ود علي السهلي
المقدمة
في خضم الحزن والفقد، يبحث الإنسان عن الطمأنينة والتسليم بما كتبه الله.
ويأتي كتاب )عين تراقب العصفور) للدكتورة ملاك الجهني؛ ليعكس تجربة شخصية تعبر فيها الكاتبة عن مشاعر المواساة والتسليم بالقضاء والقدر، إذ ترثي فيه شريك حياتها.
يتجلى في الكتاب سعي الفرد إلى التصالح مع المصاب، والبحث عن العزاء وسط الألم.
يهدف هذا البحث إلى تحليل موضوعات المواساة والتسليم بالقضاء والقدر في هذا الكتاب، متبعًا المنهج الموضوعاتي للتركيز على تتبع هذه الأفكار، واستخلاص معانيها من سياقات النص. نأمل أن تقدم هذه الدراسة فهمًا للتجربة الشعورية التي تنقلها الكاتبة، وتكشف كيف تبني هذه الموضوعات تجربة إنسانية غنية داخل النص الأدبي.
تعريفات لغوية واصطلاحية
[1]التسليم بالقضاء والقدر:
القضاء في اللغة يشير إلى الحكم والحتم والصنع والبيان، وأصله القطع والفصل. ويُفهم على أنه قضاء الشيء وإحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، مما يجعله مرتبطًا بمعنى الخلق. كما يُطلق القضاء على ما يقدره الله عز وجل من الأمور ويحكم به. فالقضاء والقدر أمران متلازمان، لا يُفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء. فمن رام الفصل بينهما [2] فقد هدم البناء ونقضه.
المواساة
في اللغة، تدور معانيها حول المشاركة والمساواة في الأحزان والأفراح. أصلها اللغوي يحمل دلالات على العزاء والمشاطرة في الأسى، وكذلك على تقديم العون والمشاركة.
يقال: أسوت الجرح إذا داويته، ولذلك يسمّى الطّبيب الآسي.
قال ابن منظور: الأسا (مفتوح مقصور) المداواة والعلاج، وهو الحزن أيضًا، وأسا الجرح أسوًا وأسا: داواه، والأسوّ على فعول: دواء تأسو به الجرح، ويقال: أسا بينهم أسوًا أصلح، وتآسوا أي آسى بعضهم بعضًا.
قال الشّاعر[3]:
وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم ... تآسوا فسنّوا للكرام التّآسيا
قال ابن برّيّ: وهذا البيت تمثّل به مصعب (ابن الزّبير) يوم قتل، وتآسوا فيه من المؤاساة لا من التّأسّي، والمواساة: المساواة والمشاركة في المعاش والرّزق وأصلها الهمزة فقلبت واوًا تخفيفًا.
اصطلاحًا، تشير المواساة إلى مشاركة الآخرين في همومهم وأحزانهم، سواء بالكلام الطيب والمساندة، أو الدعم المادي. يُنظر إلى المواساة على أنها صورة من صور الرحمة والعدل في العلاقات الإنسانية؛ حيث تُسهم في تخفيف المعاناة وتوطيد الروابط الاجتماعية.
قال مِسكَوَيهِ 4: (هي معاونةُ الأصدقاءِ والمستَحِقِّين، ومُشاركتُهم في الأموالِ والأقواتِ).
وقال ابنُ الأثيرِ 5: (المُواساةُ: المشاركةُ والمساهمةُ في المعاشِ والرِّزقِ).
الفقد
في اللغة يعني ذهاب الشيء أو ضياعه، وهو ضد الوجود. في الاصطلاح، يُعرّف الفقد بأنه غياب أمرٍ ذي قيمة، سواء أكان شخصًا 6، أم شيئًا محسوسًا، مع انقطاع أثره أو أخباره.
المنهج الموضوعاتي
المنهج الموضوعاتي في النقد الأدبي يركز على دراسة الثيمات أو الموضوعات التي تشكّل جوهر النصوص الأدبية، مستكشفًا ما وراء الألفاظ للوصول إلى المعاني العميقة والتجارب الشعورية المرتبطة بها. يعتمد هذا المنهج على التحليل الدلالي واستكشاف الرموز والصور المتكررة في النصوص لفهم دلالاتها النفسية والفلسفية.
يُعدّ هذا المنهج ذا صلة بالتحليل النفسي والفلسفي؛ حيث يسعى إلى استكشاف العلاقة بين الكاتب وتجربته الذاتية، مع التركيز على المعاني التي تنبع من النص ذاته بدلًا من السياقات الخارجية. من أهم أعلامه جان بيير ريشار، الذي استفاد من أفكار غاستون باشلار 7 في دراسة الثيمات من منظور رمزي وشعوري.
تعريف بالكاتبة
هي ملاك بنت إبراهيم الجهني، ولدت في محافظة القريات، وفيها تلقت تعليمها.
عضو هيئة تدريس في قسم الثقافة الإسلامية، كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. تخصصت في الشريعة في مرحلة البكالوريوس، والماجستير في قضايا المرأة في الخطاب النسوي، والدكتوراه في نظرية ما بعد الكولونيالية.
السرد ما بين السيرة والذكريات
الكاتبة تبدأ كتابها بتوضيح سبب كتابتها؛ حيث تقول: "أكتب هذه الصفحات لحاجتي للاستشفاء بالكتابة ووفاء لذكرى فقيدي" 8.
والاستشفاء بالكتابة نهج علاجي نفسي للتعبير عن المشاعر والأفكار وتفريغها؛ للشفاء من الألم النفسي أو الجسدي، ويتمكن الفرد بها من إيجاد مساحة للتعبير ليجد معنى لما مر به.
ومع ذلك ذكرت أنها خذلت عندما بدأت الكتابة فكانت تتيبس أصابعها وتختنق بكلماتها، ولم تكتب سوى أربع صفحات في السنة الأولى من فقد زوجها. وعادت للكتابة عنه بعد عامين.
ويمكن ملاحظة أن الكتابة ليست فقط وسيلة للتعبير عن الألم، بل هي مساحة للتصالح معه. صعوبة البدايات تعكس الصراع الداخلي بين الرغبة في التعبير والخوف من مواجهة الألم؛ لأن الكتابة عن الفقد تتطلب شجاعة كبيرة حيث إنها تعيد مواجهة وتذكر اللحظات المؤلمة.
وتؤكد الكاتبة أنها لا ترغب بكتابة سيرة غيرية عن فقيدها، بل رصد وتحليل لتجربتها في الفقد وأثره فيها.
تعددت بواعث ثيمتي المواساة والتسليم بالقضاء والقدر في الكتاب، فنرى بروزها من خلال تجارب عديدة لها في الفقد. أولًا الابنة، ثم الأم والزوج، ومن بعدها الأب، فترينا أن لكل فقد مشاعره الخاصة من الحزن، ولا يمكن أن تتساوى في القلب.
العنوان
في العتبة الأولى للكتاب نرى العنوان (عين تراقب العصفور)، وهو مستلهم من قول للكاتبة جوان ديديون بعد فقد زوجها ونفي العناية 9 الإلهية عمن فقد شخص عزيز: "ما من عين كانت تراقب العصفور. ما من عين كانت تراقبني".
ولكن ملاك تسير في اتجاه مغاير تمامًا؛ حيث تؤكد أن هناك عينًا تراقب العصفور وقدرة الله فوق كل شيء، وأن الإيمان الوسيلة الوحيدة للانتصار على المعاناة. وهي تركز على الإيمان بوصفه عنصرًا مركزيًا، وهو ما يتضح من اختيارها لهذا العنوان.
تقتبس الكاتبة في مستهل كل فصل نصوصًا أو أبيات شعرية عن الفقد، تضفي على الفصل بعدًا أعمق، ويمثل عتبة نصية تهيئ القارئ قبل قراءة الفصل. ويتجلى هذا الأسلوب في قدرة الكاتبة على ربط النصوص والاختيار الدقيق للاقتباسات لتتجاوز حدود حكايتها الشخصية.
ثيمة التسليم بالقضاء والقدر
تبدأ الكاتبة برواية تجربتها الأولى حين تلقت خبر فاجعة ابنتها دون أن تعلم أنها ستفقدها وتقول:
"أظن أننا نعلم مسبقًا بوضع الجنين وجئنا لامتحان مهاراته فحسب، ورغم قسوته تلك فقد ألهمني ربي لحظتها قول: «الحمد لله». وأقول ألهمني لأنني لم أدر حتى اللحظة كيف حمدت الله على مصاب صادم كهذا! أعني أنني لم أختبر موقفًا كهذا من قبل، ولم أستعد له، ولم أكن متشبعة عمليًا بفكرة الإيمان بالقضاء والقدر بعد، وكنت مرهفة ومحبة للأطفال" [10].
هنا يعكس بداية اختبار الكاتبة للمعاناة، فكانت في حالة صدمة بتشخيص لجنينها وأنها ليست سليمة، وهذا قبل ورود خبر وفاتها وفقدها.
الفقد يتسم بالمفاجأة ووضع الكاتبة في حالة من الصدمة، إذ لم تكن قد اختبرت مثل هذا الموقف من قبل. في هذه المرحلة، وكما تقول لم تكن قد تشبعت بعد بالإيمان الكامل بفكرة التسليم بالقضاء والقدر. مما يجعل هذه المرحلة خطوة أولى نحو التسليم وإن كان صعبًا. ففي وقت الأزمات تنكشف قوة الإيمان حتى وإن كانت صعبة في اللحظة الأولى.
تأرجح بين الأمل واليأس
تستطرد الكاتبة قائلة:
"فإذا بخبر الوفاة يفاجئني دون سابق يأس من شفائها، بل بعد سابق أمل به، ولما أحسست ببصري يزوغ والأرض تروغ من تحتي، وبشيء يتهاوى داخلي، تشبثت بالاسترجاع والاستغفار والحوقلة، كنت أربت على قلبي، وأتصبر" [11].
يظهر هنا بشكل أكثر وضوحًا تسليم الكاتبة للقضاء والقدر من خلال الدعاء والاستغفار، وتشير إلى تحول في طريقة الكاتبة في التعامل مع الفقد؛ حيث أصبحت تسلم بأنها لن تستطيع تغيير ما حدث، بل تبقى الدعوات والذكر هي سبيلها لتخفيف الألم وتوثيق علاقتها بالله.
تعدد تجارب الفقد والتمييز بينها
تواصل الكاتبة روايتها عن تجاربها المؤلمة في الفقد، وتؤكد مرارته من خلال قولها: "كنت أحمل في قلبي تواريخ فقد جعلتني أميز بين مراراته؛ إذ لكل فقد مرارته الخاصة. وكنت حينها أوفر علمًا بعاقبة الصبر على الابتلاء وحكمته. كنت أكثر تعلقًا بالله وأقدر على التعامل مع المصاب وإن كان الراحل لا عوض له" [12].
وهنا تلقي الضوء على الفرق بين تجربة الفقد الأولى، والتجارب اللاحقة؛ حيث أصبحت أكثر وعيًا بحكمة الابتلاء، ووضحت أهمية التسليم وتأثيره فيها في فهم الابتلاءات والقدرة على التعامل معها. مع مرور الوقت، أصبحت أكثر وعيًا بمعنى الفقد ومعاني الصبر، التجارب جعلتها أكثر تعلقًا بالله وأعطتها قدرة على الاستمرار في الحياة رغم الخسارة. حتى وإن كان الفقد لا يعوض، مؤكدة على أهمية الصبر والإيمان في التعامل مع المصائب؛ لأن الحزن باقي لن ينفصل لكن ستجد به معنى أعمق يدفع الفرد للتعلق بالله.
تشير الكاتبة إلى زوجها الراحل تقول إنه صبور وواثق بالله، وراضي بالقدر، وشاكر للنعم، كان هو نفسه مثالًا على التسليم بالقضاء والقدر، كان يتمتع بثقة عميقة بالله. يظهر هنا أن التسليم بالقضاء ليس سمة فردية فقط للكاتبة، بل كانت تشاركها مع من حولها.
اللجوء إلى الله
بعد فقدها لم تتوقف نوبات هلعها، وعندما بلغ التعب بها ذروته لجأت إلى الصلاة في آخر الليل. كانت تردد سورة الإخلاص واسم الله “الصمد”، مستشعرة معناه بأنها تلجأ إليه في كل شيء. أثناء بكائها الصامت شعرت بضعفها التام فوضعت ثقتها في رحمته وقوته. ومن تلك اللحظة لم تعاودها نوبات الهلع مرة أخرى [13].