عين ثالثة: بصيرة الفن والحياة تحليل فيلم (القصة الرائعة لهنري شوقر)

ابتهال الثبيتي

لمحة عن الفيلم

ينتمي فيلم (القصة الرائعة لهنري شوقر) إلى الأفلام القصيرة، ويقدم قصة فانتازية بالدرجة الأولى، تحمل في طياتها العديد من المشاهد السريعة، ومما جعلها مميزة وفريدة من نوعها هي طرح فكرة قصص متداخلة لتشكل الصورة الشاملة للقصة. لا يقتصر التميز على الفكرة فقط، بل استخدم المخرج مجموعة من الأدوات السينمائية التجريبية، منها الكاميرا الثابتة، وحركة الممثلين بسلاسة أمام الكاميرا، وأيضًا مواجهة الراوي والشخصيات للكاميرا، وتوجيه الحديث للمشاهدين، وهو ما يُعدّ انكسارًا للجدار الرابع، الذي كان له نصيب الأسد في تميز الفيلم عن غيره، كما أن الأسلوب المسرحي والديكور الذي يتغير أمام أعين المشاهدين واستخدام ألوان محددة أضاف بعدًا خياليًا للفيلم، وعزز من تجربة المشاهد.

فلسفة التفكيك وتجريبية الفن السينمائي

قد برزت تلك النزعة التفكيكية في الكتابات والأعمال الما ورائية (ميتا) التي أثارت الشك وعدم الاستقرار والاطمئنان في محاولة لإعادة التمركز حول الذات والإجابة عن أسئلة معرفية كبرى يعيشها الإنسان[1] . وهو ما ظهر في الأعمال الفنية من خلال مبدأ (الانعكاس الذاتي)، الذي توجهت من خلاله الأعمال السينمائية من التركيز على العالم الخارجي إلى التركيز على بنية السينما نفسها (الداخل)، تأليفًا وتمثيلًا وإخراجًا. لقد رسخت ثورة التفكيك مبدأ التعدد والتنوع، وزلزلت كثيرًا من المواقف الأحادية والإجابات اليقينية؛ بحثًا عن الهوية، هوية الإنسان والفن، في النصف الثاني من القرن العشرين، ومرحلة ما بعد الحداثة. وتُعدّ السينما التجريبية واحدة من أهم الفنون التي هدفت لتوسيع حدود الفن السينمائية، وتناولت موضوعات الهوية الذاتية والوعي الإنساني.

تسعى معظم الأعمال السينمائية إلى تقديم أفلام مشابهة لحياة المشاهد، في أحداثها ومشاهدها وحواراتها وغير ذلك، في محاولة لتقديم عالم موازي لعالم الواقع الذي نعيش فيه؛ بهدف إيهامنا بواقعية ما نشاهده، ومن ثم تحقيق التأثير فينا، لكن الأمر خلاف ذلك في الأعمال التي تعتمد فكرة ما وراء الفن.

البنية السردية للقصة

طابع القصة في الفيلم ميتا سردي؛ حيث سردت القصة هنا بشكل غير تقليدي تضمن وعيًا داخليًا، وعالجت قضية تشكيل الذات والهوية والفن، والتشابك بين الوعي الداخلي والخارجي، مما خلق سردًا متعدد الأبعاد وفتح مجال للتأملات الفلسفية النفسية والفنية. يعتمد كل عمل فني على ثيمة تشكل ركيزة دلالية للعمل، تتفرع منها العديد من الأفكار، وهي السمة نفسها التي يؤكدها الروائي ميلان كونديرا حين يرى أن كل نص يقوم على موضوع (ثيمة) هو أقرب للتساؤل منه للإجابة[2] . فالفن ليس مهتمًا بالضرورة دائمًا بتقديم الإجابات الكاملة لتساؤلات الحياة بقدر إثارة التساؤلات وتحريك الوعي الإنسان لإعادة النظر في التصورات النمطية للقضايا. وإذا كانت الأعمال الفنية والسينمائية تحاول أن تعمق وعي الإنسان بالحياة، وتقدم له الأمور من منظور غير تقليدي في قالب فني، فإن هنالك أعمالًا سينمائية ترتكز في بنيتها على وعي مضاعف؛ حيث يرتكز سرد الفيلم على ثيمة (الوعي بالوعي) التي تحاول الإجابة عن تساؤلات معرفية وجودية، ليس على تساؤلات الحياة وإنما عن التساؤلات نفسها، وهو الإطار الفلسفي لثورة التفكيك التي شككت في كل شيء وجعلته محل تساؤل، بما في ذلك الفن الذي أصبح موضوعه مجالًا للتساؤل والفحص والتفكيك، بدلًا من كونه سابقًا مصدرًا للمعرفة والوعي.

ثيمة الوعي في الفيلم

يحمل الفيلم في طياته الكثير والكثير من المعاني من خلال التأمل وإعادة النظر في كثير من القناعات والأفكار السائدة حول النجاح والموهبة والثراء والسعادة؛ حيث تنطلق جميع الأفكار في الفيلم من فكرة محورية أو ثيمة الوعي بالوعي والمعنى العميق؛ حيث يسلط الضوء على قصة رجل عازب أربعيني ثري، يشعر ذات يوم بالملل في بيت أحد أصدقائه، ومن ثم يدخل المكتبة لتسقط عيناه على كتاب غير مألوف لطبيب ألّف كتابًا عن ظاهرة رجل هندي اكتسب موهبة خارقة للعادة، ليرى من دون عينيه من خلال التركيز الذهني.
أُعجب هنري جدًا بهذه القدرة العجيبة وبعثت فيه الشغف من جديد، فحرص على تعلمها واستعمالها في حياته لجني المال والمقامرة، ليكتشف بعد ذلك أن اكتساب المال في حد ذاته لم يحقق له ذاته، ومن هنا تأخذ القصة منحنى عميقًا للحياة، لترصد العديد من الثنائيات، وتغيير القناعات لدى (هنوي شوقر)، انطلاقًا من أن فكرة الوصول إلى الجهة الأخرى كفيلة بتحقيق التوازن واكتشاف المعنى الغائب والتحول العظيم في القيمة، من الماديات إلى الإيثار، ومن الطمع إلى القناعة والرضا، ومن الأنانية والسعادة الذاتية إلى إسعاد الآخرين. لقد كانت التحول من الرؤية البصرية والتصور التقليدي للحياة إلى الرؤية الباطنية التي تعلمها (هنري شوقر) كفيلًا بتحول وعيه بالحياة إلى معنى أعمق، وهو ما يعني الانتقال من الوعي بالحياة والنجاح والثراء والاهتمام بالذات، إلى الوعي بالوعي من خلال التعمق في معاني الحياة والكشف عن معنى المعنى (ميتا وعي)، أي من (البصر/ الوعي/ العين) الذي يشترك فيه كثير من الناس في الحياة إلى (البصيرة/ وعي الوعي/ القوة الباطنية).

القضايا التي يطرحها الفيلم

1. البحث عن معنى
توجه هنري للمكتبة، بوصفها رمزًا للوعي والمعرفة، وهو في منزل أصدقائه يعبر عن حالة الملل والانفصال الداخلي الذي كان يشعر به من الحياة النمطية الاستهلاكية، مما جعله يبحث عن شيء ما يبعث فيه الحياة، ويعيد له الشغف واكتشاف أشياء جديدة. ويعرض الفيلم تجربة شخصية استثنائية نحو رحلة داخلية تكشف عن تطور الشخصية فتوقظ فيها الوعي الداخلي الفطري، والقوى الكامنة، وتمكن هنري من اكتشاف ذاته عبر التجارب الشخصية والسعي المستمر. ويمكن النظر للفيلم بوصفه جزءًا من رحلة البحث عن الذات.

-التركيز على الأهداف2
قوة التركيز الذهني على هدف معين يجعل من عقلك سلاحًا فتّاكًا بإمكانه تسخير قدراتك للوصول إلى ما يريد، فعندما قرر هنري من خلال اليوغا اكتساب موهبة العين الثالثة، في محاولة لتحسين حياته وجعلها أكثر إثارة، نجح في ذلك بعد ثلاث سنوات من الإصرار والتدريب المستمر، لكن الوصول إلى غايته الأولى أوصله إلى غاية أسمى، وأعطى مفتاحًا لتغيير في حياة هنري.

3-تصحيح مسار الحياة
كان الفوز الحقيقي لهنري شوقر يتلخص بمعرفته الحقيقة لمعنى حياته وتسخير قدراته في مساعدة الناس، فبعد اكتسابه لموهبة العين الثالثة واستخدامها في الغش في ألعاب الورق للحصول على المزيد من المال، شعر بالتشتت ووقع في فخ الملل والانفصال الداخلي مرة أخرى، على الرغم من تحقيقه لأمنيته بجمع المزيد من الثروة. فقد أدرك فيما بعد أنها لم تكن مرضية بالقدر الكافي، وألقى ببعض أمواله من بلكونة شقته الفاخرة، مما أحدث شغبًا في الشارع، لكن الموقف الناتج عن صعود الشرطي إليه وتقريعه على فعله ذلك، ووجوب احترام قيمة المال، كان منبهًا له، أيقظه من غفلته، فلم يعد الشخص الانتهازي ذاته، بل أعاد تخطيط أهدافه من جديد وتبرع بأمواله للجمعيات الخيرية.

4-الوصول إلى السعادة
اكتشف هنري شوقر معناه الخاص حين تجاوز الوعي النمطي إلى وعي أعمق؛ حيث التحول الذاتي في نفسه فوجد الرضا الداخلي من خلال التخلص من عبودية الماديات، ومن الأنانية الموهمة بتحقيق السعادة، إلى الاستغناء والعطاء وإسعاد الآخرين، بعد أن قرر التبرع بتلك الأموال للجمعيات الخيرية ودور الأيتام والعجزة.

تقنيات العرض السينمائية

- كسر الجدار
إذا كانت خشبة المسرح الذي تجري عليه حركة الممثلين مكونة من ثلاثة أضلاع، في مقابل المشاهد على الضلع الرابع، فإن الفن التجريبي سعى إلى كسر ذلك الجدار بجعل المشاهد جزءًا من عالم الفن، وشريكًا فيه، وبالتالي فقد قلب الفن التجريبي المعادلة بقصديته كسر الإيهام بالواقعية. وهذا ما يسمى كسر الجدار الرابع لتوسيع وعي الإنسان بالحياة وتجاوز الأسوار والحوائط التي يمكن أن يغيب عنه بعض المعنى، وبالتالي فإن هذا النوع من الأفلام يمتاز ببصيرته المتجاوزة حدود الوعي إلى ما وراء الوعي (ما وراء الفن). يسعى الفيلم إلى كسر الإيهام بالواقع، وهذا ما لم نعهده في الأفلام التقليدية التي دائمًا ما تتجه نحو محاولة تحقيق الإيهام ومشابهة الواقع، وهو جزء من تصورات ما بعد الحداثة الذي شاع معه تفكيك صناعة السينما بتغيير القوالب النمطية الذي يعتقد بأن المتلقي يشاهد سينما أصلًا.

2- تعدد الرواة
تتنوع مستويات الرواة وعددهم في الفيلم؛ حيث يظهر الراوي العليم في بداية الفيلم مصرحًا بأن سيقدم لنا قصة شخص ما (هنري شوقر)، ومعرفًا بنفسه بأنه كاتب قصص، وبأن ما نشاهده هو قصة. لكن ذلك الراوي ليس الوحيد، بل نجد بعض شخصيات الفيلم تتناوب في تقديم القصة، بما فيهم بطل الفيلم (هنري شوقر)، وبذلك فلدينا خمسة رواه: الراوي العليم في بداية الفيلم، هنري شوقر، الطبيب، إمداد خان، والراهب البوذي. ويتجلى سرد القصة بشكل خطي من أربع طبقات.

3- مواجهة المشاهد:
حيث خلق الفيلم تفاعلًا فكريًا للمتلقي من خلال مواجهة الممثلين مباشرة للكاميرا والتحديق في الكاميرا، وبالتالي المباشرة في مواجهة المشاهد، والتحدث إليه بنبرة حادة وبشكل صريح من خلال جود الراوي في بداية الفيلم، وكسر الجدار الرابع، وهو جزء من اللعبة التجريبية في السينما. وكأن الفيلم يتعمد زعزعة وعي المشاهد وإرباكه وإدماجه في الحالة الفنية ليصبح جزءًا من التجربة. وبذلك فقد اعتمد الفيلم أسلوبًا مختلفًا في تقنيات السرد بدلًا من القصة المباشرة أو الواضحة.

4- خلفية الـمَشَاهِد والموسيقى التصويرية:
تجمع الخلفيات المشهدية بين الواقعية والفانتازية، من خلال التغيير السريع للخلفيات المعتمدة على لوحات الرسوم المتحركة، ونقل الشخصيات والأحداث من مكان إلى آخر، وتسريع وتيرة الأحداث، وهو ما يكسر واقعية الفيلم، ويتناسب مع الوعي التجريبي للفيلم، إضافة إلى الموسيقى التصويرية المتحولة بشكل غير مألوف بحسب طبيعة الموقف وتحول الأجداث، التي تعتمد على أصوات صناعية في كثير من الأحيان.

5- إيقاع التسريع في الفيلم:
يمتاز الفيلم بقصر مدته التي جاءت في نحو أربعين دقيقة، وبأحداث متسارعة وحركة زمنية في اتجاه واحد إلى الأمام غالبًا، وهو ما يتناسب مع فكرة الوعي المتجاوز نحو الضفة الأخرى للمعنى، إضافة إلى تركيز الفيلم على فكرة محورية، وشخصية واحدة، يلاحظ معها أن الشخصيات الأخرى هامشية جدًا وتتساقط بسرعة، حين تختفي ولا تعاود الظهور، كما يخلو الفيلم من الحوارات الطويلة والمعمقة، أو التأملات الفكرية.

الخاتمة

يأخذ الفيلم المشاهد إلى رحلة في عالم الوعي بالوعي، وتجمع بين عناصر السخرية والفحص العميق لنوازع النفس الإنسانية؛ حيث تتأرجح الشخصية بين لحظات الاعتداد بالنفس والعلاقة بالآخر، ومن تلاشي الهدف في الحياة وفقدان الشغف إلى الصورة المثالية المحققة للبعد الإنساني؛ حيث إن الوعي بالوعي يقلب فكرة أن يكون النجاح وجمع المال هو الغاية، كما يعتقد أغلب الناس، إلى أن يكون البذل وإعطاء المال هو الطريق نحو السعادة. وبذلك فإن الفيلم يجعل المشاهد غارقًا بالتفكير في المعنى الوجودي والتناقضات التي يعيشها الفرد في سياق اجتماعي وثقافي.


    المصادر و المراجع

  • [1] أحمد العدواني، ثيمة الشك في الرواية الميتا سردية، ص4.
  • [2] أحمد العدواني، ثيمة الشك في الرواية الميتا سردية، ص 10.