سيد حسن ابن هاشمية
المقدمة
يُعدّ الشعر الإنشادي وسيلة فعّالة لحفظ الموروث الملحمي في المخيال الجمعي، كونها تغنى في تجمعات دورية أو غير دورية، ويؤكد فيها الحدث الذي يتناوله الشعر، ولربما أوضح مثال على ذلك هو الإلياذة، والأوديسة. وعلى سبيل الإمتاع فقد كان الشعراء يقرؤون هذه الملاحم مصاحبًا لهم عازف على آلة القيثارة. وإن كان الشعر الرثائي الحسيني، لا يُنشد للإمتاع، بل على النقيض تمامًا، فوظيفته الأساسية هي الإبكاء والتفجع، فهذا عقبة بن عمرو السهمي وهو من أوائل من ندب الحسين يقول:
إذا الــعينُ قـَرت في الحياة وأنتمُ تَـــخَافُونَ فِي الــدنيا فأظلم نُورُها
مررتُ على قبر الحسين بكربلا ففاض عليها من دموعي غَزيرُها
ومــازِلتُ أبـــكيه وأرثي لشجوهِ ويُـسعِد عــيني دَمــعُها وزفــيرُها [1]
فهنا يؤكد بأنه يمر على قبر الإمام الحسين لغرض البكاء وبفعل غير مصطنع، فإن عينيه المملوءة دموعًا تفيض وتذرف غزير الدمع، وإن هذا البكاء الذي تصاحبه زفرات الألم لهو سلوى لقلبه، المكلوم بفقد الإمام الحسين.
فهنا يؤكد بأنه يمر على قبر الإمام الحسين لغرض البكاء وبفعل غير مصطنع، فإن عينيه المملوءة دموعًا تفيض وتذرف غزير الدمع، وإن هذا البكاء الذي تصاحبه زفرات الألم لهو سلوى لقلبه، المكلوم بفقد الإمام الحسين.
حين نتتبع الشعر الرثائي الحسيني، قد نجده في أول أيامه لا يختلف كثيرًا في صوره عما يألفه الشعراء في عصر الحدث، فإننا نرى سليمان بن قتة التيمي فيما يشبه البكاء على الأطلال في إنشاده أول ندب في الحسين:
مَــرَرتُ على أبيــــاتِ آل محــمد فلـم أرهــا أمثالهــا يـــوم حُــلَّتِ
فــــلا يُبْعِـــد اللهُ الديـــــار وأهلها وإن أصبحت من أهلها قد تخلتِ
وإن قتيل الطف من آل هاشـم أذل رقـــــاب المـــسلمـــــين فذلـــتِ [2]
لكن مع تقادم الزمن فإن الشعراء الذين كتبوا الرثاء في الإمام الحسين قد دأبوا أن يكثفوا الصور الحسية التي تثير في النفس الحزن والألم على ما حدث للإمام الحسين، فهذا السيد إسماعيل الحميري، وهو من شعراء العصر العباسي، ينشد:
أمرر على جدث الـحسين وقل لأعظمه الزكيه
يــا أعــــظمًا لا زلـت من وطفاء ساكبة رويـه
مــا لـذ عيش بعد رضـك بـالجيــاد الأعـوجيه [3]
فهنا الحميري يخاطب قبر الإمام الحسين، ولتحننه عليه فيصف أعظمه بالزكية، بل يؤكد بأنها وطفاء طرية مليئة بالحياة، رويه لا عطش فيها، ليرسم في مخيلة المستمع صورة من غير ألم، خلافًا لما حل على الإمام الحسين، فتكون الصورة أكثر إيلامًا، ويلحقها ببيته الثالث، بأن العيش قد فقد لذته من بعد أن رضت الجياد عظام الإمام الحسين. وليس ببعيد عن زمن السيد الحميري، فهذا دعبل الخزاعي يأتي نادبًا للإمام الحسين بنمط مختلف، فها هو يستحضر صورة المرأة في الشعر الرثائي، ويقرأ شعره في محضر الإمام علي بن موسى الرضا، الحفيد الخامس للإمام الحسين قائلًا:
أفاطم لو خلت الحسين مـــجدلًا وقد مــات عطشانًا بشط فـــرات
إذن للطمت الخد فـــاطم عــنده وأجريت دمع العين في الوجنات
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي نجــــوم سمـــاوات بأرض فـلاة
ديار رسول الله أصبحن بلـــقعًا وآل زيـــاد تـــسكن الـــحجرات
وآل رسول الله تـسبى حـريمهم وآل زيـــاد آمـــــــنوا الـــسربات [4]
فهنا دعبل يستحضر إحدى صور المرأة، فهو يخاطب السيدة فاطمة بنت رسول الله ويستبكيها بالمتناقضات: فهذا الحسين ملقى على الثرى، مات عطشان، أمام نهر الفرات، ويستبكيها مجددًا بمفارقة أخرى فهذه النجوم الزاهية، مكانها أن تكون زينة للسماوات، لا أجساد مقطعة في صحراء خاوية. ويستمر في تبيان التناقضات في الأحوال، فيتناول صورة أخرى للمرأة التي حضرت واقعة كربلاء، فنساء الرسول في خوف مسبيات ونساء آل زياد -والي الكوفة الذي أجرى الأمر بقتل الحسين- يعشن في مأمن.
ومع تلاحق الوقت تطور الأدب الرثائي الحسيني في الشكل والصور الحسية والمخيال والأساليب الأدبية المستخدمة فأصبح أكثر تعقيدًا، وقد تتضح القفزة في هذه الخصائص عندما ننتقل للزمن المعاصر، فالشاعر السيد عبد الخالق المحنة يتخلى في أغلب شعره الحسيني عن العربية الفصيحة، ويكتب بالدارجة العراقية لتكون أسهل لوصول الصورة الحسية المفجعة للمستمع العراقي:
يمـــــــــيمون [5] أقـــــــــــــله أخــــــوي المـــــــنذبــــح لازم أحـــــــــضره
وأجــــــيله وأجر ســــيف وأطـــبر[6] رأسي مثـــــله اثنـــــعش طــــبره
وأنـــــــادي يهــل[7] خــيل اســـحقن صــدري بس عــوفــنلي[8] صـــدره
وأخسفك يـــــصـــدري أريــــــد أشــــكم ضــــــلع يمــــه أكــــــسره
يـــــسكنه الحــــــــــوافر يـظل بيهـــا جـــــلد من صــــــدر الحــــــسين
تـــــــطشر[9] وألـــــم بــــيه أدور خــــــــــنصره ومـــــــــضيعه چــــــفين [10]
ما أقـــــولن بـــــــــــعدك انــــــهزمنه هـــالـــعبـــي[11] بيـــــهــن شـــرف زلمـــــنه
فالأسلوب الذي اتخذه السيد عبد الخالق في هذه القصيدة هو أسلوب قصصي خطابي، يستعير الشاعر هنا صوت ليس بصوته، بل يتحدث على لسان السيدة زينب بنت علي، مخاطبةً ابنة أخيها سكينة بنت الحسين. وذلك ليكون المتلقي أقرب للحدث، وكأنه معهن وقت الحوار، مستمعًا لما يتبادلنه من حديث، فتكون الصورة أحرى في الألم والتفجع. يستخدم هذا النص الكثير من النداءات وحروف المد التي تساعد ملقي النص الإنشادي أن يضيف على النص الآهات ليكون أبلغ في إيصال إحساس الألم. يجسد هذا النص الخروج التام من حالة السكينة في المصيبة وقمة الاضطراب، فالسيدة زينب هنا في حالة الربكة تذهب للميمون تكلمه بالرغم من أنه فرس لا ينطق تخبره بأن يأخذها لمكان سقوط أخيها، لتتحطم أكثر عندما ترى رأسه قد حز عن جسده باثنتي عشرة ضربة، فتتمنى أن تأخذ سيفًا لتضرب رأسها به اثنتي عشرة ضربة، كما الحسين، وفي تلك الحالة فإنها ترى الخيول تطئ صدر الإمام الحسين، فتطلب منها أن تكون مكان جسد الحسين فيسحق صدرها عوضًا عن صدر الحسين، وإن لم يحدث ذلك فستقوم هي بتكسير أضلع صدرها، كما حدث للحسين. وفي قمة شدهها تصف لسكينة بنت الحسين ما رأته، فهذه الحوافر التي داست على صدر الحسين يعلق بها جلد من جسد الحسين، فتهرع مجدة تجمع ما يتطاير من حوافر الخيول، باحثة عن جلد وأعضاء الحسين التي تطايرت. وفي النهاية كأن زينب تشعر بأن الإمام الحسين قد تنبه لارتياعها، فتهدأ قليلًا لتخبره بألا يقلق فهي لم تهزم بعد، وأن عباءتها لا زالت تحمل قيم الحسين.
فنرى بوضوح بأن الشعر الرثائي الحسيني الذي بدأ كبكاء على الأطلال يحكي حال الشاعر، قد تطور كثيرًا في الشكل، والأسلوب، فقد أصبح أكثر تعقيدًا وتكثيفًا كل ذلك ليؤدي وظيفة التفجع. وليؤدي الشعر الحسيني وظيفته فإن الشعراء نظموا الشعر في عدة صور وثيمات متكررة منها: العطش، السيوف والحراب التي قطعت الحسين، الأسر والسبي، الشهادة والموت، فلسفة ثورة الحسين، والغم والحزن الذي حل على من حضر الواقعة، أو المخلوقات المختلفة كالطيور والحيتان والجن، أو الحزن والألم الذي يحسه الشاعر نفسه . [1213]
في بحثه عن أثر الشعائر في المجتمعات يتبنى السيد ماجد السادة، رؤية دوركايم في الشعائر فدوركايم يراها: "مجموعة وظائف تحقق في نتيجتها ومحصلتها تماسك اجتماعيًا". فالسادة يرى أن هذا التماسك المجتمعي بسبب الشعائر لا يحدث إلا إذا توفرت خصائص معينة لهذه الممارسات، وهي أن تتمكن الشعائر من تعزيز قيمًا مشتركة، وقادرة على صنع أهداف مشتركة للمجتمع، وأن تُحْيَا هذه الشعائر بشكل جماعي، حينها تؤدي الشعائر وظيفتها، في تعزيز الروح الجماعية في المجتمع. وإنَّ توارث الشعائر الدينية جيلًا عن جيل يعزز هوية خاصة للمجتمع الذي يُحيي الشعائر ويجعلها تميزه عن المجتمعات الأخرى . [14]
بناءً على ذلك فإن الشعر الرثائي الحسيني -بكونه إحدى الشعائر الدينية- يحمل في ذاته مخزونًا متوارثًا لكثير من القيم الثقافية، ولفهم هذا الموروث بصورة أعمق فإننا ندرس في هذه الدراسة صورة المرأة في الشعر الرثائي الحسيني، في مبحثين: أولًا، صورة المرأة في الشعر الرثائي الحسيني، وفيه نستعرض جميع صور المرأة التي استخدمها الشعراء للكتابة عن المرأة في الشعر الحسيني، فنُعرِفها ونمثل عليها، ونشرح نصوصها. ثانيًا، التحيزات الذكورية في الشعر الرثائي الحسيني، وفيه نستعرض بعض التحيزات الذكورية التي وقفنا عليها من خلال الأمثلة التي عرضناها في المبحث الأول.
المبحث الأول: صور المرأة في الشعر الرثائي الحسيني
تحضر صورة المرأة في العديد من هذه الثيمات بثلاثة أنماط مختلفة، يتفرع من كل نمط عدة صور. النمط الأول: المرأة في حضور الرجل الحامي، النمط الثاني: المرأة في غياب الرجل الحامي، النمط الثالث: المرأة في غياب الحدود الفيزيائية. وسنبين كل نمط منها والصور التي تتفرع منها بأمثلة مختارة
أ- المرأة في حضور الرجل
للمرأة في حضور الرجل ثلاث صور متكررة في الشعر الحسيني. يبرز في هذه الصور طيف من المشاعر للمرأة، تتدرج من التوتر والربكة، إلى مرتبة من الفخر والاعتزاز. ومن الممكن القول إن المرأة في حضور الرجل تظهر في حالة متزنة في الغالب، إن بدأت الحالة الشعورية للمرأة متوترة فإنها تنتهي مستقرة. ومن الممكن أن نقسم هذا النمط إلى ثلاث صور: أولًا، المرأة المتوجسة، ثانيًا، المرأة المرشدة، ثالثًا، المرأة شريكة الحزن وسنفصل أكثر لكل صورة من هذه الصور.
أولًا- المرأة المتوجسة
تكون المرأة في هذه الصورة في نوع بسيط من التوتر والارتباك، يكون مصدر هذه الربكة في الغالب، تكاثر الجيوش المحيطة بالمخيم في قِبَال قلة عدد الرجال في معسكر الإمام الحسين، يهدأ هذا الشعور فور أن تبث المرأة بمشاعر الخوف لأحد الرجال الذين يؤكدون بأنهم سيقدمون أرواحهم قبل أن يصل أي أذى للنساء. تبرز هذه الصورة في قصيدة "كم نهرًا يرضي؟" للأديب لؤي حبيب الهلال الأحسائي، الذي يُصوّر مشهدًا حواريًا بين السيدة زينب، وأخيها العباس بن علي؛ حيث تبث له قلقها من تكاثر الجيوش، في حال عطش الأطفال، فيقول لؤي حبيب الهلال على لسان العباس:
اسمي وَشِعَاري سيَفُ الكَـرَّارِ
أَنَا يَا حَوْرَاءُ الصَّرْصَرُ منْ غَضَبِ البَارِي
أَنَــا صَيحَةُ عَـادِ أَنَا بِالمِرْصَـادِ
وعَـــــذَابُ الـــــنَّارِ أَنَا لــــكِن قَبلَ الـــــــنَارِ
كَـم نهرًا يُرضِي حَورَاءَ النبضِ
سَأُحِيــــلُ الــصَخرَ إذا شِئـتِ نَـهرًا جـارِي
قَــرِّي ما هُم بِجُيُوش بَل هُم عِهنٌ مَنفُوش
ما العهنُ إذَا مَا مَسَّ العَبَّاسُ البَتَّارْ
واسمِي بابُ الحَاجَات ورضاك هُو الغَاياتْ
وَخـَــيَاري فِي الدُّنيا ما زَينَبُ لـــي تَختَارْ
يستعير الهلال في هذا النص بشكل مكثف الكثير من التعابير القرآنية في جل الأشطر، فالعباس هنا يتجلى كمُجرٍ للإرادة الإلهية في عقاب الكفار، فهو "صيحة عاد"، "بالمرصاد"، "عذاب النار"، والجيوش ليست بجيوش حقيقية، بل هي "عهن منفوش" لا يمكنها الصمود أمام "مس العباس" لبتاره، فكيف لو دخل العباس المعركة؟ فالعباس هنا يستهين بالجيوش الآتية لقتالهم، ليدخل على أخته زينب الطمأنينة. كذلك فإن الهلال يطمئن السيدة زينب باستحضار: شخصيتين أخريين، الأولى: هي شخصية الأب الحامي الإمام علي، والمقاتل البطل الذي لا يشق له غبار، فالعباس هنا "سيف الكرار" الذي لم يهزم يومًا، فلا داعي للقلق. الشخصية الثانية: وإن كانت أقل وضوحًا، فإن الهلال يستحضر شخصية النبي موسى، ففي غياهب التيه وعطش بني إسرائيل فقد جاء كليم الله، بمشيئة آلهية، بالماء وأخرجه من الصخر، وهذا هو وعد العباس ذاته "سأحيل الصخر إذا شئت نهرًا جاري". ونرى رمزية المشيئة متكررة في هذا المقطع بشكل كبير، وفي الواقع فإن المشيئة هنا ليست آلهية، بل هي مشيئة السيدة زينب نفسها، فإن شاءت فهو العذاب الذي لا يُرَد، وإن شاءت فهو سيجري الماء من الصخر، والسبب لأن غاية العباس، "باب الحاجات"، هو أن ترضى زينب. ويؤكد ذلك الاستعارة القرآنية الأخيرة، فالعباس يقول لزينب إنه لا يخرج في خياره عما تختار زينب، وكأن الهلال كتب شطره الأخير محاكيًا الآية الكريمة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين}.
ثانيًا- المرأة المرشدة
تكون المرأة في هذه الصورة، قوية، غير مهتزة، لا يرف لها جفن، بل يقوم دورها هنا في شد عزم الرجال، وهدف المرأة هنا هو تشجيع أبنائهن، أزواجهن، وأخوتهن، للبروز والقتال بكل قوة، وجأش، لكي يدفعوا بأرواحهم دون أن يصل أي أذى للإمام الحسين. ويستمر هذا الشعور عادةً في كل القصيدة، فلا مكان لأي نوع من الانكسار أو اهتزاز للموقف، فالدفع عن الإمام الحسين هي غاية كل من حضر المعركة. ليجسد هذه الصورة، يقوم الشاعر كرار الخفاجي، باستحضار شخصية أم وهب، وهي امرأة طاعنة في السن، لحقت هي وابنها وهب (حديث الزواج) وزوجته، لركب الحسين دفاعًا عنه فور معرفتهم بقربه لكربلاء:
هيه حشمت ولدها واتحشم
وللقتال بشجاعة تقدم
عالفوارس، غضب سيفه دمدم
ساعة، لنه رجع للمخيم
گلها: يا يمه احتفي وإن شاء الله اوليدچ وفي
جاوبت: لا يا وهب من تنذبح راح اكتفي
رَدْ بعد للمعركة
والمُوت ساعة امبَارَكَه
احسين يستنصر وگف ولا سامح الله اليتركه
فمشى نحو المدى راجيًا لقيا الردى
به أحاط الأعادي وهو فيهم أشوس
بكل طعنة رمح أمه تستأنس
لم تخف لما وثب إنها أم وهب
هنا يروي الخفاجي إصرار المرأة وثباتها على موقفها، مهما كان الثمن، فأم وهب تشجع ولدها ليذهب للقتال، وتكون القافية الأولى للقصيدة منتهية بحرف الميم الساكن، الذي يوحي على تمام الكلام ، [15] فيبعث نوعًا من الفضول والتساؤل، فأم وهب تشجع ابنها للقتال، هل يذهب وهب للقتال؟، في الشطر الثاني: هذا وهب ذهب للقتال "تقدم"، كيف أبلى وهب في قتاله؟، في الشطر الثالث: قاتل وأتعب الجيش فسيفه "دمدم"، ما الذي سيحل على وهب؟، في الشطر الرابع: يقاتل وهب ويرجع لأمه. وهنا ينتقل من أسلوب حكاية الحدث، إلى أسلوب الحوار، ليقرب المشهد أكثر، ويبين ثبات موقف أم وهب أكثر، فوهب يعود لأمه يظن بأنه وفى لرغبة أمه بدفاعه عن الحسين، لكن أمه لا تكتفي، ولا تشرح موقفها، بل توجهه بأنها لا تكتفي إلا بذبحه دون الحسين، ووهب يوافقها فورًا ويعود مجددًا للمعركة، لأن الموت بين يدي الحسين الذي يطلب النصرة، هو البركة، وأن خذلانه لا يغفره الله. بعدها يتحول الخفاجي من استخدام الدارجة إلى العربية الفصيحة، لتنتقل زاوية الحدث من رواية حدث صغير في قصة، ليرويها كصورة كبيرة في ملحمة. والصورة التي لا تتغير في هذا التحول الكبير في استخدام اللغة، هو ثبات أم وهب على موقفها، فهي "تستأنس" مع "كل طعنة رمح" يتلقاها ابنها ويكون أقرب للموت بين يدي الحسين، بل هي "لم تخف" عندما "وثب" ابنها للموت.
ثالثًا- المرأة شريكة الحزن
في هذه الصورة، يكون الرجل والمرأة في مستوى واحد من القلق والحزن والخوف، فهما يبثان لبعضهما ما يعتريهما من هذه المشاعر، فكل شخص يلجأ للآخر ليستند إليه، ويأخذ جزءًا من همه ويشارك هموم الآخر. وأحيانًا أخرى يكون المنكسر في هذه الصورة هو الرجل فقط، والمرأة تكون له الكتف الذي يبكي عليه، فيبث لها قله، وحزنه، وآلامه. وفي الغالب فإن هذه الصورة مقتصرة على ثلاث شخصيات، هم السيدة زينب، والإمام الحسين، وأخيهما العباس بن علي. يقوم السيد عبد الحسين الشرع بتجسيد هذه الصورة بأسلوب حواري بين السيدة زينب والإمام الحسين. فالسيدة زينب في خيمة الحسين لوحدهما، لا يسمعهما، ولا يراهما أحد، فيتحرران من إظهار الخوف أمام أعين العدو، أو بقية النساء والأطفال في المخيم. يقول الشرع حاكيًا على لسان الإمام الحسين والسيدة زينب:
تگله الكاتبك يحسين من هالناس چا وينه
يگل لها يماي العين كلها انقلبت علينه
تگله حمل اضعونك وسدر للوطن بينه
يگل لها ما يخلوني أسدر بعد بضعوني نيتهم يچتلوني
ولا بد ما تشوفيني وشيبي يگطر من الدم
في هذا الحوار، تأتي السيدة زينب للإمام الحسين، وهي في حالة من الخوف، تستفهم عن قلة عدد أنصاره، فتسأله عن الذين أرسلوا له الكتب للبيعة، فيرد عليها الإمام الحسين، وهو مملوء من الغم، فيخبرها بأنهم قد أصبحوا في معسكر الأعداء يقاتلونه، فبناءً على ذلك تشير له السيدة زينب، أن يحمل قافلتهم على أن تعود للمدينة، فيرد عليها وهو في نفس حالة الغم، بأن معسكر الأعداء لا يتركونهم يرحلوا ويعودوا وقد قرروا أن يمضوا بقتله، وقد جرى أمر الله أن ترين يا أختي الدم متقاطر من شيب لحيتي.
ب- المرأة في غياب الرجل
في الشعر الحسيني، يغيب الرجل عن المرأة قسرًا، فكل الرجال من معسكر الإمام الحسين، في واقعة كربلاء، يستشهدون، ما عدا الإمام علي بن الحسين المعروف بزين العابدين، لكنه يكون عليلًا لا يقوى على القتال، ولا يقوى على الدفع عن نساء المخيم الحسيني. تظهر هنا كثير من الثيمات منها ثيمتي ألم الشخصيات، والسبي. أما المرأة فتظهر في صورتين مثيرتين للاهتمام ومتناقضتين تمامًا: الأولى هي المرأة المحطمة، أما الثانية فهي المرأة الشامخة.
أولًا- المرأة المحطمة
المرأة لا تتحطم فجأة في الشعر الحسيني، بل تبدأ قلقة في واقعة كربلاء يطمئنها الرجال فتهدأ (صورة المرأة المتوجسة)، لكن هذا الاطمئنان ينحسر تدريجيًا، فما أن تنجلي الغبرة عن خمسين صريعًا من أنصار الإمام الحسين، وترى النساء بقية الأنصار يتساقطون واحدًا تلو الآخر، فيحين دور شباب آل أبي طالب للقتال، تبدأ ظهور صورة التحطم أكثر فأكثر. فكلما سقط شاب جاءت أمه تنعاه. الخفاجي يروي مشهدين أحدهما على لسان ليلى أم علي الأكبر بن الحسين، والآخر على لسان رملة أم القاسم بن الحسن:
رملة ورباب وزينب ايريدن يصبرنها
من فوق جسم اوليدها قامن يوخــرنها
فالتحطم التام للنساء لم يحدث بعد لكنه يبدأ يدخل شيئًا فشيئا في قلوبهن، فنرى هنا زينب، الرباب، ورملة، يحاولن أن يصبرن ليلى أم علي الأكبر التي تتحطم أمام جثمان ولدها. لا تلبث رملة إلا أن تتحطم حينما يحين دور ابنها للخروج للقتال فالخفاجي يروي حالتها على لسان ابنها القاسم:
ييمه اشمـالچ تعـــجنين بالــحنه
بعد ساعة وتزفني الزهرة للجنة
فرملة تتهاوى هنا وفي حالة ذهولها تخرج عن الواقع فتذهب لتعد الحناء لولدها الذي لم يُزف بعد، لكنه سيذهب ليقتل في ساح المعركة بعد ساعة. أما الرباب والدة الطفل الرضيع فحالها كحال ليلى ورملة فور أن يقتل طفلها عبد الله الرضيع فيصور لنا هذا المشهد الشاعر محسن آل سليس القطيفي:
اتهز المهد وتلولي
مات الولد قالوا لي [16]
فالرباب هنا تسقط أيضًا لكنها في حالٍ من الذهول لا زالت تهز مهد طفلها المقتول، وتناغيه عساه أن ينام ويرتاح من ألم السهم الذي حز وريده. بعد أن يقتل عبد الله الرضيع لا يبقى أي رجل في المعسكر سوى الإمام الحسين، فجل النساء قد أصبحن موتورات، فقد فقدن جميع رجالهن، لم يبق أي رجل إلا الإمام الحسين، فهنا تظهر صورة المرأة شريكة الحرن، فالسيدة زينب تتحلى بشيء من الصبر أمام الإمام الحسين، لكن هذا الصبر لا يلبث إلا أن يضمحل فور سقوط الإمام الحسين من على فرسه، وقد مثلنا بذلك بشعر السيد عبد الخالق المحنة في المقدمة.
ثانيًا- المرأة الشامخة
يسقط الرجال وتتساقط معهم كل معنويات النساء فيصبحن محطمات، لكن من بين هذا الانكسار يحدث تطور في شخصية السيدة زينب فتتغير صورتها من صورة المرأة المحطمة إلى صورة المرأة الشامخة التي يجب أن تدافع عن النساء والأطفال المسبيات، عن أي تعدي عليهن، تستعين على ذلك بلسانها ومنطقها الخطابي. وفي أغلب هذه الأشعار فإن المرأة تستمد قوتها من عفتها، وحجابها وقيمة الستر التي تحاول الحفاظ عليها وتمنع أي أحد من التعدي عليها، كما تستمد قوتها من ذكرى الرجال اللائي كانوا يحامون عنها ونسبها وصلة قربها لهم. وهذه الصورة بالتحديد تنعكس فيما كتبه الشاعر أبو يحيى المسعراوي على لسان زينب وهي تخطب في محضر والي الكوفة: