ثيمتا المواساة والتسليم بالقضاء والقدر في كتاب (عين تراقب العصفور) للدكتورة ملاك الجهني

ود علي السهلي

المقدمة

في خضم الحزن والفقد، يبحث الإنسان عن الطمأنينة والتسليم بما كتبه الله.

ويأتي كتاب )عين تراقب العصفور) للدكتورة ملاك الجهني؛ ليعكس تجربة شخصية تعبر فيها الكاتبة عن مشاعر المواساة والتسليم بالقضاء والقدر، إذ ترثي فيه شريك حياتها.

يتجلى في الكتاب سعي الفرد إلى التصالح مع المصاب، والبحث عن العزاء وسط الألم.

يهدف هذا البحث إلى تحليل موضوعات المواساة والتسليم بالقضاء والقدر في هذا الكتاب، متبعًا المنهج الموضوعاتي للتركيز على تتبع هذه الأفكار، واستخلاص معانيها من سياقات النص. نأمل أن تقدم هذه الدراسة فهمًا للتجربة الشعورية التي تنقلها الكاتبة، وتكشف كيف تبني هذه الموضوعات تجربة إنسانية غنية داخل النص الأدبي.

تعريفات لغوية واصطلاحية

[1]التسليم بالقضاء والقدر:

القضاء في اللغة يشير إلى الحكم والحتم والصنع والبيان، وأصله القطع والفصل. ويُفهم على أنه قضاء الشيء وإحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، مما يجعله مرتبطًا بمعنى الخلق. كما يُطلق القضاء على ما يقدره الله عز وجل من الأمور ويحكم به. فالقضاء والقدر أمران متلازمان، لا يُفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء. فمن رام الفصل بينهما [2] فقد هدم البناء ونقضه.

المواساة

في اللغة، تدور معانيها حول المشاركة والمساواة في الأحزان والأفراح. أصلها اللغوي يحمل دلالات على العزاء والمشاطرة في الأسى، وكذلك على تقديم العون والمشاركة.

يقال: أسوت الجرح إذا داويته، ولذلك يسمّى الطّبيب الآسي.

قال ابن منظور: الأسا (مفتوح مقصور) المداواة والعلاج، وهو الحزن أيضًا، وأسا الجرح أسوًا وأسا: داواه، والأسوّ على فعول: دواء تأسو به الجرح، ويقال: أسا بينهم أسوًا أصلح، وتآسوا أي آسى بعضهم بعضًا.

قال الشّاعر[3]:

وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم ... تآسوا فسنّوا للكرام التّآسيا

قال ابن برّيّ: وهذا البيت تمثّل به مصعب (ابن الزّبير) يوم قتل، وتآسوا فيه من المؤاساة لا من التّأسّي، والمواساة: المساواة والمشاركة في المعاش والرّزق وأصلها الهمزة فقلبت واوًا تخفيفًا.

اصطلاحًا، تشير المواساة إلى مشاركة الآخرين في همومهم وأحزانهم، سواء بالكلام الطيب والمساندة، أو الدعم المادي. يُنظر إلى المواساة على أنها صورة من صور الرحمة والعدل في العلاقات الإنسانية؛ حيث تُسهم في تخفيف المعاناة وتوطيد الروابط الاجتماعية.

قال مِسكَوَيهِ 4: (هي معاونةُ الأصدقاءِ والمستَحِقِّين، ومُشاركتُهم في الأموالِ والأقواتِ).

وقال ابنُ الأثيرِ 5: (المُواساةُ: المشاركةُ والمساهمةُ في المعاشِ والرِّزقِ).

الفقد

في اللغة يعني ذهاب الشيء أو ضياعه، وهو ضد الوجود. في الاصطلاح، يُعرّف الفقد بأنه غياب أمرٍ ذي قيمة، سواء أكان شخصًا 6، أم شيئًا محسوسًا، مع انقطاع أثره أو أخباره.

المنهج الموضوعاتي

المنهج الموضوعاتي في النقد الأدبي يركز على دراسة الثيمات أو الموضوعات التي تشكّل جوهر النصوص الأدبية، مستكشفًا ما وراء الألفاظ للوصول إلى المعاني العميقة والتجارب الشعورية المرتبطة بها. يعتمد هذا المنهج على التحليل الدلالي واستكشاف الرموز والصور المتكررة في النصوص لفهم دلالاتها النفسية والفلسفية.

يُعدّ هذا المنهج ذا صلة بالتحليل النفسي والفلسفي؛ حيث يسعى إلى استكشاف العلاقة بين الكاتب وتجربته الذاتية، مع التركيز على المعاني التي تنبع من النص ذاته بدلًا من السياقات الخارجية. من أهم أعلامه جان بيير ريشار، الذي استفاد من أفكار غاستون باشلار 7 في دراسة الثيمات من منظور رمزي وشعوري.

تعريف بالكاتبة

هي ملاك بنت إبراهيم الجهني، ولدت في محافظة القريات، وفيها تلقت تعليمها.

عضو هيئة تدريس في قسم الثقافة الإسلامية، كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. تخصصت في الشريعة في مرحلة البكالوريوس، والماجستير في قضايا المرأة في الخطاب النسوي، والدكتوراه في نظرية ما بعد الكولونيالية.

السرد ما بين السيرة والذكريات

الكاتبة تبدأ كتابها بتوضيح سبب كتابتها؛ حيث تقول: "أكتب هذه الصفحات لحاجتي للاستشفاء بالكتابة ووفاء لذكرى فقيدي" 8.

والاستشفاء بالكتابة نهج علاجي نفسي للتعبير عن المشاعر والأفكار وتفريغها؛ للشفاء من الألم النفسي أو الجسدي، ويتمكن الفرد بها من إيجاد مساحة للتعبير ليجد معنى لما مر به.

ومع ذلك ذكرت أنها خذلت عندما بدأت الكتابة فكانت تتيبس أصابعها وتختنق بكلماتها، ولم تكتب سوى أربع صفحات في السنة الأولى من فقد زوجها. وعادت للكتابة عنه بعد عامين.

ويمكن ملاحظة أن الكتابة ليست فقط وسيلة للتعبير عن الألم، بل هي مساحة للتصالح معه. صعوبة البدايات تعكس الصراع الداخلي بين الرغبة في التعبير والخوف من مواجهة الألم؛ لأن الكتابة عن الفقد تتطلب شجاعة كبيرة حيث إنها تعيد مواجهة وتذكر اللحظات المؤلمة.

وتؤكد الكاتبة أنها لا ترغب بكتابة سيرة غيرية عن فقيدها، بل رصد وتحليل لتجربتها في الفقد وأثره فيها.

تعددت بواعث ثيمتي المواساة والتسليم بالقضاء والقدر في الكتاب، فنرى بروزها من خلال تجارب عديدة لها في الفقد. أولًا الابنة، ثم الأم والزوج، ومن بعدها الأب، فترينا أن لكل فقد مشاعره الخاصة من الحزن، ولا يمكن أن تتساوى في القلب.

العنوان

في العتبة الأولى للكتاب نرى العنوان (عين تراقب العصفور)، وهو مستلهم من قول للكاتبة جوان ديديون بعد فقد زوجها ونفي العناية 9 الإلهية عمن فقد شخص عزيز: "ما من عين كانت تراقب العصفور. ما من عين كانت تراقبني".

ولكن ملاك تسير في اتجاه مغاير تمامًا؛ حيث تؤكد أن هناك عينًا تراقب العصفور وقدرة الله فوق كل شيء، وأن الإيمان الوسيلة الوحيدة للانتصار على المعاناة. وهي تركز على الإيمان بوصفه عنصرًا مركزيًا، وهو ما يتضح من اختيارها لهذا العنوان.

تقتبس الكاتبة في مستهل كل فصل نصوصًا أو أبيات شعرية عن الفقد، تضفي على الفصل بعدًا أعمق، ويمثل عتبة نصية تهيئ القارئ قبل قراءة الفصل. ويتجلى هذا الأسلوب في قدرة الكاتبة على ربط النصوص والاختيار الدقيق للاقتباسات لتتجاوز حدود حكايتها الشخصية.

ثيمة التسليم بالقضاء والقدر

تبدأ الكاتبة برواية تجربتها الأولى حين تلقت خبر فاجعة ابنتها دون أن تعلم أنها ستفقدها وتقول:

"أظن أننا نعلم مسبقًا بوضع الجنين وجئنا لامتحان مهاراته فحسب، ورغم قسوته تلك فقد ألهمني ربي لحظتها قول: «الحمد لله». وأقول ألهمني لأنني لم أدر حتى اللحظة كيف حمدت الله على مصاب صادم كهذا! أعني أنني لم أختبر موقفًا كهذا من قبل، ولم أستعد له، ولم أكن متشبعة عمليًا بفكرة الإيمان بالقضاء والقدر بعد، وكنت مرهفة ومحبة للأطفال" [10].

هنا يعكس بداية اختبار الكاتبة للمعاناة، فكانت في حالة صدمة بتشخيص لجنينها وأنها ليست سليمة، وهذا قبل ورود خبر وفاتها وفقدها.

الفقد يتسم بالمفاجأة ووضع الكاتبة في حالة من الصدمة، إذ لم تكن قد اختبرت مثل هذا الموقف من قبل. في هذه المرحلة، وكما تقول لم تكن قد تشبعت بعد بالإيمان الكامل بفكرة التسليم بالقضاء والقدر. مما يجعل هذه المرحلة خطوة أولى نحو التسليم وإن كان صعبًا. ففي وقت الأزمات تنكشف قوة الإيمان حتى وإن كانت صعبة في اللحظة الأولى.

تأرجح بين الأمل واليأس

تستطرد الكاتبة قائلة:

"فإذا بخبر الوفاة يفاجئني دون سابق يأس من شفائها، بل بعد سابق أمل به، ولما أحسست ببصري يزوغ والأرض تروغ من تحتي، وبشيء يتهاوى داخلي، تشبثت بالاسترجاع والاستغفار والحوقلة، كنت أربت على قلبي، وأتصبر" [11].

يظهر هنا بشكل أكثر وضوحًا تسليم الكاتبة للقضاء والقدر من خلال الدعاء والاستغفار، وتشير إلى تحول في طريقة الكاتبة في التعامل مع الفقد؛ حيث أصبحت تسلم بأنها لن تستطيع تغيير ما حدث، بل تبقى الدعوات والذكر هي سبيلها لتخفيف الألم وتوثيق علاقتها بالله.

تعدد تجارب الفقد والتمييز بينها

تواصل الكاتبة روايتها عن تجاربها المؤلمة في الفقد، وتؤكد مرارته من خلال قولها: "كنت أحمل في قلبي تواريخ فقد جعلتني أميز بين مراراته؛ إذ لكل فقد مرارته الخاصة. وكنت حينها أوفر علمًا بعاقبة الصبر على الابتلاء وحكمته. كنت أكثر تعلقًا بالله وأقدر على التعامل مع المصاب وإن كان الراحل لا عوض له" [12].

وهنا تلقي الضوء على الفرق بين تجربة الفقد الأولى، والتجارب اللاحقة؛ حيث أصبحت أكثر وعيًا بحكمة الابتلاء، ووضحت أهمية التسليم وتأثيره فيها في فهم الابتلاءات والقدرة على التعامل معها. مع مرور الوقت، أصبحت أكثر وعيًا بمعنى الفقد ومعاني الصبر، التجارب جعلتها أكثر تعلقًا بالله وأعطتها قدرة على الاستمرار في الحياة رغم الخسارة. حتى وإن كان الفقد لا يعوض، مؤكدة على أهمية الصبر والإيمان في التعامل مع المصائب؛ لأن الحزن باقي لن ينفصل لكن ستجد به معنى أعمق يدفع الفرد للتعلق بالله.

تشير الكاتبة إلى زوجها الراحل تقول إنه صبور وواثق بالله، وراضي بالقدر، وشاكر للنعم، كان هو نفسه مثالًا على التسليم بالقضاء والقدر، كان يتمتع بثقة عميقة بالله. يظهر هنا أن التسليم بالقضاء ليس سمة فردية فقط للكاتبة، بل كانت تشاركها مع من حولها.

اللجوء إلى الله

بعد فقدها لم تتوقف نوبات هلعها، وعندما بلغ التعب بها ذروته لجأت إلى الصلاة في آخر الليل. كانت تردد سورة الإخلاص واسم الله “الصمد”، مستشعرة معناه بأنها تلجأ إليه في كل شيء. أثناء بكائها الصامت شعرت بضعفها التام فوضعت ثقتها في رحمته وقوته. ومن تلك اللحظة لم تعاودها نوبات الهلع مرة أخرى [13].

تصف في هذا المقطع أول لحظات الهدوء بعد نوبة الهلع الشديدة، ونلاحظ تحولًا تدريجيًا في حالة الكاتبة النفسية؛ حيث تجد نفسها في مواجهة الحزن والاضطراب الداخلي بعد الفقد؛ مما يولد شعورًا بالضعف والهشاشة. لكنها في ذات الوقت لجأت إلى الله واستمدت قوتها من إيمانها به، مما يعكس تسليمها للقدر واستنادها إلى الرحمة الإلهية كوسيلة لتجاوز الصدمة. إيمانها يظهر بشكل واضح في التغلب على الصدمة النفسية وتلاشي النوبات.

من خلال النصوص السابقة نجد أن التسليم بالقضاء والقدر لدى الكاتبة يحدث بشكل تدريجي، إذ يبدأ في لحظة فقدان غير متوقعة تثير الكثير من المشاعر ويتطور بمرور الوقت من خلال الصبر، الدعاء، والارتباط بالله. الرحلة من الضعف والقلق إلى الإيمان والتسليم تأتي عبر الفهم العميق للحكمة الإلهية والتسليم التام للأقدار وتؤكد الفكرة بقولها في خاتمة الكتاب: "إن الإيمان وحده ما يسعه الانتصار على المعاناة مرة بعد مرة، فلا العقل ولا الوقت يحمياننا على الدوام من هجماتها الشرسة، لكن الإيمان حتمًا يفعل!" [14].

ثيمة المواساة

المواساة هي من أهم الأشياء التي تساعد على التخفيف من فاجعة الفقد، وتوفير الدعم العاطفي، وفي هذا الكتاب على الرغم من تعدد تجارب الفقد، نجد محدودية المواساة التي تلقتها أو من الممكن أنها لم تسلط الضوء عليها كثيرًا.

في أول تجربة فقد عاشتها، حاول أهلها وزوجها مواساتها من خلال دفن ابنتها دون أن يسمحوا لها برؤيتها، معتقدين أن هذا الأسلوب سيحميها من الألم، لكن ما لم يدركوه هو أن هذا التصرف زاد من حزنها وقلقها، إذ جعلها تشعر بفقد أعمق وحرمان من وداع ابنتها.

بينما مواساة أمها لم تكن مقتصرة فقط على لحظات الفقد، بل امتدت أيضًا لتشمل الأوقات التي شهدت فيها معاناة ابنتها أثناء الولادة. إذ كانت الأم ترافق ابنتها في تلك اللحظات القاسية، تشعر بقلق شديد خوفًا من فقدان الجنين مرة أخرى، ظلت إلى جانبها طوال اليوم لم تبرح مكانها، مدفوعةً بالقلق على سلامة ابنتها وحفيدتها.

وفي الجانب الآخر من المواساة وأنه ليس فقط كلمات تعزية نرى الأفعال والدعم المادي عندما أشارت الكاتبة إلى بادرة والدة زوجها بعد فقد ابنتها؛ حيث وفرت لها عاملة منزلية لتخفيف أعباء المهام المنزلية عنها. وهذا يعكس التعاطف العملي لمساندة الكاتبة ليس فقط على المستوى العاطفي.

ومثال آخر يرينا المواساة عندما تصرف أخيها بعناية خاصة وحس بالمسؤولية تجاه أخته بعد فقدان زوجها، وضع مبلغًا من المال في حسابها ولم يكن بدافع الحاجة المادية بقدر ما كان محاولة لطمأنتها وإشعارها بالأمان، هذا الفعل البسيط يشمل بعدًا مختلفًا بعد الفقد.

تذكر موقفًا مع والدها في وقت عزاء زوجها تقول:

“ما أن وجدتني أمامه حتى ارتميت على صدره وانفجرت بالبكاء! بكاءً لم أبكه من لحظة تلقي خبر الوفاة، وكأنه قد حل لي الآن فقط أن أبكي! فأخذ أبي يهدئ من انفعالي ويمسح على ظهري، ويقول: لا يا ملاك ليس هكذا ظننتك قوية فلا تخيبي ظني، لا تبكي، تماسكي لا تفعلي بنفسك هكذا.. لكنني بكيتُ حتى غاض دمعي، ثم رفعت رأسي وقبلت وجنتيه ورأسه ويديه، وقلت: الحمد لله إنك هنا! كان أبي وحده من قال لي لا تبكي” [15].

في هذا الاقتباس تعكس الكاتبة قوة المواساة التي تأتي من الأب، تلك الشخصية التي تُجسد المأوى والأمان في أوقات الشدة. المشهد يجمع بين حزن مفجع وإحساس بالاحتضان الذي يمنحه الأب لابنته في لحظة ضعفها. محاولات الأب في تهدئتها ومسح ظهرها هي أفعال بسيطة، لكنها مليئة بالحب والحرص على تهوين المصاب عليها. عباراته "تماسكي" و"لا تخيبي ظني" قد تبدو في ظاهرها وكأنها دعوة للقوة، لكنها في السياق الأبوي تعكس إحساسًا بالخوف عليها ورغبة في أن تكون أقوى مما يشعر به هو نفسه.

البكاء في حضن الأب في هذا الوقت نامي من الثقة في وجود شخص يمكن أن يشاركها هذا العبء العاطفي. وعندما قالت "الحمد لله إنك هنا"، فهي تعبّر عن امتنانها لوجود والدها كشخص داعم، يظهر في مكانه الصحيح وقت الحاجة، حتى وإن لم يستطع إزالة الألم. هذا الامتنان هو جوهر المواساة؛ حيث يتجاوز الدعم المادي أو حتى الكلام المباشر ليصبح حضورًا نفسيًا ومعنويًا يشعر الفرد بأنه ليس وحيدًا في معاناته.

ومنه نجد أن المواساة لا تعني دائمًا تقديم الحلول أو حتى التخفيف الفوري للفاجعة والألم، بل أحيانًا يكفي أن يكون هناك شخص حاضر، يشاركك اللحظة ويمنحك الشعور بالأمان. في النهاية هذا الحضور الدافئ للأب كان جزءًا من رحلة الكاتبة للتصالح مع الفقد والتسليم به.

تجلى معنى المواساة في أبهى صورها من خلال الإحاطة الجماعية والدعم الذي تلقته الكاتبة من عائلتها وعائلة زوجها. تصف الكاتبة كيف أنهم كانوا يسابقون الزمن لتلبية احتياجاتها، كأنهم يحاولون حماية روحها من أن تخدشها الرياح، في صورة تعبّر عن الاهتمام والرعاية بأقصى درجاتها. هنا المواساة لا تأتي فقط من خلال الأقوال أو التصرفات المحددة، بل تتجسد في وجود جماعي يحميها ويخفف عنها أعباء الفقد.

ما يلفت الانتباه هو امتنان الكاتبة لهذه المحبة الجماعية التي أحاطت بها، إدراكها لنعم الله ولطفه في وسط الألم يبرز قدرتها على رؤية الجوانب الإيجابية حتى في أكثر اللحظات قسوة، المساندة من عائلتها تعكس قوة الروابط العائلية ودورها المهم في تقديم المواساة، تلك الإحاطة الجماعية ليست مجرد دعم مادي أو معنوي، بل تُظهر التضامن الإنساني في مواجهة المحن.

وهو يعبر عن جانب مهم من المواساة؛ حيث إنها لا تكون دائمًا كلمات محددة تُقال، بل يمكن أن تكون في صورة وجود مستمر، محب، ومساند. الكاتبة تعكس كيف أن هذا الدعم كان ضروريًا لعبورها مرحلة الحزن، وكيف أن هذا الالتفاف حولها جعلها تشعر بأنها محمية ومقدَّرة، حتى وسط خسارتها العظيمة.

عن الفقد

تناولت ملاك هذه التجربة المؤلمة بطريقة عميقة، معبّرة عن العلاقة بين الأرواح بشكل يظهر التوازن بين الارتباط العاطفي والاستقلالية الشخصية، شرحت كيف يمكن لهذا التوازن أن ينقلب عند الفقد؛ حيث يتحول الرابط الذي كان مصدرًا للقوة والحب إلى ألم شديد. في وصفها لما مرت به بعد رحيل زوجها إبراهيم، أوضحت الكاتبة كيف أن المنزل الذي كان يعد ليكون بيتهم المستقبلي، تحول إلى مكان يثقلها بالحزن. كل تفصيلة صغيرة في المنزل أصبحت شاهدة على الغياب، مما يعكس أثر الفقد في تحويل الذكريات والأماكن إلى مساحات تعج بالألم.

وذكرت أن الفقد ليس كحالة لها بداية ونهاية، بل كتجربة طويلة المدى تستمر مع الإنسان، وتشكل نظرته للحياة والإيمان. ملاك تشير إلى أن الفقد، رغم قسوته، يحمل معه ألطافًا خفية من الله. هذه الألطاف، في رأيها، تمنح الإنسان فرصة لإعادة النظر في ذاته ومعاني الحياة، مما يجعل التجربة أعمق من مجرد فقدان شخص أو شيء. الفقد هنا ليس مجرد ألم، بل فرصة للتأمل والتعلم.

تشبّه الكاتبة الفقد بالوشم، وتقول الفقد يترك آثارًا عميقة كالوشم يلسع ألمه في البداية ثم يخف تدريجيًا. ومع مرور الوقت، قد ينسى، ولكن في لحظة مفاجئة يصادفه موقف يذكره أنه موشوم بالفقد. هذا التشبيه يعكس فكرتها عن التعامل مع الحزن فهو ليس شيء يمكن التخلص منه، بل يجب التعايش معه.

ما يميز الكتاب هو تسليط الضوء على الفرق بين المعرفة النظرية للإيمان والتجربة الحقيقية معه، وإشارتها إلى أن المعاناة تدفع الإنسان للتعمق في فهمه للدين ولعلاقته بالله؛ حيث تتحول الأفكار إلى مشاعر وتجارب حية. هذا التحول يجعل الفقد ليس اختبارًا فقط، بل مرحلة جديدة يعيد فيها الإنسان بناء علاقته بنفسه وبالله.

تؤكد الكاتبة على موضوع عمق العلاقة بين الأرواح، التي تتمثل في تآلفها دون المساس باستقلالية كل فرد. الفكرة المطروحة في النص أن الأرواح يمكن أن تكون مترابطة ارتباطًا وثيقًا، لكنها تحتفظ بمساحاتها الخاصة؛ حيث الإنجازات والاختيارات لا تزال تعبر عن شخصية كل طرف على حدة. هذه الثنائية تخلق توازنًا بين الاتحاد والاستقلال، لكنها أيضًا تسلط الضوء على ألم الفقد عندما ينقطع هذا الاتصال،

تتناول الكاتبة قضية الحزن والفقد من زاوية نقدية، مستعرضة الاستجابات المختلفة للفقد، وكيف تعكس هذه الاستجابات طبيعة العلاقة المفقودة وعمقها. تشير الكاتبة إلى أن الحزن الناتج عن الفقد يعكس مستوى التمازج الروحي بين الأشخاص؛ حيث يُظهر التأقلم السريع مع الفقد، من وجهة نظرها، ضعفًا في الارتباط العاطفي أو الروحي. على النقيض، فإن الألم الطويل الممتد يشير إلى علاقة عميقة تتجاوز حدود الروابط الجسدية إلى اتحاد أكثر تعقيدًا على مستوى النفس.

تنتقد في الكتاب الذين يعاملون العلاقات كأشياء قابلة للتبديل بسهولة؛ حيث يبدو أن الاستمرارية لدى بعض الأشخاص تعتمد على استبدال الأشخاص والعلاقات بنفس طريقة استبدال الأشياء المادية [16].

الخاتمة

في ختام هذا البحث الذي تناول التسليم بالقضاء والقدر، والمواساة، والفقد، يتضح أن الكاتبة من خلال تجربتها الشخصية العميقة، قدمت رؤية متكاملة تجمع بين المعاناة الشخصية والتأملات الدينية، كتبت النصوص بواقعية وعمق، فاستعرضت كيف يمكن للألم أن يتحول إلى وسيلة لفهم أوسع للحياة، وكيف أن التسليم بالقضاء والقدر ليس مجرد قبول بالأمر الواقع، بل رحلة طويلة ومستمرة نحو السلام الداخلي.

الثيمة المشتركة التي ربطت بين موضوعات الكتاب هي الإيمان، الذي جسّدته الكاتبة كوسيلة للبقاء والتكيف مع المحن. كانت تجربتها تؤكد أن المصاعب لا تنفصل عن الحياة، بل هي جزء أصيل منها، يدفع الإنسان للتأمل والتطور.

النصوص لم تكتفِ بوصف المعاناة، بل ذهبت إلى أعمق من ذلك؛ حيث سلطت الضوء على كيفية التعامل معها من خلال التمسك بالمعاني الدينية والقيم الإنسانية. المواساة ليست مجرد كلمات مواسية، بل هي فعل مستمر يتمثل في تعزيز الروابط مع النفس ومع الآخرين ومع الله. أما الفقد، فهو ليس مجرد حدث عابر، بل تجربة تعيد تشكيل الوعي وتمنح الإنسان فرصة لفهم ذاته بشكل أفضل.

إن هذا الطرح يؤكد أن التسليم بالقضاء والقدر والمواساة والفقد ليست موضوعات منفصلة، بل هي تجارب متشابكة تصوغ طبيعة وجودنا. من خلال هذه المعاني، يبرز الكتاب كدعوة صادقة ومؤثرة للتأمل في الحياة.

التوصيات

يمثّل كتاب (عين تراقب العصفور) للدكتورة ملاك الجهني إضافة للأدب السعودي، إذ يتناول بعمق موضوع الفقد والتسليم بالقضاء والقدر، وهي ثيمة قلّما يتناولها الأدب المحلي بهذا الوضوح والعمق. لذا، نوصي بمزيد من الدراسات النقدية التي تتناول النصوص الأدبية السعودية المرتبطة بالفقد والتجارب الإنسانية، إضافة إلى دراسة هذا الكتاب من خلال مناهج نقدية حديثة، مثل: منهج التحليل النفسي.


    المصادر و المراجع
  • [1] الأنطولوجيا العربية، جامعة بيرزيت.
  • [2] تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ٤٤١ -442.
  • [3] كتاب الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية [أبو نصر الجوهري]، فصل النون.
  • [4] (تهذيب الأخلاق) (ص: 31).
  • [5] (النهاية) (1/50).
  • [6] مقاييس اللغة: (4/443).
  • [7] جميل حمداوي، المقاربة الموضوعاتية في النقد الأدبي.
  • [8] ملاك الجهني، عين تراقب العصفور، ص ١١.
  • [9] جوان ديديون، عام التفكير السحري.
  • [10] عين تراقب العصفور، ص٢١.
  • [11] المرجع نفسه، ص ٣٨.
  • [12] عين تراقب العصفور، ص٤٠.
  • [13] المرجع نفسه، ص ٦٢.
  • [14] عين تراقب العصفور، ص١٩٨.
  • [15] عين تراقب العصفور، ص٥٨.
  • [16] عين تراقب العصفور، ص٧٧.