عزلة السجن وحلم الحرية (دراسة سردية في رواية منزل الأموات)

صدوف صلاح الحربي

المقدمة

يُعدّ مصطلح "علم السرد" أو "السردية" ( Narratology) أحد المصطلحات التي برزت في حقل النقد الأدبي تحت تأثير البنيوية، وهي تُعدّ من الدراسات السردية المهمة في الأدب والعلوم الإنسانية، وأحد أنواع الدراسات النقدية، وتركز الدراسات السردية على تحليل القصص والروايات وكيفية بناء السرد وتطوره في مختلف الأشكال الأدبية، ظهر مصطلح "علم السرد" لأول مرة عام ١٩٦٩ مع تودوروف في كتابه "قواعد الديكاميرون"؛ حيث عرفه بعلم القصة، وقد أسهمت هذه الجهود في ظهور نظريات أدبية جديدة عززت مكانة علم السرد كجزء أساسي في تحليل النصوص الأدبية. ورد لفظ السرد في عدة مواضع من القرآن الكريم، من ذلك قوله عز وجل: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سورة سبأ (الآية:١٠-١١). أما السرد عند عز الدين إسماعيل فهو: "نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية، بمعنى أن التجسيد الفعلي والتطبيقي للسرد يظهر فيها من خلال الملفوظات السردية التي تترجم على الورق وأداتها اللغة؛ حيث تُعدّ الرواية شكلًا أدبيًا وأشهر الأشكال الفنية في الأدب، وتتميز بقدرتها على سرد القصص وتقديم شخصيات معقدة وأحداث مترابطة؛ ليمنح القارئ الغوص في عوالم جديدة وتجارب إنسانية متنوعة يمتد تاريخ الرواية إلى قرون ومع بداية القرن التاسع عشر دخل الأدب الروسي عصرًا جديدًا مهمًا في تطويره، وسار الأدب الروسي على طريق الأصالة والتجديد، وامتدت على مراحل مختلفة لتطور الرواية الروسية، فإن علم سرد الروايات ليس فقط فنًا أدبيًا بل هو أيضًا وسيلة للتعلم والتواصل والتأثير، ويهدف هذا العلم إلى تقديم وصف منهجي للخصائص التفصيلية المتعلقة بالنصوص السردية، بحيث يشمل الجوانب النظرية والتطبيقية في دراسة بنية السرد وخصائصه.

تطور هذا الحقل من خلال جهود نقاد وباحثين بارزين، مثل: فلاديمير بروب، وتزفيتان تودوروف، وفيودو دوستويفسكي؛ حيث سعوا إلى تحديد خصائص النصوص السردية، مما جعل هذا العلم جزءًا أساسيًا من الدراسات الأدبية، ومن بين الروائيين الكبار الذي تمكن من تطبيق علم السرد في أعماله هو الكاتب الروسي "فيودو دوستويفسكي" الذي يُعدّ من أعظم الروائيين في الأدب العالمي وسيد الكتاب "الواقعيين" في روسيا، وهو يهتم في جميع قصصه بتحليل النفس الإنسانية ويعالج أمراض المجتمع في رواياته، وتستند هذه الدراسة إلى مجموعة من النظريات الأدبية، منها: نظرية السرد، ونظرية الشخصيات مما يتيح للدراسة فهم الأبعاد الثقافية والاجتماعية التي تؤثر في النصوص الأدبية، سنحاول من خلال هذه الدراسة التي تُسهم في تقديم وتحليل رواية "منزل الأموات" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، وتتناول هذه الدراسة موضوعات معقدة تتمحور حول عزلة السجن وحلم الحرية؛ حيث كتب فيودور دوستويفسكي هذه الرواية بناءً على تجربته الشخصية في السجن، تدور الرواية حول شخصية "بأليكسندر بتر وفيتش" وهو رجل روسي من طبقة الطراز القديم يُحكم عليه بالسجن لعدة سنوات؛ بسبب ارتكابه لجريمة قتل ، وأُرسل إلى معسكر العمل في سيبيريا؛ حيث يواجه هناك ظروفًا قاسية ومعاملة صارمة داخل السجن، وكيف يتفاعل مع السجناء الآخرين، وكل منهم يحمل قصة فريدة ومؤلمة من خلال هذه الدراسة يعرض دوستويفسكي تحليلًا عميقًا لمعاناة السجناء النفسية والجسدية والصراعات اليومية والأمل المتعلق بحلم الحرية، وتُعدّ هذه الرواية من الأعمال الأدبية في الأدب الروسي؛ حيث تعكس واقع الحياة داخل السجن وتصور الصراعات التي يواجهها السجناء، تجسد الرواية أنموذجًا للدراسة السردية التي تناولت موضوع السجون، وتأثير العزلة في النفس البشرية، والرغبة في التحرر لقد نهض الأدب الروسي في القرن التاسع عشر نهضة كبرى، واحتل مكانة سامية بين الآداب العالمية الأخرى، كما ذكر (ويتشاكسونو،٢٠٢٢) "عند دراسة أثر أدبي أو فليم أو رواية أو قصة قصيرة، من المهم بالنسبة لنا أن نعرف كيف يتكون المحتوى السردي، كيف موقع الراوي في القصة، وكيف صوت الراوي الذي يروي القصة للمستمع، أما الأشياء المذكورة فهي مرتبطة مباشرة بنظرية السرد".

ومن هذا المنطلق نأمل أن يسهم هذا البحث في إثراء المكتبة العربية، وأن يكون منطلقًا لأبحاث ودراسات جديدة، ومن خلال هذه الدراسة نستطيع أن نرى كيف استطاع فيودور دوستويفسكي أن يسلط الضوء على تجارب الإنسان في مواجهة العزلة والسعي نحو الحرية، مما يجعل روايته "منزل الأموات" مثالًا أدبيًا بارزًا في الأدب الروسي.

أهمية الدراسة

تتجلى أهمية الدراسة في استكشاف موضوعين رئيسين هما: عزلة السجن، وحلم الحرية. ومن هنا كانت أهمية هذه الدراسة؛ حيث نجد أن دوستويفسكي الذي عاش بنفسه تجربة السجن ويقدم لنا وصفًا دقيقًا لتلك الحياة المقيدة، إضافة إلى ذلك يمثل حلم الحرية حيث يعبّر السجناء عن تطلعاتهم وآمالهم للخروج من هذا السجن، اخترت دراسة عزلة السجن وحلم الحرية أولًا العزلة التي يعيشها السجناء رغم أقصى الظروف، وثانيًا حلم الحرية رغبة إلى التحرر والتغيير وهو شعور يتقاسمه معظم الناس عن ظروفهم في السجن.

هذا الموضوع يستحق النظر لأنه يظهر لنا كيف يمكن للألم أن يكون طريقًا للتأمل الداخلي، وكيف تتحول الحرية إلى هدف سام ليصبح طموح يسعى الجميع إلى تحقيقه، علاوة على ذلك تتناول الرواية قضايا تتعلق بالعدالة والإنسانية من خلال سرد تجارب السجناء، واستكشاف أبعاد الحرية الحقيقة التي قد لا تتحلى في التخلص من القيود المادية فقط، بل في قدرة الإنسان على التحرر من قيود ذاته وأفكاره المحدودة، ويسلط دوستويفسكي الضوء على الصراعات الداخلية التي يعيشها الفرد وكيف تؤثر الظروف المحيطة بأفكارهم ومشاعرهم، ومن هنا تصبح هذه الرحلة السردية في منزل الأموات أكثر من مجرد سرد، بل إنها دعوة للقارئ على التفكير في معاني الحياة والحرية، وكيف يمكن للنفس أن تجد قوتها رغم السقوط، وأن تستمر في الحلم حتى في ظلام العزلة.

مشكلة الدراسة

يتناول هذا البحث تجربة السجن وأنها ليست مجرد فصل جسدي عن العالم الخارجي، بل هي تجربة نفسية مؤلمة تنعكس على حياة السجين، وتأثيرها النفسي والاجتماعي، فالعزلة هنا ليست فقط عزلة جسدية، بل هي عزلة روحية ونفسية عن العالم الخارجي؛ حيث تتشابك فيه الأبعاد النفسية و الاجتماعية و الفلسفية بطريقة تتطلب تحليلًا عميقًا حسيًا، الثغرة المعرفية التي تسعى الدراسة إلى ملئها، على الرغم من شهرة الرواية غياب التحليل السردي العميق، ولم تحظ عناصر السرد بتحليل شامل يوضح كيفية استخدامها لتجسيد مشاعر العزلة وحلم الحرية، كما أن هناك نقص في الدراسات التي تعالج الرواية من منظور سردي، مما يستدعي مزيدًا من الدراسة للتعمق فيها.

من خلال هذه المشكلة تسعى الدراسة إلى فهم كيفية استخدام العناصر السردية والأدوات الأدبية في تصوير العزلة السجنية، وحلم الحرية، وسد هذه الثغرة عبر تقديم تحليل سردي للرواية، إضافة إلى دراسة تأثير هذه العناصر في إيصال رؤية الكاتب عن الصراع الإنساني مع القيود النفسية المادية.

أسئلة البحث

● كيف تُصوّر تجربة عزلة السجن رواية منزل الأموات؟
● ما الرمزية التي تحملها فكرة حلم الحرية في الرواية، وكيف تتجلى في حياة شخصيات السجن؟
● كيف تؤثر الظروف النفسية والاجتماعية في تجارب الشخصيات داخل السجن؟

الحدود الزمانية والمكانية والموضوعية

الحدود الزمانية: تدور أحداث الرواية في القرن التاسع عشر، وتحديدًا في فترة حكم الإمبراطورية الروسية، وتناولت الدراسة الأحداث في معسكر العمل السيبيري التي تنعكس على فترة العقوبة التي قضاها دوستويفسكي في السجن؛ حيث كانت روسيا تمر بمرحلة سياسية واجتماعية.

الحدود المكانية: تدور أحداث الرواية في سجن سيبيريا في روسيا وهو مكان يعكس عزلة قاسية الذي يمثل بيئة مغلقة وقاسية داخل معسكر العمل.

الحدود الموضوعية: تتناول الدراسة في الرواية موضوعات عديدة تشمل قضايا العزلة والحرية والعدالة، ويتناول دوستويفسكي من خلال سرد تجارب السجناء مجموعة من الموضوعات الإنسانية الأساسية، مثل: الهوية، والأمل، واليأس، والصراع الداخلي والخارجي الذي يعيشها الأفراد في ظل ظروف قاسية.

أهداف الدراسة

● تحليل كيفية تصوير العزلة داخل السجن.
● فهم الأبعاد النفسية والاجتماعية للعزلة والحرية كما تظهر في الرواية.
● استكشاف ظروف السجناء على مشاعر الشخصيات وتطلعاتهم نحو الحرية.
● تحليل العناصر السردية المستخدمة لتعزيز موضوع العزلة وحلم الحرية.

في هذا البحث استخدمت المنهج الوصفي التحليلي لوصف وتحليل النص الأدبي؛ للكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية المرتبطة بعزلة السجن وحلم الحرية، وتحليل الأحداث والشخصيات والرموز والموضوعات لتوضيح رؤية الكاتب حول الصراع النفسي والداخلي للسجناء.

المنهج المتبع لهذه الدراسة هو المنهج النقدي الأدبي، الذي يعتمد على تحليل الأدب من زاوية نقدية.

منهج الدراسة العام
أدوات البحث

في هذه الدراسة استخدمت تقنية القراءة والكتابة، الخطوات التي استخدمت كما يأتي:

تقنية القراءة:
● قراءة شاملة ودقيقة للرواية وترجمة معاني المفردات.
● إعادة قراءة الرواية تحليليًا مع التركيز على الأوصاف والحوارات والرموز.
● البحث عن دراسة بنية السرد، وكيفية تفاعل الشخصيات مع الزمان والمكان.

تقنية الكتابة:
● تسجيل الملحوظات وكتابتها أثناء القراءة.
● كتابة الأفكار واستخلاص النقاط المهمة.
● صياغة النقاط المهمة وتحليلها لإعداد خطة دراسية.
● كتابة النتائج النهائية التي تلخص الرواية، وتجسيد دور السرد في تناول عزلة السجن وحلم الحرية.

الفصل الأول

تمهيد
الرواية هي شكل من أشكال الأدب السردي، تستخدم لتناول موضوعات متنوعة من خلال سرد قصة خيالية أو من مستندة إلى أحداث واقعية، تتكون الرواية من عدة فصول، وتتميز بعرض الشخصيات والأحداث والصراعات والزمان والأماكن؛ ليتيح للقارئ تجربة المغامرة والتشويق، وتعرف الرواية قصص أو خيال أيضًا بالنص أو الخطاب السردي بوصفها أحد الأنواع الأدبية، إضافة إلى القصة القصيرة والشعر والمسرحي، يقصد الخيال قصة خيالية، وهي قصة سردية لا توحي محتوياتها بالحقيقة التاريخية أو لا تحدث فعليًا في العالم الحقيقي، الأحداث والشخصيات والأماكن في الخيال هي أحداث وشخصيات وأماكن خيالية (المعروف وفريدة ٢٠١٧،ص. ٧٤). كما ذكر فيودور دوستويفسكي في كتابه الجريمة والعقاب أن الرواية هي الحياة بما يتفاعل فيها من قضايا اجتماعية وسياسية، وتاريخية وفكرية، الحياة التي ينتجها الإبداع ويقولها الفن، الحياة التي لا تجبر الآخر على التعامل معها ما دامت ليست قانونًا.

يُعدّ فيودور دوستويفسكي رواية منزل الأموات التي نشرها فصولًا مسلسلة في مجلته، وكان لنشرها على هذه الصورة أثر في تكوين القصة ذاتها فهي عبارة عن فصول مختلفة لا تربطها عقدة واحدة، يصف فيها حياة المساجين وصفًا دقيقًا ويحلل مشاعرهم تحليلًا رائعًا صادقًا، ويروي بعضهم قصة الجريمة التي أدت به إلى السجن والقصة في حملتها أقرب إلى المذاكرات منها إلى الرواية المحبوكة، وتتسم القصة الواقعية الصارمة ليعجب القارئ كيف استطاع المؤلف أن يجرد الكتاب كل هذا التجريد من تجاربه الخاصة التي كان لها أثر كبير في حياته، ومن هنا يصف فيودور دوستويفسكي القصة وصفًا دقيقًا لما يضطرب في نفس المجرم من هواجس وأفكار، قبل ارتكاب الجريمة وبعدها، فيعرض فيها مهارة فنية فائقة وقدرة قصصية بالغة، تملأ القارئ روعة وتبعثه على الرغبة في الإصلاح.

خصائص الرواية

الشخصيات:
● الشخصية الروائية أهم العناصر الأساسية المكونة للبنية السردية؛ لما تلعبه من دور رئيس في إنتاج الأحداث "إذ تُعدّ محورًا أساسيًا في الرواية ومركز الحدث فيها، بل هي المكون الأكبر للنص الروائي، كما أنها عوامل مساهمة في هذا التشكيل الفني".
يبرز دوستويفسكي مجموعة من الشخصيات المختلفة داخل جدران السجن؛ حيث يكافح السجناء من أجل البقاء على قيد الحياة في وسط ظروف قاسية، حيث يعيش كل سجين حياته تجربته الخاصة في مواجهة العزلة والصراع وحلم التحرر إليك سردًا لشخصيات الرواية. ألكساندر بيتر وفيتش هو الشخصية الرئيسة، وهو رجل نبيل حكم عليه بالسجن لفترة طويلة ويتفاعل مع تجارب السجناء برؤية فلسفية رغم مكانته الاجتماعية سابقًا، ومع مرور الوقت يكتسب نظرة مختلفة عن الحياة وأحلام الحرية. شاتوف أحد السجناء وهو رجل مثقف ذو شخصية قوية معقدة، يحلم بتغير العالم ويكافح من أجل إيجاد مكانه في العالم، ويسعى إلى تحقيق هدف في حياته. زولوتوف أحد السجناء رجل فقير وبسيط ويتمتع بقلب طيب، لا يفهم الكثير من العالم ويحاول دائمًا مساعدة الآخرين، يُعدّ من الشخصيات الإيجابية في الرواية، فهو يمثل الخير والأمل في عالم قاسي. ميرفوي هو أحد السجناء، رجل متعلم وذو ثقافة عالية، معقدة وغنية بالأفكار، يعاني من التشاؤم واليأس، يعتقد أن الحياة لا معنى لها ولا يمكن تغير العالم.

الحبكة السردية:
تدور حول السجناء في السجن سيبيريا؛ حيث تتصاعد الأحداث مع الشخصيات، الحبكة هنا في الرواية ليست خطية بل تتبع أسلوب اليوميات والتفاصيل داخل السجن وتتناول موضوع العزلة، الألم، الأمل؛ حيث يتعرض ألكسندر لصدمة العزلة وفقدان الحرية، وكيف تؤثر في نفسيته وعلاقته مع الآخرين، ويبدأ بالتعرف على مجموعة متنوعة من الشخصيات وسماع تجاربهم المختلفة، تظهر هذه الأحداث تأثير العزلة في السجناء، وكيف يسعون إلى الأمل، ومن هنا تصل الحبكة إلى ذروتها بعد تعرض ألكسندر لصراعات داخلية يتأمل في مصيره، ويدرك أن معنى الحياة والحرية، ويتواصل مع بعض السجناء الذين يشبهونه بالتفكير، يبدأ يتجاوز مشاعر اليأس من خلال محادثتهم حول الحرية والأحلام.

المكان

هو موضع الكون وجميع الكائنات كما ذكر مرشد "الوجه الأول للكون، وهو محور الحياة الذي تحتاجه الكائنات وتتموضع فيه الأشياء، وقد يلعب المكان دورًا مهمًا في تحديد نسق الحياة للكائنات الحية التي تعيش فيها، ومنح أشكال محددة للأشياء المتموضعة فيه"، المكان في منزل الأموات ليس ثابتًا بل يتغير تبعًا للحالة النفسية للسجين، ليصبح مساحة لالتقاء النزلاء مع أنفسهم داخل جدران السجن في الأجواء الكئيبة التي يعيشها السجناء، من خلال هذا المكان يقدم دوستويفسكي رؤية فلسفية عن الألم؛ حيث يصبح المكان رمزًا للغربة والفقدان وحرمان السجناء من حريتهم رغم القسوة والعزلة، يبقى حلم الحرية متأصلًا في نفوسهم للخروج إلى العالم الخارجي، وأن الحرية الحقيقية تتحقق بالتصالح مع الذات والبحث عن المعنى.

الزمان

أشار سعيد يقطين إلى "مادة حكائية ذات بداية ونهاية، تجري في زمن سواء أكان هذا الزمن مسجلًا أم غير مسجل، كرونولوجيا أن تاريخيًا"، الزمن في الرواية لا يقدم كإطار تقليدي للأحداث فحسب، بل يُعاد تشكيله ليصبح تجربة شعورية تظهر الصراع بين العزلة وحلم الحرية، فالزمن في السجن يتحول إلى عنصر ثقيل وبطيء ومتعب من حيث تكرار الأيام على السجناء بنفس التفاصيل تقريبًا، مما يجعل السجناء يشعرون بالملل واليأس، وهنا يقدم دوستويفسكي المعاناة الطويلة في السجن تعيد تشكيل روح الإنسان والتفكير في مواجهة ذنوبهم وعودة السجناء إلى ماضيهم لتبرير أفعالهم لإيجاد معنى للحياة، ويظهر هنا الزمن كعنصر سردي لفهم الشخصيات وفتح أبواب للتأمل والإخلاص.

تحليل الرواية

اللغة والأسلوب:
تتميز لغة الرواية بالعمق، فهي لغة مشحونة بالدلالات والرموز؛ حيث استخدم مجموعة متنوعة من المفردات لوصف حوار يصف الحياة والمعنى، واعتمد دوستويفسكي على السرد بضمير المتكلم، واستخدم الأسلوب الوصفي التحليلي لوصف بيئة السجن بدقة والظروف الطبيعية القاسية التي يعيشها السجين؛ حيث استشعرت بواقعية الأحداث وكأني أعيش مع الشخصيات.

الرمزية والدلالات:
يُمثّل دوستويفسكي السجن في الرواية أكثر من مجرد مكان للعقوبة، بل إنه رمز للعزلة النفسية والاجتماعية، وهنا إجابة للسؤال البحث كيف تُصوّر تجربة السجن؟ بطريقة عميقة ومعقدة، حيث استخدم الرموز لتعميق الأفكار، مثل: الجدران، والأسوار التي ترمز إلى القيد والسجن، والأماكن المفتوحة التي تمثل الحرية والأمل، كما أنه استخدم المجاز والاستعارة عند الحديث عن العزلة كحالة وجودية كما قال السجن كـ"منزل الأموات" استعارة تعكس موت الحياة الطبيعية داخل السجن واستبدالها بحياة منعزلة، والزمن ككائن ثقيل استعارة لطول انتظار الحرية. أما إجابة السؤال الثاني الرمزية التي تحمل فكرة حلم الحرية، فهي رمزية عميقة تتجاوز حدود الخروج من السجن؛ حيث يمثل الحلم بحرية الأمل والتطلعات الإنسانية حيث يصبح رمزًا للرغبة في التحرر من القيود المادية والنفسية، وتتجلى شخصية هذه الرمزية بوضوح من خلال تجارب الشخصيات في السجن. أما إجابة السؤال الثالث، فتبرز الرواية تأثير السجن في نفسيات الشخصيات فالظروف النفسية تظهر بوضوح في تأثير العزلة والشعور باليأس والإحباط.

خرجت الدراسة رواية منزل الأموات للكاتب فيودور دوستويفسكي بمجموعة من الأجناس التي تحمل طابعًا فريدًا؛ حيث تعتمد الرواية على إيقاع هادئ ومأساوي في كثير من مقاطعها، كالأعمال الشاقة، والمحاكمات، والأحاديث العابرة بين السجناء، أيضًا يعتمد على الوصف الحي حيث تأخذ الأصوات دورًا مهمًا في تعزيز الإيقاع الداخلي للنص -على سبيل المثال- حين يصف صرير الأبواب الثقيلة، ووقع الأقدام، وصوت المطرقة في ورشة السجن، فإن هذه الأصوات لا تمثل العمل فقط، بل ترمز إلى القيود التي تحاصر الشخصيات ويشعر القارئ بثقل اللحظة، حيث يصف الكاتب بدقة الحركات الروتينية، مثل: سير السجناء في طوابير، وصراخ أحد السجناء يظهر الألم والقسوة، وهنا يضع القارئ في دوامة البطء داخل السجن، ويأتي هنا بانبثاق الإيقاع من تكرار الكلمات والعبارات التي تعكس الحالة النفسية للسجناء التي تكرر بشكل مقصود لإبراز مشاعر الشخصيات -على سبيل المثال- الكلمات التي تشير إلى "الموت"، "السجن"، "الألم" مما يخلق إيقاعًا نفسيًا يوصل للقارئ إلى عمق مأساة الشخصيات، يستخدم دوستويفسكي التكرار كأداة لتأكيد القضايا الجوهرية في الرواية وطبيعة المعاناة التي تواجه الشخصيات، وهناك تكرار مقصود للصور المتعلقة بالموت والقيود مما يجعل الشعور باليأس ويضيف بعدًا دراميًا في الرواية. تمتاز الرواية بوصف بصري وصوتي وصفًا غنيًا وصوتًا واقعيًا مما يجعل للقارئ تخيل لأحداث المكان بوضوح وسماع أصوات السلاسل وضجيج العمال وصراخ السجناء، يجعل القارئ أن يعيش التجربة وكأنه موجود بينهم.

ما أذهلني هو قدرة الكاتب على استبطان النفس البشرية وكيف رسم تفاصيل المعاناة النفسية والاجتماعية بعناية، بل عبر أعماق المشاعر المتضاربة من الأمل واليأس ومن العزلة والرغبة الجامحة في الحرية، بل هو لم يجعل السجن مجرد مكان، بل حوله إلى رمز للعزلة النفسية والروحية التي يعشيها الإنسان في أي مكان وزمان. ونأمل من هذه الدراسة أن تكون إسهامًا متواضعًا في هذا المجال الأدبي الروسي؛ حيث أثارت في نفسي عدة تساؤلات حول طبيعة حلم الحرية: هل هي مجرد التحرر من القيود الجسدية؟ أم أنها رحلة داخلية إلى أعماق الذات؟ تلك الفكرة الجوهرية أرى في منزل الأموات عملًا أدبيًا خالدًا ويتأمل فيه ويُعاد اكتشاف الرواية.

الخاتمة

ومن هذا المنطلق نأمل أن يسهم هذا البحث في إثراء المكتبة العربية، وأن يكون منطلقًا لأبحاث ودراسات جديدة، رواية "منزل الأموات" تُعدّ واحدة من الأعمال الأدبية، ومن أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة التي أن الرواية هي ليست مجرد سرد لتجربة السجن، بل هي انعكاس عميق للمآسي الإنسانية، وتبين من الدراسة إبداع دوستويفسكي في نسج أحداث الرواية بأسلوب يمزج بين الواقع المرير والتأمل النفسي، التي تحمل قصصًا وتجارب تنقل القارئ أجواء المعسكر القاسي في سيبيريا، واستكشاف معاني الحرية والعزلة والصراع النفسي الذي واجهه الإنسان في أقسى ظروفه. وأشارت نتائج الدراسة إلى تأثير العزلة الجسدية والنفسية في السجناء، وكيف تتحول هذه التجربة إلى فرصة لإعادة التفكير في الحياة، ومواجهة الذات، رغم القسوة والظروف الصعبة لاستكشاف الصراعات الداخلية وتبرير الذكريات الماضية، بيَّنَت النتائج التي توصَّلت إليها الدراسة شخصيات الرواية متمسكة بحلم الحرية كهدف سامٍ، يمنحها الدافع للصمود، ويبرز هذا الحلم كرمز للطموح الإنساني والتأمل في معاني العدالة والحرية. في الختام، تؤكد رواية "منزل الأموات" قدرة الأدب على استكشاف أعماق النفس الإنسانية، وأن فهم العناصر السردية يمكّن القارئ من تقدير الأعمال الأدبية بشكل أعمق، مما يفتح المجال لمزيد من الدراسات التي تعالج النصوص من زوايا أخرى.


    المصادر و المراجع

  • ● رمضاني، طارق، وسدراتي، لينا. رواية "سلالم ترولار" لسمير قسيمي. (2022).
  • ● سلامة، علي. الشخصية الثانوية ودورها في المعمار الروائي عند نجيب محفوظ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، مصر، (د/ط)٢٠٠٧، ص٣٢.
  • ● عزالدين، إسماعيل. الأدب وفنونه (دراسة ونقد)، دار الفكر العربي، القاهرة، ط ٢٠١٣،٩، ص ص ١٠٥،١٠٤.
  • ● الغمري، مكارم. الرواية الروسية ازدهرت في القرن التاسع عشر وصورت الشعب: عالم المعرفة.
  • ● الرواية الروسية ازدهرت في القرن التاسع عشر وصورت الشعب
  • ● فطري، عملية. البنية السردية في رواية آمال وأقدار لثروت أباظة: دراسة أدبية سردية جيرار جينيت. جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية مالانج، ٢٠٢٢
  • ● قدرز، سميرة، صليحة بوودن، وليلى جباري. "الجريمة والعقاب: دراسة سردية" رسالة ماجستير. جامعة منتوري قسنطينة، قسنطينة، 2011. مسترجع من http://search.mandumah.com/Record/545221
  • ● كنوشي، والهوصاوي. البنية السردية في الرواية العربية. جامعة أحمد دراية-أدرار,٢٠١٨.
  • ● مانفريد، يان. علم السرد مدخل إلى نظرية السرد. سوريا دمشق، دار نينوى،٢٠١١.
  • ● مرشد، أحمد. جدل الزمان والمكان في روايات عبد الرحمن منيف، مجلة بحوث جامعة حلب، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، سوريا ع ١٩٩٢،٢٢، ص٥٦.
  • ● منيرة، وهيبة، وبليلي، حاج. بنية السرد في رواية" ليالي سردينيا" لعمار بورويس.، 2024.
  • ● ويتشاكسونو، أمهر كاليه. الهيكل السردي في القصة القصيرة أطفال الغابة لمحمد عطية الإبراشي: دراسة سردية نظرية جيرار جينيت. جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية مالانج،٢٠٢٢.
  • ● يقطين، سعيد. تحليل الخطاب الروائي، الزمن السرد التبئير، ص ٨٩.