلنا إلى قصيدة (أبد الصبار) التي أورد فيها الشاعر جوابه عن تساؤل عنوان الديوان، فإننا نقف من بدايتها على مشهد من مشاهد التشرد، يعكس حكاية شعب، تناسلت فيه الأسئلة من جيل إلى جيل، كما تناسلت أسئلة عنوان الديوان في مطلع القصيدة:

إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي..

لقد كان المكان محور التساؤل (أين) في محاولة لتحديد وجهة معينة، وإذا كانت نقطة المغادرة (المكان/ الحق/ فلسطين) فإن تغريبة الفلسطيني لا تعرف لها وجهة مكانية (جهة الريح). لذلك فقد بنى الشاعر المكان في القصيدة من جميع المكونات المكانية الفلسطينية: (السهل، والسور، والتراب، والقلاع، والتل، وسور عكا القديم) في محاولة لتجذير انتمائه إلى ذلك المكان، ثم أثث ذلك المكان بالجبل والشوك والحجارة والقلعة ودرب قانا، والنباتات من حشائش وصبارة. وقد اختار الأب شجرة السنديان بوصفها خشبًا طبيعيًا متينًا، مقاومًا للهجوم الفطري بفضل تركيبته الكثيفة وطبيعته وهي التي يصعدها الابن بناء على أمر الأب: (اصعَدْ معي تلَّة السنديان الأخيرةَ).

وفي مقابل الحصان برمزيته الأبية نجد حيوانات أخرى تحمل دلالات معاكسة، وترتبط بأولئك الذين عبروا في ذاكرة التاريخ وطردتهم فلسطين بعد أن جاؤوها غزاة؛ حيث نجد (الذئب والبغلة): "تعوي ذئاب البراري- وقع الانكشاري عن بغلة الحرب".

ويغوص الزمن من يومين إلى الأبدية، ويمتد من النسيان إلى ليالي الشتاء القارس الطويلة فيطول البعد عن المكان ويثير الابن أسئلته من جديد عن العودة الموعودة:

متى يا أبي؟
غدًا.. ربما بعد يومين
وكان غدٌ طائش يمضغ الريح
خلفهما في ليالي الشتاء الطويلة

لقد كان اختيار كلمة (الريح) مقصودًا في ذاته ومرتبطًا بالمعاناة الفلسطينية، لأن الريح تدل على السوء والشر، بعكس الرياح المتتابعة التي تكون للخير، فما (جهة الريح) فما هي هذه الريح وأي ريح هي؟ هكذا الابن يسأل والأب يجيب. إنها الريح التي حـمَّلها الشاعر قدر الفلسطيني وهو يغادر الأرض إلى الشتات والتبعثر، والغربة عن الأرض ليست إلا تبعثرًا، وعندما يفقد الفلسطيني أرضه إنما يفقد هويته وذاته.

إذن نلتقي هنا مع بنية سردية في القصيدة، و"البناء السردي للجملة الشعرية في هذا النص لم ينسف إيقاعية الشعر أو غنائيته، بل التحم معه التحامًا عضويًا تكوينيًا يسمح للدفق الشعري أن يتحرك حركة انسيابية تحافظ على جمالية الإيقاع وشعرية التشكيل" [12]. ليست القصيدة بكائية غنائية بقدر ما هي مواجهة وتساؤل تجعل القارئ يواجه الحقيقة المرة. ولذلك فقد طورت القصيدة الحديثة من تقنياتها التعبيرية لتخلخل الفهم التقليدي، فمن "أهم الصدمات التي واجهتها القصيدة الحديثة لمنظور قرائه القارئ وأفق تقبله هو إرسال النثر بلغته وصوره وتعييناته المكانية والزمانية والشخصية ضمن القصيدة المبنية في خبرته وتوقعه وذخيرته على أساس من اشتراطات الشعر ومزاياه الخالصة" [13].

هنالك سرد له حواره وزمنه ومكانه، أما شخصياته الأب والابن فلم تظهر سماتهما إلا في الحوارات، وبقي الراوي العليم يحكي قصتهما المتماهية في المكان، ولم تظهر أي صفة من صفاتهما الشخصية في النص وذلك ليحمله أي شخصية فلسطينية.

لقد كان الحوار عفويًا بين ابن وأب، أراد أن يستجمع ما تبقى من هوية تتلاشى في مهب الريح، ويظهر في الأفعال التي تتيقن العودة وقد جاءت على لسان الأب من أفعال النهي:( لا تخف، لم يعترف). وأفعال الأمر (التصق بالتراب لتنجو، واصعد معي تلة السنديان الأخيرة، اصمد معي لنعود، كن قويًا كجدك، تذكر غدًا).

تذكَّرْ! هنا طَلَبَ الإنجليزُ
تذكَّرْ: هنا وقع الانكشاريُّ
يا ابني تذكّر غدًا
وتذكّرْ قلاعًا صليبيَّةً
قَضَمَتْها حشائش نيسان بعد رحيل الجنود

خامسًا: ذاكرة المكان والإنسان

إن الإلحاح على الفعل (تذكر) توجيه مباشر إلى أن الذاكرة هوية بديلة مؤقتة وأيقونة بلورية كما ذكرنا سابقًا، لن يستطيع الاحتلال سلبها مثلما سلب المكان، لذلك فقد تكرر الفعل (تذكر بكثافة في نهاية القصيدة ضمن وصايا الأب لابنه،

ومن خلف الستار يخبرنا الراوي العليم عن حالهما وهو يلملم الماضي والحاضر والمستقبل ويجمع الأحداث والنكبات التي مرت على فلسطين: الحروب الصليبية (1099_1291)، وحصار نابليون بونابرت (1799)، والعجز العثماني في حماية الأرض (1517)، والاستعمار البريطاني (1918)، ونكبة عام (1948).، وصولًا إلى الجريمة الكبرى التي ما يزال يعانيها الشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال الصهيوني والتهجير، يقول الراوي ممعنًا في تصوير المعاناة من منظر مكاني (البيت/ الوطن):

وكان جنودُ يُهُوشُعَ بن نونِ يبنون
قَلْعَتَهُمْ من حجارة بيتهما

لكن مع كل ذلك الألم فإن الراوي يتنبأ بالمستقبل، مؤكدًا أن العودة حتمية، وأن الوجود الأبدي للفلسطينيين سيمتد في ذلك المكان، وأن كل طارئ على المكان سيرحل مثلما رحل من قبله:

سننجو ونعلو على
جَبَلٍ في الشمال، ونرجعُ حين
يعود الجنودُ إلى أهلهم في البعيد

لقد عنون الشاعر لهذا السرد الشعري بـ(أبد الصبار) جملة اسمية أضيفت للتعريف، والأبد في لسان العرب: الدَّائِمُ والتأْبيد: التَّخْلِيدُ. وأَبَدَ بِالْمَكَانِ يأْبِد، بِالْكَسْرِ، أُبودًا: أَقام بِهِ وَلَمْ يَبْرَحْه .[14] أما (الصبار) فقد كان حاضرًا في القصيدة بكل تجلياته، شوكه وحجارته ومقاومته، فدلالات الصبر تدور حول أصول ثلاثة: "الْأَوَّلُ الْحَبْسُ، وَالثَّانِي أَعَالِي الشَّيْءِ، وَالثَّالِثُ جِنْسٌ مِنَ الْحِجَارَةِ" [15].

يحمل الأبد في طياته الصراع المستمر الذي لا ينتهي، ويعكس طول فترة المعاناة، وقد أصبحت جزءًا من هوية الفلسطيني الذي توالت عليها المحن، من أيام يوشع بن نون ثم جنود نابليون والحروب الصليبية والاستعمار الإنجليزي، وأمام هذا الألم حبس الفلسطينيون حلم العودة بين طيات أفئدتهم كما حبست الأرض صبارها وحجارتها أمام محاولات المحو والاقتلاع ولم يستسلموا، بل تجاوزوا المنفى والمهجر ورغبوا في استعادة الأرض "سننجو ونعلو على جَبَلٍ في الشمال".

حتى وإن تأخرت العودة فإن الذاكرة كفيلة بترسيخ حق الفلسطينيين في وطنهم، جيلًا بعد جيل، وكما طلب الأب من ابنه أن يكون مثل جده "كن قويًا كجدك"، فإنه يطلب من الابن أن يروي لمن بعده:

سوف تكبر يا ابني
وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد

لم يكن غريبًا أن يرد عنوان الديوان في منتصف القصيدة، وأن يبرر الأب لابنه سبب تركه إياه، لأن انتزاع كل شيء من المكان يعني التخلي عنه، لذلك فقد كان الحصان قرينًا للوطن في القصيدة، وهذا يؤكد أن هذه القصيدة هي مفتاح الديوان، مثلما أن الحصان مفتاح العودة للوطن؛ حيث يمتد السؤال والجواب بين الابن والأب:

لماذا تركت الحصان وحيدًا؟
لكي يؤنس البيت يا ولدي،
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها.

إن ديوان درويش هذا (لماذا تركت الحصان وحيدًا) يثير في النفس الحنين الذي استمر على مدار التاريخ أمام تغاير الهجمات والتهجير القسري، وفي كل مرة كان الحصان يؤذن بالعودة فيعودون. أما (أيقونات من بلور المكان)، فهي السبيل لحفظ الهوية أثناء الغياب. في حين كانت (أبد الصبار) هي المقاومة والإصرار على النضال واستعادة الحق.

ترسخ (القصيدة/ المفتاح) أهمية الذاكرة بوصفها واحدة من أهم المفاتيح التي ستمكن الفلسطيني من المقامة وفتح أقفال (الوطن/ الرتاج) التي أغلق حدوده المحتل، فيصر الأب موصيًا ابنه أن يحافظ على مفتاح (البيت/ الوطن)، واستعادة الحصان الذي بقي وحيدًا، يقينا منه بالعودة. يقول الشاعر:

تحسَّسِ مفاتحه مثلما يتحسس
أعضاءه، واطمأن. وقال له
وهما يعبران سياجًا من الشوك:
يا ابني تذكر

ترابطت العنوانات وتناسجت لترسم رؤية شعرية فريدة توثق الرمز الفلسطيني، وتعكس نضاله في سبيل الحفاظ على الهوية. يقول بسام قطوس: "هناك عناوين سهلة يكشفها القارئ بسرعة وهناك عناوين لا تسلم نفسها بسهوله وتظل متحجبة ومتمنعة عن الظهور إلا باستخدام نظام تأويلي أو سيميائي يفك شفرتها"[16] . وبين عنوانات السؤال والجواب نستخلص أن العنوانات كانت نصوصًا موازية بما تحمله من أفكار ودلالات تسمح بتفسير النص من خلالها.


    المصادر و المراجع
  • [1] العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبي، محمد فكري الجزار، ص 7.
  • [2] سيمياء العنوان، بسام قطوس، ص33.
  • [3] عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، عبد الحق بلعابد، ص67.
  • [4] معجم لسان العرب، ابن منظور، ج 13، ص290.
  • [5] سيمياء العنوان، بسام قطوس، ص31.
  • [6] سيمياء العنوان، بسام قطوس، ص5.
  • [7] السيميوطيقا والعنونة، جميل حمداوي، ص96.
  • [8] معجم اللغة العربية المعاصر، أحمد مختار عمر، ص 144.
  • [9] معجم اللغة العربية المعاصر، أحمد مختار عمر، ص 246.
  • [10] كتاب تقويم اللسانين، محمد تقي الدين الهلالي، ص 135.
  • [11] دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي وسعد البازعي، ص 179.
  • [12] السردية في شعر محمود درويش لماذا تركت الحصان وحيدًا أنموذجًا، رمضان عمر Harran Üniversitesi İlahiyat Fakültesi Dergisi 32/32 (Aralık 2014), 188-206.
  • [13] مرايا نرسيس الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد، حاتم الصكر، ص 59.
  • [14] لسان العرب، ابن منظور، الجزء الثالث، ص 68.
  • [15] مقاييس اللغة، ابن فارس، الجزء الثالث، ص 330.
  • [16] سيمياء العنوان، بسام قطوس، ص 41.