الوحدة في ديوان الحب كلب من الجحيم

سلافه الشريف

المقدمة

تعرّف موسوعة بريتانيكا الوحدة النفسية بأنها: تجربة مؤلمة تحدث عندما يعتبر الشخص أن علاقاته الاجتماعية أقل من المرغوب فيها من حيث الكمية، وخاصةً من حيث الجودة. تجربة الوحدة ذاتية للغاية؛ يمكن للفرد أن يكون بمفرده دون أن يشعر بالوحدة، ويمكن أن يشعر بالوحدة حتى عندما يكون مع أشخاص آخرين (بريتانيكا، ٢٠٢٤). وقد برزت الوحدة منذ القدم في مخيلتنا الاجتماعية عبر الأدب والفلسفة والفن، التي تُعدّ مشكلة عالمية، وهي أهم أسباب مشكلات السلوك الإنساني في مجتمعات العالم المعاصر.

وكما أن النفس تصنع الأدب، وكذلك الأدب يصنع النفس فإن هذه الدراسة تهدف إلى قراءة ديوان الحب كلب من الجحيم قراءة نفسية، مع تسليط الضوء على العلاقة بين الحب والوحدة، وتحليل العلاقة بين الجحيم، والحب والكلب في الرؤية الشعرية للكاتب، كما يسعى إلى الإجابة عن التساؤل الآتي: ما الصراع الذي تواجهه الذات الشاعرة؟

تحلل الدراسة قصيدة (وحيدًا في حضرة الجميع)، وُتطبق المنهج النفسي عليها؛ لاستخلاص الظواهر النفسية والصراعات عند الذات الشاعرة، والأسباب الخفية وراء هذا الصراع عبر استعراض السيرة الذاتية للكاتب والعقدة النفسية، إذ تجسد عزلة بوكوفسكي ورغبته في الهروب من الآخرين وسيلة لحماية نفسه من الألم النفسي الناتج عن العلاقات السلبية، ما يعزز الفجوة النفسية والشعور بالوحدة الذي يرافقه. هذه التجارب توضح كيف أن التجارب القاسية تترك آثارًا عميقة في قدرة الفرد على التفاعل الاجتماعي وتكوين روابط صحية مع الآخرين.

اختُيرت هذه القصيدة لأنها تعكس معاناة الوحدة التي قد يشعر بها الإنسان وسط الازدحام الاجتماعي، بتعبيرها عن الصراع الداخلي الذي يعيشه البعض في مجتمع لا يتفهم دواخلهم. أما اختيار الكاتب، فكان بسبب أسلوبه الفريد في التعبير عن الهامشية والتمرد على القواعد الاجتماعية. فكتاباته تتسم بالصدق القاسي، والمباشرة التي تكشف عن الجوانب المظلمة والمعقدة في النفس البشرية، مما يجعلها تلامس القلب والعقل معًا.

الدراسات السابقة

تناولت عديد من الدراسات كتابات بوكوفسكي، منها دراسة ركزت على الاغتراب الاجتماعي والإدمان في أعماله، حيث يُربط الاغتراب بإدمان الكحول، ويُظهر الخمر والجنون كوسيلتين للهروب من الواقع الاجتماعي والنفسي [1]. وفي سياق آخر، سلطت دراسة الضوء على صراع الذات في روايات بوكوفسكي [2]. في كلا السياقين، قدمت الدراستان صورة قاتمة عن التهميش الاجتماعي والصراع الداخلي؛ حيث تظل الشخصيات عالقة في دوامة من البحث عن الذات دون أن تصل إلى إجابة نهائية.

نبذة عن الديوان

ديوان الحب كلب من الجحيم هو استكشاف خام وشِعري لضرورات الحب، وآلامه، وحدوده.

ما بين القسوة واللطف، الحساسية والشجاعة، يكشف بوكوفسكي[3] عن جوانب لا تُعد ولا تحصى من الحب في أنانيته ونرجسيته، عشوائيته، غموضه، بؤسه، وكل ما فيه من بهجة حقيقية، وتحمل، وقوة تعويضية.

هكذا تصف دار النشر هاربر كولينز الديوان الذي نشرته عام ١٩٧٧م، ويحوي ١٦٠ قصيدة في ٣٠٥ صفحة (HarperCollins, 2024).

نبذة عن الكاتب

هنري تشارلز بوكوفسكي (Charles Bukowski) أمريكي من أصل ألماني، ولد في ١٦ أغسطس ١٩٢٠ في مدينة آندرناخ بألمانيا. وتوفي في ٩ مارس ١٩٩٤. وهو مؤلف أمريكي اشتهر باستخدامه اللغة المباشرة والوصفية المفصّلة في الشعر والرواية، التي تصور النضال من أجل البقاء على قيد الحياة في مجتمع فاسد ومنكوب. وفقًا لـبول كليمنتس، "يُعدّ بوكوفسكي (واقعيًا اجتماعيًا)؛ حيث يرى أن الفقر والقمع والوحشية هي الطبيعة الحقيقية للعالم. وكغريب اجتماعي، كان يعيش في عزلة، ويكتب عن النضال والويلات وعدم الانسجام في المجتمع: (Stupin-Rzońca, 1997).

قصيدة وحيدًا في حضرة الجميع

النص الأصلي بالإنجليزية

Alone With Everybody
the flesh covers the bone
and they put a mind
in there and
sometimes a soul,
and the women break
vases against the walls
and the men drink too
much
and nobody finds the
one
but keep
looking
crawling in and out
of beds.
flesh covers
the bone and the
flesh searches
for more than
flesh.

there's no chance
at all:
we are all trapped
by a singular
fate.

nobody ever finds
the one.

the city dumps fill
the junkyards fill
the madhouses fill
the hospitals fill
the graveyards fill

nothing else
fills.[4]

وحيدًا… في حضرة الجميع

اللحم يكسو العظم
ويضعون عقلًا هناك
و -أحيانًا- روحًا،
والنساء يكسرن المزهريات على الجدران
والرجال يسرفون بالشرب
ولا أحد يجد شريك أحلامه،
لكنهم يواصلون البحث
زاحفين من الأسرة وإليها،
اللحم يكسو العظم
واللحم لا يكتفي باللحم فحسب.
لا أمل لنا.. بتاتًا،
جميعنا غارقون في فخِّ مصيرٍ أوحد.

لا أحد، لا أحد أبدًا
سيجد شريك أحلامه.

امتلأتِ المزابل
امتلأت مكبات الخردة
امتلأت مشافي المجانين
امتلأتِ المستشفيات
امتلأتِ المقابر
لم يبق شيءٌ آخر ليمتلئ [5].

عن القصيدة

شعر مرسل تيمته الوحدة، فكرته الرئيسة تدور حول العزلة الوجودية للإنسان في سياق مجتمعي معاصر؛ حيث يعاني البشر من الافتقار إلى الاتصال الحقيقي رغم كثرتهم المادية. من خلال سلسلة من الأفعال والصور البلاغية التي تحمل معاني العنف، واللا معنى، والفشل المستمر، يرسم الشاعر صورة قاتمة لوجود الإنسان الذي يظل عالقًا في دائرة البحث عن الإشباع العاطفي بينما يواجه فشلًا دائمًا في إيجاد أي علاقة أو هدف يملأ فراغه الداخلي. يأتي ذلك متسقًا مع انفراد شخصية الشاعر في النص، في زمنٍ غير محدد إلا أن الأفعال فيه تبدو مستمرة في الحدوث في أماكن متعددة.

عناصر القصيدة

بدأ الشاعر قصيدته بالإنسان من خلال أبعاده المادية، ممثلة في "اللحم والعظم"، ما يعكس رؤية محدودة للجسد بعدّه مجرد هيكل مادي خالٍ من الأبعاد الروحية أو العقلية. هذه البداية تثير تساؤلات حول دور الجسد في تشكيل الهوية الإنسانية، خاصةً أن الشاعر يشير إلى أن الجسد هو الذي يحرك الإنسان قبل أن يتدخل العقل في توجيهاته أو بحثه عن ذاته. تكرار التركيز على "اللحم والعظم" قد يُفهم على أنه تقليل من قيمة الجسد وتحويله إلى مجرد أداة شهوانية؛ حيث يظل الإنسان محكومًا بالرغبات الجسدية التي تغيب العقل وتغطي على الروح.

هذه النظرة للجسد تتصاعد لتؤدي إلى حالة من التشتت الداخلي؛ حيث يجد الفرد نفسه عالقًا في دورة من الرغبات الجسدية التي لا تفضي إلى إشباع حقيقي. فالبحث المستمر عن الإشباع العاطفي عبر الجسد يظل غير مجدٍ، مما يعكس الفشل المستمر في العثور على معنى أو اتصال حقيقي مع الآخرين. الشاعر بذلك يعكس فكرة أن الذات، وسط هذه الفوضى الجسدية والعاطفية، لا تستطيع أن تجد مكانها أو هويتها الحقيقية، ويظل الإنسان عالقًا في وحدة وعبث دائمين، حتى وإن كان يبحث عن التحقق العاطفي والروحي. وحين يقول "ويضعون عقلًا هناك"، فيمكننا فهم أن العقل ليس جزءًا جوهريًا أو طبيعيًا في تكوين الإنسان، بل هو شيء يتم "وضعه" أو إضافته، كأن العقل هو شيء مفروض أو خارجي عن الذات الحقيقية. هذا التعبير يعكس فكرة أن العقل قد يُعدّ أحيانًا أداة تُستعمل في محاولة فهم الحياة واتخاذ القرارات، ولكنه ليس العنصر الذي يحدد الهوية الحقيقية للإنسان. العقل في هذه الحالة يُوضع في مكان ما، كما لو أنه عنصر يمكن استنساخه أو إضافته عندما يكون الإنسان بحاجة إليه.

وحينما يكمل: "وأحيانًا روحًا"، فإنه يبرز التباين بين الجسد والعقل والروح في حياة الإنسان. الجملة تُعبر عن رؤية الشاعر لكيفية تقليص الإنسان إلى كائن مادي بحت؛ حيث يكون "اللحم يكسو العظم" في إشارة إلى التركيز على الجوانب المادية والظاهرية للوجود. لكن، في بعض الأحيان، يُمنح الإنسان "عقلًا" و"روحًا"، وهذه الإضافة تعكس لحظات تكون فيها الذات أكثر عمقًا واتصالًا بالمعاني والوجود الروحي أو العقلاني.

لكن استخدام "وأحيانًا" يبرز تناقضًا في الحياة البشرية: ففي بعض اللحظات قد يشعر الإنسان أنه متصل بروحه وعقله، أما في أحيان أخرى، فيكون غارقًا في الجوانب المادية والمحدودة لجسده. هذا يعني أن الشاعر يلاحظ حالة تناقض في الإنسان؛ حيث في فترات معينة يكون أقرب إلى ما هو مادي، وفي أخرى قد يلامس أبعاده الروحية والعقلية.

إضافة "وأحيانًا" أيضًا تُظهر عدم الثبات في هذه الحالة الإنسانية، مما يعكس الصراع الداخلي الذي يعانيه الإنسان بين الوجود المادي والتوق إلى الروحانية أو العقلانية. وهذا التباين يمكن أن يكون مصدرًا للشعور بالضياع أو الوحدة، كما يُحس الشاعر في النص؛ حيث يفصل بين الوجود الفعلي والوجود الروحي في صراع مستمر.

يتناول تباين الجنسين، حيث تمارس النساء كسر المزهريات، ويحاول الرجال الهروب إلى الخمر بحثًا عن إشباع معنوي، بحثًا ربما عن راحة للروح وهروبًا من سجن اللحم والعظم الذي تضيق به الروح فتغادر صاحبها فيضيع، إلا أن هذا كله يبقى غير مجدٍ. يعكس الشاعر، عبر تكرار الفشل في إيجاد شريك أحلامه، الوحدة بوصفها حتمية بشرية، وأن البحث المستمر عن الإشباع العاطفي لا يؤدي إلا إلى المزيد من الفراغ. في النهاية، تؤكد القصيدة أن كل محاولات الإنسان لتحقيق معنى أو اتصال حقيقي تؤول إلى اللاجدوى، حيث الامتلاء لا يحقق الإشباع، ويبقى الإنسان عالقًا في دائرة من العزلة والعبث. وبإمكاننا تجزئة عناصر النص كالآتي:

1- العنوان: "وحيدًا… في حضرة الجميع"
العنوان يُحيل مباشرة إلى التوتر بين العزلة والتجمع؛ حيث العزلة الذاتية تقع وسط الكثرة الاجتماعية. هذا التناقض بين الوحشة والوجود الجماعي هو الموضوع الرئيس الذي يستعرضه الشاعر. العنوان يُثير تساؤلًا حول إمكانية العيش في محيط مليء بالناس دون أن يكون هناك تواصل حقيقي بين الأفراد.

2- التمهيد البنائي:
يبدأ النص بتفصيلات عضوية متعلقة بتكوين الإنسان:
● "اللحم يكسو العظم": هذه العبارة تشير إلى التصاق الجسد المادي بمكوناته الأساسية، في حركة متكررة. فالجسد، رغم مظاهره الخارجية، يظل هشًا في جوهره. كما أن التكرار هنا يعبّر عن الدوامة الوجودية التي يتكرر فيها الإنسان في محاولاته لبناء ذاته، لكنه يظل محكومًا بجسده.

● "ويضعون عقلًا هناك وأحيانًا روحًا": العقل والروح هنا هما الوجهان الأعمق للإنسان. العقل، الذي من المفترض أن يمنح الإنسان القدرة على التفكير والتحليل، والروح، التي تمثل الجانب الوجودي والروحي للإنسان. لكن الشاعر يشير إلى أن هذين العنصرين قد يوضعان "هناك"، أي أنهما قد يصبحان جانبًا مكملًا غير فعّال أو مجرد "مضاف" إلى الجسد، مما يعكس الروح العاجزة التي لا تجد لها مكانًا حقيقيًا في هذا الوجود.

3- التقديم الاجتماعي: النساء والرجال
● "والنساء يكسرن المزهريات على الجدران": صورة عنف موجهة من النساء، هذه الصورة تحمل دلالة على التفجير العاطفي، والتدمير الناتج عن الإحباط والعجز عن التعبير عن الذات. في الثقافة الأمريكية، كسر المزهريات لا يحمل رمزية ثابتة في السياقات كافة، لكن عندما يتعلق الأمر بإقدام المرأة خاصةً على هذا الفعل، فيمكن أن يُفهم على أنه إشارة إلى الخراب غير القابل للإصلاح الناتج عن تدمير شيء ثمين أو هش، مثل العلاقات أو التوقعات. قد يعكس الفعل الضعف أو الهشاشة في شخصية النساء، أو في كيفية تعاطيهن مع الصراعات الداخلية أو الاجتماعية التي قد تؤدي إلى تحطيم الهياكل العاطفية أو الأسرية. كما يمكن أن يرمز إلى الفقدان والندم، خصوصًا إذا كان الكسر نتيجة تصرفات متهورة أو لحظات انفعال، مما يُظهر تأثير التوترات والضغوط على قدرة النساء في الحفاظ على التوازن أو الاستقرار العاطفي.

● "والرجال يسرفون بالشرب": في النص، يُعدّ الخمر رمزية للهرب من الواقع القاسي والفراغ العاطفي؛ حيث تصبح وسيلة مؤقتة لإشباع الشعور بالوحدة والضياع النفسي. ارتبط الخمر تاريخيًا بالعاطفة والحب في العديد من الثقافات، وهنا تمثل العاطفة المفقودة، مع الإشارة إلى أن شرب الخمر قد يكون محاولة للوصول إلى حالة من الارتياح الروحي، لكنها تؤدي في النهاية إلى ضياع العقل وزيادة الشتات النفسي. هذه التناقضات تبرز عقدة الوحدة التي يعاني منها الرجال في النص؛ حيث يسعون لإيجاد التوازن بين الروح والعقل، لكنهم يجدون أنفسهم محاصرين في دوامة من الهروب والفراغ العاطفي المتزايد، والخيار واحدٌ: إما بقاء العقل، أو ضياع الروح.

4- الأفعال: بحث بلا نتيجة
● "لا أحد يجد شريك أحلامه": هذا التكرار يتقاطع مع فكرة العزلة التي يطرحها النص، حتى مع بحث الإنسان المستمر، يبقى فشلًا في تحقيق التواصل الحقيقي مع الآخر، ويمثل فشلًا في تحقيق العلاقات العاطفية التي يتطلع إليها الجميع.

● "لكنهم يواصلون البحث زاحفين من الأسرة وإليها": الفعل "يواصلون البحث" يعكس السعي المستمر الذي لا يكل، رغم إدراكهم الداخلي بأن هذا السعي بلا نهاية. أما كلمة "زاحفين"، فهي تحمل دلالة الضعف والتراخي، مما يعكس الحركات غير الفعّالة التي تُنبئ بفشل محقق وتكرار بلا جدوى. إضافة إلى ذلك، تُظهر العبارة أن هؤلاء الأشخاص مجبورون على هذا البحث، مما يعزز فكرة أنهم عالقون في دورة مغلقة لا مفر منها؛ حيث لا يحققون أي تقدم حقيقي في مسعاهم.

5- الامتلاء بالمقابر والمستشفيات والمزابل
● "امتلأتِ المزابل، امتلأت مكبات الخردة، امتلأت مشافي المجانين، امتلأتِ المستشفيات، امتلأتِ المقابر": هذه العبارات تكثف فكرة الفراغ والانتهاء. يتكرر الفعل "امتلأ" ليعكس التزايد المستمر في الأشياء التي لا تجد معنى أو هدفًا. فهذه الأماكن "المزابل، المقابر، المستشفيات ومشافي المجانين" أماكن تمثل نهاية مختلفة لكل جوانب الحياة. المزابل، مكان التخلص من الأشياء غير المفيدة، تشير إلى الفراغ العاطفي والشعور بعدم القيمة الذي يعايشه الشخص، كأن الحياة تتكدس في مكان يتجمع فيه كل ما لا فائدة له. المقابر لا تمثل الموت الجسدي فقط، بل تعكس أيضًا موت الأمل وغياب المعنى في حياة مليئة باليأس. أما المستشفيات، فهي مكان يعالج فيه الناس من الأمراض الجسدية والعقلية، مما يرمز إلى الضعف والمرض النفسي الذي قد يعصف بالإنسان داخليًا، بينما مشافي المجانين تعكس الفقدان التام للاتصال بالواقع والشتات الذي يعيشه الفرد في حالة من الانهيار العقلي. في النهاية، تجمع هذه الأماكن كل الصور السلبية التي تبرز مشاعر الضياع، الانعزال والتدهور النفسي، مما يوحي بحالة مستمرة من الانغلاق والخراب الداخلي.

● "لم يبق شيءٌ آخر ليمتلئ": هذه الجملة هي الختام المكثف لكل فكرة النص. هي تأكيد على العدمية، فكل شيء قد امتلأ إلى الحد الأقصى، ولكن مع ذلك، يبقى الفراغ حاكمًا. هذا الامتلاء لا يؤدي إلى الإشباع أو الغرض، بل يعكس اللامعنى الذي يعانيه الجميع.

التحليل التركيبي للنص
الافعال

المضارع: يكسو، يضعون، يكسرن، يسرفون، يجد، يواصلون، يكتفي، يبقى، يمتلئ.
الماضي: امتلأت.
الأمر: لا يوجد

عددها

المضارع: 9
الماضي: 5 مكرر
الأمر: 0

الدلالة

المضارع والماضي: تشير إلى حالات أو عمليات مستمرة أو دائمة تتفاعل مع محيطها.
الأمر: غياب الأوامر قد يشير إلى حالة من الاستسلام.

الاسماء

اللحم، العظم، عقلًا، روحًا، النساء، المزهريات، الجدران، الرجال، الشرب، أحد، شريك، أحلام، البحث، الأسرة، أمل، فخ، مصير، أوحد، المزابل، مكبات، الخردة، مشافي، المجانين، المستشفيات، المقابر، شيء.

عددها

26

الدلالة

الرابط النفسي بين هذه المصطلحات يعكس التجربة الإنسانية من خلال التعرض المستمر للصراع الداخلي والخيبة؛ حيث تمثل هذه العناصر (الجسد، العواطف، العلاقات، الأماكن المظلمة) مظاهر الفقد والتشتت التي يعاني منها الفرد، ما يجعله عالقًا في حلقة مغلقة من البحث عن الذات دون أن يجد خلاصًا أو معنى حقيقيًا.

الصفات

زاحفين، غارقون

عددها

2

الدلالة

كلاهما يعبر عن حالة التوجه إلى شيء، يشير الزحف إلى الجهد المضني والحاجة الملحة للوصول إلى هدف ما، فيما يشير الغرق إلى التورط والعجز عن الخروج من موقف صعب.

التكرار

لا
امتلأت
اللحم
لا يجد
العظم
لا أحد

عددها

لا: 5
امتلأت: 5
اللحم: 4
لا يجد: 3
العظم: 2
لا أحد: 3

الدلالة

لا: بشكل عام، تكرار "لا" يعكس التأكيد على الرفض أو النفي القوي لشيء ما، وقد يكون له دلالات نفسية أو فلسفية تعكس حالة من الإنكار أو العجز أو الإحباط.
امتلأت: يعكس التراكم المفرط أو الاستنفاد في مختلف مجالات الحياة.
اللحم: يعكس أن الجسم، وإن كان يتناغم مع العقل أو الروح، إلا أنه في النهاية يبقى كائنًا ماديًا محدودًا بنطاق الجسد المادي.
لا يجد: تأكيد تام على استحالة العثور على المنشود.
العظم: العظم في هذا السياق هو ما يدعم الحياة، ولكنه في النهاية محدد ومحدود، لأن الجسد بأكمله في النهاية معرض للفناء، وهو ما يعكس دلالة الوجود الجسدي الفاني.
لا أحد: تعزز فكرة الغياب التام أو الاستحالة في إيجاد ما يُنتظر.

التحليل على المستوى الدلالي:

تحمل الأسماء دلالات متنوعة تلامس جوانب متعددة من الحياة البشرية. فبعضها يرتبط بالتمييز أو التفرد، مثل: أحد، وشريك، وأوحد؛ حيث تدل هذه الكلمات على التميز أو التفرد، فـ"أحد" يعني شخصًا واحدًا، بينما "شريك" يشير إلى شخص آخر في علاقة أو تعاون، و"أوحد" يدل على التفرد أو النادر. أما بعض الكلمات، مثل: الروح، والعقل، واللحم، والعظم، فتتمحور حول التكوين المادي والنفسي للإنسان، بينما النساء والرجال تمثل تقسيمات الجنس البشري، والمجانين والأسرة تشير إلى حالات نفسية أو اجتماعية تمس الإنسان في مراحله المختلفة.

ومن ناحية أخرى، نجد بعض الأسماء تتعلق بأماكن أو ظروف غير مألوفة أو مستبعدة، مثل: المزابل، والمكبات، والخردة، التي تمثل أماكن أو حالات ترتبط بالأشياء المهملة أو المفقودة أو التي تخرج عن نطاق الاستخدام، في حين أن المقابر، والمستشفيات، والمشافي تمثل أماكن ترتبط بالحياة والموت، أو بالصحة والمرض. ثم تأتي كلمات، مثل: أحلام، وأمل، ومصير، التي ترتبط بالأشياء المستقبلية أو ما يحمل معنى الأمل والتطلع، بينما يشير البحث إلى السعي لاكتشاف شيء أو العثور على إجابات.

التكرار المستمر لأفعال، مثل: "يمتلئ"، "لا يجد"، و "اللحم" يعكس الدوامة الوجودية التي يعيشها الإنسان؛ حيث يواصل البحث عن معنى أو علاقة حقيقية، لكنه ينتهي دائمًا إلى مزيد من الفراغ والتراكم المادي. في النهاية، تصبح الحياة سلسلة من محاولات فاشلة، تزداد عزلتها مع مرور الوقت، ولا يبقى شيء ليمتلئ.

وفي سياق آخر، تُعبّر كلمات، مثل: "فخ وشيء" عن التحديات أو المعوقات التي قد يواجهها الإنسان في حياته، بينما ترمز الجدران إلى الحدود أو العوائق التي تقف في طريقه. في النهاية، يمكن القول إن الرابط بين هذه الأسماء هو أنها تستحضر أفكارًا عن الحياة والموت، التفرد، المعاناة، وأماكن أو حالات تلامس جوانب الحياة البشرية المختلفة، سواء أكانت جسدية أم معنوية. تحمل هذه الأسماء معاني متناقضة أو متباينة، مما يعكس التنوع الكبير في تجارب الإنسان ووجوده.

بالنسبة إلى الأفعال: (يكسو، يضعون، يكسرن، يسرفون): فهي تتعلق بالوجود الجسدي. "اللحم يكسو العظم" و"يضعون عقلًا هناك" توحيان بمساعي الإنسان لبناء نفسه وتكوين هويته، لكن الأمر دائمًا يبدو مؤقتًا وغير مكتمل. أما أفعال النساء والرجال ("يكسرن المزهريات" و"يسرفون بالشرب") فيمكن أن تعبر عن سلوكيات هروب وعنف داخلي ناتج عن الفراغ الروحي والبحث عن الإشباع، إلا أنه دائمًا يأتي في شكل سلوكيات سلبية وغير مجدية.

أما عن الأفعال: "يجد، يواصلون، يكتفي، يبقى، يمتلئ"، فإنها تشير إلى البحث المستمر عن التواصل والإشباع. "يجد" فعل تكرر في النص ليشير إلى فشل مستمر في الوصول إلى الهدف، بينما "يواصلون" يحمل دلالة الإصرار في سعيهم رغم علمهم بأنهم لا يصلون إلى شيء ذي قيمة حقيقية. "يمتلئ" يرمز إلى التراكم المادي أو العاطفي، إلا أن التكرار يشير إلى أن هذه الامتلاءات لا تؤدي إلى إشباع حقيقي، بل تترك فراغًا أكثر اتساعًا.

أما بالنسبة إلى الصفتين المذكورتين: "زاحفين، غارقون"، فإن الصفة الأولى "زاحفين" تشير إلى الضعف والعجز في السعي نحو الإشباع أو الوصول إلى الهدف، بينما "غارقون" تعكس التورط أو الاستغراق في وضع فاشل؛ حيث لا يستطيع الإنسان أن يحرر نفسه من محيطه.

التكرارات:

● اللحم: تكرار "اللحم" يشير إلى الأساس المادي في الإنسان الذي لا يستطيع أن ينجح في تلبية احتياجاته الروحية والنفسية.
● لا يجد: هذا التكرار يعكس فشل الإنسان في التواصل أو في إيجاد شريك يملأ فراغه العاطفي. ويبرز عدم القدرة على الاتصال العاطفي رغم البحث المستمر.
● العظم: تكرار العظم يُظهر الثبات الجسدي الذي يبقى، لكنه أيضًا يشير إلى الجمود والافتقار للحركة. كما يمكن أن يمثل الهيكل الجامد للإنسان، الذي لا يستطيع الهروب من مصيره.
● امتلأت: التكرار المستمر لهذا الفعل يشير إلى التراكم المستمر للأشياء دون الوصول إلى حالة من الإشباع الحقيقي. مما يعكس الركود والفراغ المستمر في الحياة.
● لا أحد: تكرار هذه العبارة يعكس العزلة التامة؛ حيث لا أحد قادر على الوصول إلى الآخر أو إيجاد شريك أحلامه. التكرار هنا يشير إلى العجز الجماعي، وإلى حقيقة أن الجميع محكوم عليهم بالوحدة، حتى في وسط الكثرة.

رمزية الحب والكلب والوحدة

خلال لقاءٍ تلفزيوني أُجري مع بوكوفسكي في منزله، أشار المذيع إلى أن بوكوفسكي يحصر المرأة في كونها أداة للمتعة، لكن سرعان ما أبدى الكاتب اعتراضه ورد بقولٍ قد يجيب على رمزية الكلب في الجحيم بشكلٍ مباشر، نقتبس من الحوار الآتي:

المذيع: "… ولكن في نصوصك، الحب مرادفٌ للجنس. وذلك ليس رومانسيًا".
تشارلز: "من أين أتيت بهذا الهراء؟ الحب كلب من الجحيم، هذا كل ما في الأمر. له عذابه، يصحب آلامه الخاصة به معه" (YouTube, 2020).

من هذا الرد يمكننا استنتاج نظرة الكاتب إلى الحب على أنه كلب من الجحيم، هذا العنوان الذي يحمل اسم الديوان ويركز على الكلب "المرافق الأوفى" في صورة كائن ينتمي إلى الجحيم؛ حيث يمثل العذاب المستمر والالتزام القاسي

الذي لا يمكن التخلص منه. هذا الرفيق لا يحمل معه فقط الوفاء، بل يُجسد أيضًا الألم الذي لا ينفصل عن الإنسان في معاناته الوجودية. فالحب في هذه الحالة يتحول من مشاعر نقيّة إلى علاقة معقدة تحمل في طياتها الشقاء والالتزام العاطفي العميق الذي قد يُعدّ جزءًا من الجحيم العاطفي أو النفسي الذي يعيشه الشخص.

إضافة إلى ذلك، تكمن الأهمية النفسية لهذه الرمزية في كونها تعكس عقدة نفسية معقدة؛ حيث يُمثّل الحب كشيء مستمر في الحياة رغم العذاب، كأنه جزء من تجربة الوجود التي لا مفر منها. من هنا، يصبح الكلب مرادفًا للحالة النفسية التي لا يستطيع الفرد الفرار منها؛ حيث يستمر في مرافقة الشخص مهما كانت الظروف، كأنه المعادل الموضوعي للرفيق البشري في الجحيم، الذي لا يغادره حتى في أكثر لحظات العزلة والألم.

في النهاية، يمثل الكلب في هذا السياق رمزًا للعلاقة الملتبسة بين الحب والعذاب، وللألم الوجودي المستمر الذي يلازم الإنسان في "جحيمه" الشخصي.

لمحة من حياة الكاتب

ولد تشارلز بوكوفسكي في آندرناخ بألمانيا في 16 أغسطس 1920، وهو الطفل الوحيد لجندي أمريكي وأم ألمانية. في سن الثالثة، عاد مع عائلته إلى الولايات المتحدة ونشأ في لوس أنجلوس. التحق بكلية مدينة لوس أنجلوس من عام 1939 إلى عام 1941، ثم ترك المدرسة وانتقل إلى مدينة نيويورك ليصبح كاتبًا. أدى عدم نجاحه في النشر في ذلك الوقت إلى توقفه عن الكتابة في عام 1946 وحفزه على شرب الخمر بكثرة لمدة عشر سنوات. بعد أن أصيب بقرحة نازفة، قرر العودة إلى الكتابة مرة أخرى. عمل في مجموعة واسعة من الوظائف لدعم كتابته، بما في ذلك سائق شاحنة وحامل، وساعي بريد، وحارس، وموظف في محطة وقود، وبائع مخزن، وعامل مستودع، وكاتب شحن، وكاتب مكتب بريد، وموظف في ساحة انتظار السيارات، ومنظم في الصليب الأحمر، ومشغل المصعد. كما عمل أيضًا في مصنع بسكويت للكلاب، ومسلخ، ومصنع للكعك والبسكويت، وعلّق الملصقات في مترو أنفاق مدينة نيويورك.

نشر بوكوفسكي قصته الأولى عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره، وبدأ كتابة الشعر في سن الخامسة والثلاثين. غالبًا ما تضمنت كتاباته بيئة حضرية فاسدة، وأعضاء مضطهدين في المجتمع الأمريكي، ولغة مباشرة، وعنفًا، وصورًا جنسية، وتتمحور العديد من أعماله حول شخصية سيرة ذاتية تقريبًا تدعى هنري تشيناسكي. صدر ديوانه الشعري الأول عام 1959، وتابع نشر أكثر من خمسة وأربعين كتابًا في الشعر والنثر، بما في ذلك "اللب" (العصفور الأسود، 1994)، "صرخات من الشرفة: رسائل مختارة 1960-1970" (1993)، و"قصائد آخر ليلة على الأرض" (1992)، توفي بسرطان الدم في سان بيدرو في 9 مارس 1994 (Poets.org, 2024).

العقدة النفسية

في لقاء تشارلز على التلفزيون ذكر أثناء المقابلة "كان أبي ساديًا كليًا، وكنت أصغر شخصٍ في محيطه" مضيفًا: "كان يضربني لأي سبب، لم يكن أي شيء يمنع حدوث ذلك." (YouTube, 2020).

من خلال تحليل سيرة تشارلز بوكوفسكي وإجاباته في المقابلة المصورة التي ذكر فيها تعرضه للعنف الجسدي من والده، يمكننا استنتاج أن حياته الشخصية قد تأثرت بشكل عميق جراء هذه التجارب.

ما ذكره عن والده، الذي وصفه بأنه "سادي كليًا" وأنه كان يُعنّف الناس وخاصةً ابنه، يعكس نوعًا من الإيذاء النفسي والجسدي المستمر الذي تعرض له. هذا العنف البدني من الأب ليس فقط شكلًا من أشكال الإساءة الجسدية، بل يمكن أن يؤدي إلى إصابة الطفل باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وهو اضطراب نفسي يحدث نتيجة التعرض لحوادث مؤلمة وصادمة، ويعرف بأنه "اضطراب نفسي يحدث بعد اختبار الشخص لحدث مؤلم ككارثة طبيعية، حروب، عنف جسدي، أو إصابة بمرض، وقد تبدأ العوارض بالظهور بعد أسابيع أو أشهر من الحادثة وتؤثر في سير حياة الشخص بشكل طبيعي". بلوط، ز. (2015). "اضطراب توتر ما بعد الصدمة". في: المؤسسة الطبية الدولية (محرر). بيروت، لبنان: المؤسسة الطبية الدولية.

وذكر عماد الدين الطماوي في دراسة بعنوان أساليب المعاملة الوالدية وعلاقتها بالتوافق النفسي لدى الأبناء المراهقين من طلاب المرحلة الثانوية أن أساليب العنف والقسوة والقهر التي يمارسها الآباء على الأبناء تولد سلوكيات غير مرغوبة، مثل: الانسحاب، والعدوان، وعدم الرغبة في التفاعل الاجتماعي، وتكون عقبة أمام التوافق النفسي (الطماوي, 2020). مما سبق، يتضح أن أساليب المعاملة الوالدية القاسية تؤثر بشكل كبير في التوافق النفسي للأطفال، مما يفتح المجال لفهم أعمق لكيفية تأثير العلاقة بين الطفل و"القائم بالرعاية" في تطور شخصيته وسلوكه.

تشير إيمان دوماس زكي (2023) إلى أن نظرية التعلق التي وضعها جون بولبي تحدد الأنماط المختلفة للتعلق التي تؤثر بشكل كبير في النمو النفسي والاجتماعي للطفل. يمكن تلخيص الفكرة الأساسية لهذه النظرية في أن العلاقة بين الطفل و"القائم بالرعاية" (الذي عادة ما يكون الوالدين) هي علاقة محورية في حياة الطفل. وتُقسم هذه العلاقة إلى صيغ وأنماط متنوعة، تتراوح بين التعلق الآمن والتعلق غير الآمن. التعلق الوجداني يعد نزعة إنسانية فطرية لدى الأفراد، تمكنهم من تكوين روابط عاطفية واجتماعية مع أشخاص معينين في محيطهم الاجتماعي. هذه النزعة تبدأ منذ الولادة وتستمر طوال الحياة.

كما يتضمن التعلق الوجداني عدة أنماط:

١- التعلق الآمن الذي يرتبط بالثقة بالنفس وبالآخرين.

٢-التعلق القلق؛ حيث يرى الفرد نفسه بشكل سلبي، بينما يرى الآخرين بشكل إيجابي.

٣- التعلق التجنبي؛ حيث تكون هناك نظرة سلبية تجاه كل من الذات والآخرين. وتوضح بأنه غالبًا ما تكون المشكلات الشخصية ومشكلات العلاقات نتيجة لأسلوب التعلق الذي يمتلكه الشخص أنماط المرفقات هي توقعات يطورها الناس بشأن العلاقات مع الآخرين. تؤثر أنماط التعلق في العلاقات الحميمة ويمكن أن تكون سببًا لمشكلات في العلاقة.

كما تشير إلى إحدى النظريات المفسرة للشعور بالوحدة النفسية، نظرية التحليل النفسي -فرويد -Theory Psychoanalytic التي يفسر فيها فرويد (١٩٣٩-١٨٥٦) الشعور بالوحدة النفسية بأنها "عملية تنافر المكونـات داخـل الفرد الهو، الأنا، والأنا العليا مما يؤدي إلى سوء توافقه مع نفـسه ومع بيئته الاجتماعية من حوله. ويمكن النظر إلى الشعور بالوحدة النفسية بأنـه نتيجـة للقلـق العصابي الطفولي وله وسيلة دفاعية نفسية تعمل للحفاظ على الشخصية من التهديد الناشئ مـن البيئة الاجتماعية ويعبر عنه في صورة عزلة أو انسحاب" (دوماس زكي، 2023).

في مقالةٍ نشرتها مجلة فوربز، كشفت فيها عن نتائج دراسةٍ وضحت أنه نظرًا للتجارب السابقة مع مقدمي رعاية غير موثوقين أو غير متاحين عاطفيًا، قد يواجه الأفراد ذوي نمط التعلق التجنبي صعوبة في الوثوق بالآخرين بمشاعرهم، معتقدين أن الضعف لا يؤدي إلا إلى خيبة الأمل أو الخيانة. لذلك يفضلون عدم رفع آمالهم في أن يكون الاتصال آمنًا وطويل الأمد (Travers, 2024).

وعودة إلى المقابلة التلفزيونية، ذكر تشارلز بوكوفسكي: "أنا لست وحيدًا. أنا أحب وحدتي. أنا أريد العزلة. أفضل شيء في العالم هو أن تبتعد عن الآخرين، ذلك رائع. هكذا لا يوجد ألم، ولا معاناة. أمر عظيم، سهل، وجميل." ثم أضاف قائلًا: "لدي مشكلة، أنا لا أكره الناس. الناس يثيرون اشمئزازي، لذلك أهرب منهم. أنا لا أكره، أنا أهرب". واستمر في الحديث عن والده معبرًا عن مشاعره المعقدة تجاهه، إذ قال إنه لا يكرهه، ولكنه شعر بالراحة بعد موته، وأضاف أنه يعتقد أنه سيلقاه في الجحيم يومًا ما.

تُظهر هذه الكلمات لمحة من نمط التعلق التجنبي الذي كان يعاني منه بوكوفسكي. يتجلى هذا النمط في رغبة بوكوفسكي العميقة في الانعزال عن الناس وتفضيله للوحدة على التواصل الاجتماعي. هذه العزلة ليست فقط هروبًا من الآخرين، بل هي أيضًا وسيلة لحماية نفسه من الألم والمعاناة الناتجة عن العلاقات البشرية، خاصة تلك المرتبطة بتجاربه السلبية مع والده. هذا التصريح يعكس الصراع الداخلي العميق الذي عاشه بوكوفسكي طوال حياته؛ حيث يبدو أن العزلة أصبحت وسيلته الوحيدة للهرب من الألم النفسي والتجارب المؤلمة التي مر بها. وتظهر فيها الفجوة النفسية، التي ذكرتها (الغامدي، ٢٠٢٠) كأحد مكونات الوحدة الفرد (Psychological gap) التي تلعب دورًا في إبعاد الفرد عن الوسط المحيط يصاحبها أو يترتب عليها فقد الثقة بالآخرين، إضافة إلى إحساس الفرد بأنه يفتقد للمهارات الاجتماعية اللازمة لانسجامه في علاقات اجتماعية مشبعة.

التطهير عبر الشعر

في لقاء مجلة فايس مع ناشره جون مارتن مالك دار نشر "بلاك سبارو": ذكر بأن بوكوفسكي كان يشعر بعدم الارتياح عندما كان محاطًا بالناس، حتى في تجمع صغير؛ كان وحيدًا رغم لطفه وصدقه مع الجميع. إضافة إلى رغبته في أن يكون يومه روتينيًا جدًا، وينتهي بالكتابة حتى الساعة الثانية صباحًا كل يوم. (Smith and VICE Staff, 2014).

الكتابة التي عبر عنها في اللقاء التلفزيوني بـ: "راودتني رغبة ملحة في كتابة الكلمات على الورقة. لا أعرف لماذا". وهو ما يقودنا لمفهوم "التطهير" الذي قدمه أرسطو في كتابه الشعر، (الفصل الرابع).

وفقًا للباحث زرنيانين، فإن جوهر العمل الشعري هو الحاجة إلى التعبير. ذلك بأنه فن معبر عن الذات، يعكس الواقع الداخلي للشاعر وحالته النفسية تجاه العالم الخارجي. ومن هذا المنظور، يُنظر إلى الشعر كأداة لتطهير الذات؛ حيث يُترجم الصراع الداخلي والتجارب الشخصية إلى كلمات معبرة. (Czernianin, 1997).

وفي قصيدته "وحيدًا في حضرة الجميع" عبر بوكوفسكي عن ألم العزلة والفراغ الداخلي، وحالة من البحث المستمر عن معنى أو شريك أحلام دون أن يجد إجابة. وبذلك، يتطهر من آلامه عبر القبول بالحقيقة والاعتراف بأن كل محاولاته لا جدوى منها، وأن كل شيء ممتلئ بالنهاية. بالتالي، يجد الراحة في التسليم بالواقع والإغلاق على الأمل، مما يحرره من التعلق بالأوهام ويمنحه نوعًا من الهدوء النفسي. هذه الراحة النفسية التي يجدها بوكوفسكي ليست راحة بسيطة أو هروبًا من الألم، بل هي راحة عميقة ناتجة عن القبول الكامل بالحقيقة القاسية. الكاتب يعبر عن التسليم النهائي بحقيقة العزلة والفشل، مما يعني أنه تحرر من البحث المستمر عن معنى أو علاقة كاملة، وهو ما كان يسبب له الألم والتشويش.

راحته النفسية تأتي من التوقف عن المقاومة؛ حيث يتوقف عن السعي خلف الأمل الوهمي. عندما يعبر عن امتلاء المزابل، المقابر، والمستشفيات، فهو يشير إلى الاستسلام لفكرة النهاية، ما يعني أنه لا شيء يمكن أن يتغير، ولا شيء جديد يمكن أن يحدث. وبالتالي، عندما يقرر أن لا أحد سيجد شريك أحلامه، فهو لا يكتفي بالاعتراف بعبثية السعي، بل يجد في ذلك تسليمًا يحرره من الضغوط النفسية الناتجة عن البحث المستمر.

عندما يقبل بالفراغ على أنه حالة نهائية، فإن ذلك يتيح له نوعًا من الهدوء الداخلي؛ حيث لم تعد هناك حاجة للبحث أو القلق حول الأهداف غير المحققة. هذا القبول يعني أيضًا التخلي عن الندم أو الألم الناتج عن المحاولات الفاشلة، مما يجعله يشعر بشيء من التحرر من عبء القلق بشأن آماله غير المحققة.

التطهير عبر الكتابة

عاش بوكوفسكي حياة مليئة بالوحدة والصراع مع نفسه ومع العالم من حوله، وكان الشعر وسيلته الوحيدة للتعامل مع هذا العبء. ورغم أن هذه الكتابة كانت تعبيرًا عن ألم شخصي، إلا أنها لامست قلوب قرائه حول العالم، الذين وجدوا في أعماله الصادقة انعكاسًا لآلامهم الخاصة وواقعهم المرير. كانت كلماته تجسد الحقيقة المطلقة دون تجميل أو تلاعب، مما جعل شعره يملك قدرة هائلة على الاتصال بالجمهور وإثارة المشاعر. فالشعر الصادق الفظ، الذي يخلو من التجميل والتزييف، كان في قلب رسالته في التعامل مع الوحدة والمشاعر الإنسانية.

الخاتمة

تتجسد عقدة تشارلز بوكوفسكي النفسية في الوحدة والعزلة، التي تشكلت نتيجة لتجارب الطفولة المؤلمة والعلاقة المضطربة مع والده، ما أدى إلى تطويره لنمط تعلق "تجنبي"، أدى إلى نمطٍ من الهرب والعلاقات التي يصور أبعادها في قصائده. هذه العزلة لم تكن مجرد هروب اجتماعي، بل كانت وسيلة لحماية نفسه من الصدمات العاطفية؛ حيث وجد في الوحدة نوعًا من الراحة النفسية والحرية من الألم. كما يمكننا أن نقول إن تصوره للحب بوصفه "كلب من الجحيم" يعكس ارتباطه العميق بالعذاب في العلاقات العاطفية؛ حيث تتحول عاطفة الحب لدى تشارلز إلى التزام مع ألم مستمر. في مواجهة هذا الصراع الداخلي، كان الشعر بالنسبة له أداة تطهيرية، استخدمه لتفريغ آلامه النفسية وتحويل تجاربه المؤلمة إلى كلمات تعكس معاناته وتحرره من الصراع الوجودي. عبر هذا التعبير الفني، وجد بوكوفسكي راحة نفسية في قبول الواقع كما هو، متخليًا عن البحث المستمر عن معنى أو علاقة غير قابلة للتحقق، مما منحه نوعًا من الهدوء الداخلي والتطهير العاطفي.


    المصادر و المراجع
    ● Encyclopaedia Britannica, 2024. Loneliness. [online] Available at: https://www.britannica.com/science/loneliness [Accessed 29 Nov. 2024].
    ● Poets.org, 2024. Charles Bukowski. [online] Available at: https://poets.org/poet/charles-bukowski [Accessed 29 Nov. 2024].
    ● بلوط، ز. (2015). اضطراب توتر ما بعد الصدمة. بيروت، لبنان: المؤسسة الطبية الدولية.
    ● YouTube, 2020. Charles Bukowski - The Ultimate Biography. [online] Available at: https://www.youtube.com/watch?v=f34gfIZ1mT8 [Accessed 29 November 2024].
    ● الطماوي، ع. د.، 2020. أساليب المعاملة الوالدية وعلاقتها بالتوافق النفسي لدى الأبناء المراهقين من طلاب المرحلة الثانوية. المجلة المصرية للدراسات النفسية [online] 50(1). Available at: https://ejcj.journals.ekb.eg/article_118130_d73781066889e96752d02a12565c4761.pdf [Accessed 29 November 2024].
    ● دوماس زكي، إ. (2023). الخصائص السيكومترية لمقياس أنماط التعلق الوجداني للراشدين. مجلة كلية التربية، جامعة عين شمس، العدد 47 (الجزء الأول). متاح على: https://jfeps.journals.ekb.eg/article_297830_45f1360b6f486a342c39a58d98c9de1d.pdf (جرى الوصول إليه في: 29 نوفمبر 2024).
    ● Travers, M. (2024). A psychologist reveals the most secretive attachment style. Forbes. 21 فبراير 2024. متاح على: https://www.forbes.com/sites/traversmark/2024/02/21/a-psychologist-reveals-the-most-secretive-attachment-style/ [Accessed 29 Nov. 2024].
    ● المصدر: الغامدي، أ. م. (2020). الوحدة النفسية وعلاقتها بالأفكار اللاعقلانية لدى طالبات المرحلة الثانوية في منطقة الباحة. مجلة كلية التربية، جامعة المنصورة، العدد 110، أبريل 2020. متاح على: https://journals.ekb.eg/article_158021_9b33d881235f073ad8e5197ad556e954.pdf .
    ● Smith, J. and VICE Staff, 2014. ‘I Never Saw Him Drunk’: An Interview with Bukowski’s Longtime Publisher. VICE. 20 June. Available at: https://www.vice.com/en/article/bukowskis-longtime-publisher-i-never-saw-him-drunk [Accessed 29 Nov. 2024].
    ● Czernianin, J., 1997. Psychological Aspects of the Creative Process. [pdf] Available at: http://www.pjap.psychologia.uni.wroc.pl/sites/default/files/Czernianin.pdf [Accessed 29 Nov. 2024].
    ● Stupin-Rzońca, 1997. Aesthetic Perspective in Poetry and Film. [pdf] Available at: https://www.eajournals.org/wp-content/uploads/Aesthetic-Perspective-In-Poetry-Film.pdf [Accessed 29 Nov. 2024].
    ● بدرخان، ع. (مترجم). (2017). وحيدًا في حضرة الجميع: قصائد مختارة. عمّان: دار فضاءات للنشر والتوزيع.
    ● HarperCollins, 2024. Love Is a Dog from Hell by Charles Bukowski. [online] Available at: https://www.harpercollins.com/products/love-is-a-dog-from-hell-charles-bukowski?variant=40969277538338 [Accessed 29 Nov. 2024].

  • [1] (ريان، مايك. (٢٠١٤، لا أمل، فقط/ الخمر والجنون": الربط بين الاغتراب الاجتماعي وإدمان الكحول في رواية السير الذاتية لتشارلز بوكوفسكي".
  • [2] سامويلسون، كايل آر، ٢٠١٣، "صراع الذات: بوكوفسكي يتلاعب ويتحول ويفشل في النهاية في ترسيخ هويته".
  • [3] (ريان، مايك. (٢٠١٤، لا أمل، فقط/ الخمر والجنون": الربط بين الاغتراب الاجتماعي وإدمان الكحول في رواية السير الذاتية لتشارلز بوكوفسكي". سامويلسون، كايل آر، ٢٠١٣، "صراع الذات: بوكوفسكي يتلاعب ويتحول ويفشل في النهاية في ترسيخ هويته". نبذة عن الكاتب: هنري تشارلز بوكوفسكي Charles Bukowski أمريكي من أصل ألماني، ولد في ١٦ أغسطس ١٩٢٠ في مدينة آندرناخ بألمانيا. وتوفي في ٩ مارس ١٩٩٤. وهو مؤلف أمريكي اشتهر باستخدامه اللغة المباشرة والوصفية المفصّلة في الشعر والرواية، التي تصور النضال من أجل البقاء على قيد الحياة في مجتمع فاسد ومنكوب. وفقًا لـبول كليمنتس، "يُعد بوكوفسكي واقعيًا اجتماعيًا؛ حيث يرى أن الفقر والقمع والوحشية هي الطبيعة الحقيقية للعالم. وكغريب اجتماعي، كان يعيش في عزلة، ويكتب عن النضال والويلات وعدم الانسجام في المجتمع" .Stupin-Rzońca, 1997. دار هاربر كولنز، ١٩٧٧م، ديوان الحب كلب من الجحيم. ترجمة بدرخان، ٢٠١٧.
  • [4] دار هاربر كولنز، ١٩٧٧م، ديوان الحب كلب من الجحيم.
  • [5] ترجمة بدرخان، ٢٠١٧.