ما خلف (ديار) في سقف الكفاية

عزة الكناني

الفكرة الرئيسة للبحث

رمزية ديار كثائر في الرواية لا تمثل بطلًا فرديًا، بل تجسد رفضًا عمليًا لواقع قائم، حين يبدأ الأشخاص بالتشكيك في الواقع الذي يعيشونه يستيقظون على أهمية التغير، وحينها فقط يظهر المعلمون على شكل رموز.

مشكلة الدراسة

الصراع الداخلي والخارجي الذي يدفع الثائر إلى فقد قيمة كل شيء في سبيل التغير.

أسئلة الدراسة

- ما الرمز في الرواية؟
- ما السبب خلف هذا الترميز؟
- هل المشاعر تخلق الصراع أو الصراع يخلق المشاعر؟
- ما الدلالة النفسية للرمزية في الرواية؟

المنهج المستخدم

المنهج النفسي، حيث سأتناول التعلق، وكرب ما بعد الصدمة، ودور الضحية بصفتها دوافع ثورية.

استخلاص مستويات النص

العتبات

العنوان/ سقف الكفاية (رواية)

المؤلف/ محمد حسن علوان

سقف الكفاية

غلاف الكتاب صورة بالأخضر لمرتفع يقف عليه رجلان أمامهما كثافة من الغيوم المتداخلة والمتموجة بين الخضرة والسواد، وكُتب عنوان الكتاب باللون الأحمر إشارة إلى الغضب والرفض والثورة والألم والحب طبعًا، غريب شأن هذا الأحمر يحمل دلالات لا منتهية للكثير من التناقضات، لك أن تتخيل أن لون الغضب والثورة هو ذاته لون الحب والوجد،

لعل الأحمر اختار قوة الطاقة الدافعة لأحداث فارق ما، فرغم التناقض إلا أن الحب والغضب يتفقان في كونهما أقوى محركين للتغير والخروج عن الأنساق والحلقات المتتالية من الاستسلام لسلطة ما، شرطة الكاف كانت طويلة وممتدة في إشارة إلى بلوغ السقف، والاكتفاء من تحجيم ما.

السارد/ كان مشاركًا؛ يتحدث بضمير المتكلم.

وكيف لا فمن سيصف شعورًا كالحب أجود من صاحبه؟

أو كالألم والمرض ممن تجرعه؟

اختار الكاتب أن يكون الراوي هو المتحدث والواصف لبقية الشخصيات ولأحوالهم وانفعالاتهم، ولكل تنقلات القصة وأحداثها، من زاويته هو ومن إدراكه وتصوره. إذن فالحكاية كانت ذات بؤرة داخلية ثابتة مر فيها كل شيء من خلال شخصية واحدة.

أي كفاية كان يقصد الكاتب؟

هل كانت الكفاية من الحب؟

أم من المحبوبة؟

لعلي أذهب أبعد من كل المشاعر التي استمرت في التدفق على مدى 464 صفحة من (ناصر) لـ(مها)، وأقرأ ما بين السطور من بلوغ سقف الكفاية من المحرمات النفسية والمشاعرية لإنسان هذه الأرض على مدى جيلين من الأرواح التي حرمت حق التعبير أو الرغبة أو الاختيار والقبول، لكل هذا التأطير المشاعري للعلاقات وموافقتها للجماعة لا للفرد.

إن تعطيل جانب العاطفة عند الأفراد ليخلق في النفوس غلظة وعد للجمال وللخير وميل للإيذاء، فإذا ما لم يجد الإنسان متنفسًا لهذا العداء فإنه يتبناه على شكل كهنوت أو وصاية يسقطها على الآخرين بدوره، حتى يدخل الجميع في سلسلة من الرقابة المجتمعية المتعدية يصعب كسرها قبل أن تبلغ في النفوس سقف الكفاية، أو أنها تأخذ في الأرواح المسالمة شكلًا آخر من العدوان يسقطه صاحبه على نفسه، فتأكل بعضها إما بالإدمان أو المرض مثلما حدث لناصر.

سأتناول بالدراسة جزءًا من الرواية وفق المنهج النفسي، فالرواية تحكي تفاصيل معاناة ما لا يرغب صاحبها أن ينفك عنها تدفع بنفسها لتطرح من جانب نفسي، كان بطل الرواية شاعرًا مغرمًا بفتاة حال دون حبهما الكثير من التابوهات المجتمعية، ورغم أن القصة كانت تسير في طريق مغلق وأن الفراق حتمية لا بد منها، إلا أننا نرى تمسك الكاتب بحبه وألمه الناتج عن الفراق وعدم تجاوزه للقصة رغم ارتباط (مها) برجل آخر وانقطاع ما بينهما، وكأنه يدين المجتمع والعادات التي تصنف الحب إثمًا وتضع شروطًا معقدة للارتباط، ويهرب نتيجة هذه الإدانة إلى أرض أخرى الحب فيها لغة يومية لا تقع تحت طائلة المساءلة والرفض، ورغم هذا الابتعاد يبقى رهين حزنه ووجده، يعيد خلق هذا الفقد كل مساء ليتألم من جديد

ويبعث الروح في جسد الحب ليبقيه حيًا متقدًا، وهو بفعله هذا إنما يتمسك بشاهد على ما حدث من ظلم وقمع لمشاعره لا يمكن إثباته إلا بجسد مريض وملامح يكسوها الحزن، وروح فقدت معنا كل شيء لا يمر عبر حبيبته.

إنه اضطراب ما بعد الصدمة الذي حضر أرضًا خصبة للغضب والحزن، لتبدأ القصة هنا بخلق حل افتراضي للخروج من هذا الكرب، حل لم يكن شخصيًا بالضرورة، بل انقلاب على الأفكار والمعتقدات التي كانت محرضًا لمثل هذا الانهزام، متمثلًا في شخصية ثورية تمثل رفض الواقع القائم وقوة تغييرية تقف في وجه التحجيم والتأطير أيًا كان نوعه سياسي أو مجتمعي.

التقى ناصر الشاعر المجروح الهارب بألمه لكندا ليرعاه هناك ويغديه ليكبر بعيدًا عن الأرض والوجوه التي يعتقد أنها حالت بينه وحبيبته بديار رجل عراقي يقيم في كندا، لأسباب سياسية شخصية ثورية، في محاولة للعيش ولو خارج الحياة، المهم أن يحيا وفق ما يريد.

يصف ناصر ديار في أكثر من موقف مؤكدًا إعجابه المتجدد به في كل مرة، ديار ذلك العربي الطافر بالمتناقضات؛ الذي تراكمت في داخله السنوات بلا ترتيب، وتداخلت الظروف والأوجاع، ولم تَعُد تدري من أين تلج لقلبه ... ص403.

لا يملك الموازنة في وسط، ولا يعرف المهادنة مع تلك الأشياء التي تثير حزنه ... ص405.

هو الذي لا يجعل ترفًا فكريًا مثل الشرود يراود.........حتى الشرود لا يمكن أن يأخذ ديار عنوة ... ص445.

رجل بهذا البأس والإصرار والقدرة على التخلي لا يظهر في حياة شاعر عاشق رقيق أدمن اجترار ألمه، والعيش كضحية لفقد ما، إلا ليعلمه درسًا ويريه الوجه الآخر للرفض.

يقول ناصر: "لقد غيّر ديار في حياتي عادات كثيرة".

رجل مثل ناصر يتيم الأب تعرض لفقد مبكر تمثل في موت شقيقه الأكبر منه سنًا والأقرب إليه، خلق داخله رقة مشاعرية تقدس الحب وتخشى الفقد طوال الوقت، وهذا جزء من كرب ما بعد الصدمة الذي ينمو ويصبح سلوكًا لا نفهمه؛ لأنه يأتي من اللاوعي على شكل تعلق بكل ما نحب، ويجعلنا في الوقت ذاته عرضة له، لأننا نملك استعدادًا لا واعي للفقد، فقد تعرضنا له مرارًا والصدمة تعرف الجسد الذي يحسن استقبالها جيدًا، فتعاود زيارته حتى يستفيق ويغلق منافذه، وهذا ما أصاب ناصر حين تعلق بفتاة لم تكن متاحة أصلًا، اختار أن يحب امرأة على مشارف الزواج بآخر؛ لأن نظام الصدمة داخله قيد التشغيل، رجل مصدوم ومتعلق في آن، يحب أن يشعر أنه تُخلي عنه حتى ولو كان الموت سبب الفراق كما قال هو حين يفقد للمرة الثالثة حبًا سكب فيه كل شعوره المؤجل والمنقطع، يعود مرة أخرى لتذكر فقد قديم، فيستحضر والده الذي استمر في الدعاء وكتابة الرسائل له وهو ميت، ولكنه حين أحب مها انقطع عن ذلك؛ حيث جمع كل حب أحبه وسخرها لها، قال وهو يعترف أنه استبدل دعاءه في الصلاة لوالده بدعائه أن تبقى له: لأني كنت أشعر أن ما يمكنك منحي إياه من الاحتواء إذا صرتِ لي قادر على شطب سنوات اليتم من عمري تمامًا ...ص114.

وحين عاد يكتب لوالده من جديد بعد أن فقدها، وهذا دليل تعلق بالفقد وبما ينتج عنه من حالة تشعر الفاقد بأنها هويته التي يحافظ عليها، وأنه هو هذا الشخص المتنقل بين الوجع بشعلة تمرد صغيرة ما زالت تحاول أن تتقد، تظهر جلية في حديثه رغبته في أن والده ما زال على قيد الحياة؛ ليعرف مها إليه ويجمعهما في حديث مشترك، ووصفه لسعادته (بالمساحة الواسعة الآمنة)، لهذا التعارف والقبول المتبادل رمزية واضحة لرغبة العشاق في سقف آمن يعلنون تحته أسماء حبيباتهم، ويعبرون عن مشاعرهم لهن ويصرحون باختياراتهم التي تلقى القبول فقط لأنها اختيارهم.

يقول: أحاول أن أبتلع بصعوبة ألا يكون لاختياراتي أي قيمة في اعتبار الحياة .... ص117.

يلعب دور الضحية بطريقة لا واعية.

رجل متعلق ويشعر أنه ضحية وداخله رغبة في مساحة آمنة ليكون فيها ما يختار، لا بد أن يجهز له الواقع أنموذجًا حيًا، هذا ما تفعله الحياة عندما لا نتعلم الدرس رغم التكرار، ترسل المعلمين والمرشدين على هيئة أصدقاء أو غرباء، هكذا جاء ديار ليس مصادفة، بل حتمية لتوقظ هذا المصدوم العالق في دور الضحية والمستسلم للألم والغضب الصامت والحزن يقتات عليها وتقتات عليه، كان يسخر من غربة ناصر ويراها نوعًا من الترف، أن تترك بلدًا يحميك ويوفر لك الأمان فأنت أحمق، أن تهرب من حب امرأة تركتك من أجل آخر فأنت جبان، أحدث ديار زوبعة في ركود ناصر

علم ديار ناصر (القوة) حتى في أمور الحياة اليومية نبهه للرجل الذي غفا داخله أيقظه ليستند إليه الشاعر، حين كانا يصلحان مدخنة مس تنغل حيث حشا ناصر فتحاتها ببعض القش الذي جمعه ديار وألقى به في وجهه وهو يضحك، ثم علّمه كيف يخلط بعض المواد الرائبة معًا، ثم يحشو بها الفتحات، عن الرجل الذي ضربه ديار فكسر أنفه وشق شفته العلوية وحاجبه الأيسر ورض جسده حتى تكور على الأرض لأنه اتكأ على شاحنته، وعندما نهره ديار لفعله ذلك سخر الآخر منه وشتمه، فكان هذا مصيره الذي قال عنه ديار لقد رحمته فلدي رحمة تجاه المهاجرين، هذا شكل رحمة الغاضبين الذين سلبوا أعز ما لديهم، يومًا ما يصبح هذا شكل رد فعلهم وهذا توازنهم في فهمهم لدوافع الآخرين وظروفهم، ولكن هذا الفهم لا يمنعهم من أن يحافظوا على ما تبقى لهم، كانت الشاحنة هي صورة الوطن عند ديار المساس بها ينكأ جرحًا قديمًا لا يهدأ إلا بالثأر،

ثم علّمه (الثورة) كان يحرضه على قلب الطاولة على الحركة في أي اتجاه المهم ألا يستسلم للفقد وللألم وللخسارة، الخسارة لا تليق بالثوار كان يصفه بالبارد حين قال له ناصر ماذا كنت تريدني أن أفعل أختطفها مثلًا؟

أجاب ديار: كنت سأحترم قصتك أكثر حينها، بدل هيام المجانين هذا.

رد ناصر: أنا لا أهيم، ولكني عاجز ديار: انقلب على عجزك إذا غير امرأتك، تزوج أخرى وابعث إليها بدعوة للزفاف.

حوّل حزنك إلى انتقام، قد لا تجد ما تطفئ به أحزانك، ولكن لديك الكثير مما تمارس به انتقامك، الهدف أخيرًا أن تخمد النار .... ص261.

هكذا يفكر الثوار كيف تحول النار التي داخلك لحريق يلتهم الآخر في الخارج؟ كيف تتقاسم اشتعالك مع من تسبب فيه؟

الثائر يعرف جيدًا أين يوزع كل هذا الثقل الذي يحمله، تمنح الحياة نفسها كفرصة للثائر ليحدث تغيرًا ما.

ليستخدم الأذى الذي وقع عليه وسيلة لتغير الفرضية كلها، لتحويل مسار الأحداث، لخلق واقع جديد، حتى وإن كان الثمن مزيدًا من الألم.

عند مرحلة معينة من الضغط يتوقف الإنسان عن الشعور بالألم، يصبح أداة منتجة له، قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت وبأي شكل، المهم أن تحدث جلبة، فكل دوي يُعدّ خطوة في طريق التغير، يُعدّ صوت اعتراض ورفض، مطالبة قاسية، ولكنها حتمًا مسموعة.

يقول ناصر واصفًا ديار.... ص267-268: ديار يعيش على سطح الحياة بينما عيناه غائبتان في العمق، منذ نعومة أحزانه وهو يلعق أوجاع اليتم والشتات.

بعدها فكر أنه إذا لم يقدر على انتزاعها من داخله فلن يمنح أحزانًا أخرى تأشيرة دخول، أنا منحت كل الأحزان المشردة حق العيش والمواطنة، هذا ما يجعل ديار يعاملني كطفل لا يتعلم أبدًا.

ديار في سقف الكفاية ليقول: إن الحب ليس مجرد مشاعر، بل هو فعل مقاومة.

لا يكفي أن تحب عليك أن تحارب، لا يكفي أن تغضب، عليك أن تخرج هذا الغضب في صورة، لا تتوقف حتى لا تعبر الحياة من فوقك.

يقول ناصر عن مدى تأثير ديار فيه: إما أنه يتقن دوره معي أو يتقن دوره مع الحياة، يستحق التصفيق في الحالتين، هو من نوع البشر الذي نستعد أحيانًا أن نلقي بأنفسنا معهم في أي متاهة دون تردد ... ص328.

ويقول: إن أسلوب ديار يتغلغل في أفكاري ببطء منذ صداقتنا الأولى ... ص402.

ما كان(ديار) إلا تجليًا لما يحوم في اللاشعور عند ناصر، ثورة لا يستطيعها وعيه ولا واقعه، غضب اتقد في جوفه فأكل أحشاءه (قصور الكلى)، حزن تعمق فيه حتى سجنه، ديار هو ثورة ناصر التي لم يقدر عليها وغضبه الذي لم يعلنه؛ لأنه ظن أنها ثورة مصيرها الفشل، وأنه ثائر مآله الشنق، فجاء ديار ليعلمه درس الثوار الحقيقي ليصرخ فيه: عندما تحزن فأنت تتخذ موقفًا من الحياة بأن ما تفعله بك لا يناسبك تمامًا، حوّل حزنك لانتقام، الجبن والخوف هو أن تعتقد أن الحياة لن تأبه بك.

يقول ناصر: وحده هذا الرجل ..... رممني طوال سنتين ....ص452: عندما علمني ديار دون أن يدري كيف أحرق الدنيا من أجل حبي، لم أكن أدري أني سأشهد سقوط معلمي قبل أن أبدأ في تطبيق ما تعلمت .....ص450.

لم يكن هناك أفضل من العراقي ليمثل الثورة والرفض في رواية عربية، فقد تسيد أبناء هذه الأرض رمزية الثورة رغم تعاقب القمع عليهم، العراقي رجل قوي وغاضب، ولكن فؤاده رطب وحنون ومحب، يعرف متى يستسلم للشعور ومتى ينقلب عليه، متى يغيب بين أوتار عوده حتى يسيل دمعه، ومتى يترك كل شيء وينقلب على القصة، ومتى يقدم تعاطفه ويطهو طعامه بكل حب لمن يريد أن يقول له أنا أحبك، ومتى ينظم معارضة ما ويقدم حياته اعتراضًا على ظلم ما، هذا ديار الرجل الذي فقد أباه؛ بسبب براءته وطفولته التي لا يمكن أن تُعدّ سببًا لأي شيء، سوى أن الآخر يستطيع أن يستخدمها سببًا، ديار الذي ماتت أمه بعد سنين في دار للمجانين، ديار الذي حمل اسم النحس عمرًا دون أن يعرف لماذا، والذي دفن زوجة وابنًا وقلبًا، قرر أن يدفنه معهم قبل أن يترك كل شيء، ويحمل معه سجادة كانوا يفترشونها على سطح البيت أو ضفة النهر ليجلس عليها هو وأمه وأبوه لنزهة ما.

قال عنها ناصر: جر ديار ذاكرته معه من بغداد وافترشها، وجلس عليها ... ص405.

ليختار فانكوفر الباردة والبعيدة لعلها تطفئ هذا الجمر المتقد في صدره، يلتقي ناصر الذي تقاسم معه الفقد، ولكن بطريقته فلكل منا وصفته الخاصة التي تعرف روحه كيف تتعامل معها، حين نفقد الحرية في الوطن ستجمعنا أي أرض توفرها حرية أن نحيا، أن نحب، أن نختار، أن نعلن، أن نعترض، أن نطلب، أي حرية كانت هي حق لنا على الأرض التي تأوينا أن تمنحنا إياها، حين تمعن الحياة في القسوة هي لا توجعك وإنما تصيرك شيئًا آخر، للوجع حد عنده تتوقف عن الشعور به، بل وتنقلب عليه لتحوله لشعور آخر، أو تستسلم له وتغادر، عند هذا الحد كان ديار وعوده الذي يشعر بدلًا منه، وأوراقه التي يخط عليها كلام الثائرين من الأدباء والشعراء، ويعلقها على جدران بيته، وشاحنته التي أصبحت وطنه وجرحه الذي يدافع عنه، وطعامه اللذيذ الذي يشي بروح تعرف الجمال، وتلمسه ديار في الرواية أكثر من مجرد شخصية ثورية، فهو يمثل الصراع الوجودي للإنسان.

من خلال أفكاره وتفاعلاته مع محيطه، يجسد رمزية البحث عن الذات في عالم مليء بالضغوط والمفاهيم المتغيرة، هو تلك الشخصية التي لا تملك إجابات واضحة لأسئلة الحياة الكبرى، ولكنها تعتسف إجابات تشبه ألمها وثورتها، وفي الوقت ذاته تمثل الإصرار على التغيير ورفض الواقع والبحث المستمر عن المعنى.

لهذا كان ديار شهمًا عندما يسقط ناصر يحنو عليه ويرعاه كأم؛ ثم يتعهد حزنه بكل الأساليب التي تجعله ينتفض، حرك في ناصر روح التطرف دفعه أن يأخذ موقفًا من ألمه، وفتاته، ومجتمعه، أن يخلق شيئًا ذا قيمة من هذا الوجع بدلًا من التماهي معه.

يقول ناصر: كان ثوريًا بعض الشيء، بل كل الشيء، من أولئك الذين تفكر أحيانًا قبل أن تدخل معهم في معارك صغيرة.

كان قاطعًا يملأ الجمل بأفعال الأمر

قال لي مرة: لا تكن يائسًا كرجل، كن طموحًا كامرأة ... ص190.

شخص كديار غاضب من الوطن وخائف من المرأة لا يدخلها عالمه إلا من بعيد، عرف الغدر من كل مأمن لا يمكن أن يموت في صمت، عليه أن يحدث فوضى ما ليفتح ذراعيه للموت، أو كما قال ناصر: ذوي القامات الطويلة عندما يسقطون تكون سقطاتهم مميتة) ... 450ص.

ولكنه قبلها أيقظ عاشقًا اعتقد أن الانغماس في الألم والحنين هما ما يستحق الحب ليبقى، ليعلمه أن الحب ثورة كبرى على كل شيء، وأن كل غاضب داخله عاشق خُذل أو هُجر أو غُدر أو رٌفض، علمه أن الحب يتطلب روحًا حرة لا تعترف بالقيود المفروضة، أن الحب ليس مجرد مشاعر، بل هو فعل مقاومة، وأن الحب والحرية تطرف لا يقبل إنصاف المناطق إما أن تكون حبيب أو لا تكون، (الثائر ليس من يتمرد ويعارض إنه صاحب الهدف الواحد الذي يجاهد من أجله)، قال ديار: لا تحزن إلا على شيئين فوات هدفك أو انثنائك عنه.

الخاتمة

يمثل ديار تجسيدًا للثائر الذي مهما ابتعدت خطواته عن وطنه، بقيت روحه مرتبطة بجذوره، تحمل في قلبها ثقل الماضي وأحلام المستقبل.

لم يكن مجرد صديق لناصر، بل كان المعلم الذي فتح أمامه أبواب الثورة على واقع مليء بالخذلان والقسوة.

قوته لم تكن جسدية فقط، بل كانت في مواقفه الشهمة، في حسه الفني الذي أضفى على شخصيته بعدًا إنسانيًا عميقًا، وفي جرأته على مواجهة الحياة بكل ما فيها من ألم واغتراب.

ديار ليس مجرد شخصية في رواية، بل هو رمز لكل من يكافح ليجد ذاته بين ضياع الوطن أو شتات الروح،

لكل من يواجه غربته الداخلية بالغضب والحب معًا. إنه الثائر الذي علمنا أن الثورة ليست سلاحًا، بل هي فن الحياة بشجاعة رغم قسوتها، والإصرار على خلق معنى وسط الفوضى، أن الثورة هي أن تخلق معنى لحياتك، قيمة لألمك لخسائرك، وأن تبقى رغم كل قسوة القصة إنسانًا.

ختامًا، في الحياة كما في سقف الكفاية ألم يتحول إلى معيق أن شعرنا بالضالة أمامه، أو إلى دافع لخلق واقع جديد وتفجير تلك القدرات الهائلة الكامنة في الإنسان، أن قرر فقط أن ينتبه لها ويفعلها، قد تنبع الثورة من أعماق الألم النفسي الذي يعيشه الإنسان، فـالتعلق العاطفي المفرط قد يدفع الفرد للتمرد عندما يُحرم مما تعلّق به بشدة.

أما كرب ما بعد الصدمة، فهو يحوّل الألم النفسي إلى طاقة ثورية نتيجة محاولة الشفاء من آثار صدمة الماضي، وتبنّي دور الضحية أحيانًا يولد شعورًا بالعجز، مما قد يدفع الفرد لاحقًا إلى الثورة للتخلص من هذا الدور المفروض عليه وإعادة بناء ذاته بشكل أقوى.

وأخيرًا، في حياة كلٍ منا ديار، يأتي على شكل شخص، كتاب، موقف، صدمة، أخرى،

المهم أن للاستيقاظ جنودًا يصلون لنا دائمًا، وما علينا سوى الانتباه.