سلافه الشريف
المقدمة
تعرّف موسوعة بريتانيكا الوحدة النفسية بأنها: تجربة مؤلمة تحدث عندما يعتبر الشخص أن علاقاته الاجتماعية أقل من المرغوب فيها من حيث الكمية، وخاصةً من حيث الجودة. تجربة الوحدة ذاتية للغاية؛ يمكن للفرد أن يكون بمفرده دون أن يشعر بالوحدة، ويمكن أن يشعر بالوحدة حتى عندما يكون مع أشخاص آخرين (بريتانيكا، ٢٠٢٤). وقد برزت الوحدة منذ القدم في مخيلتنا الاجتماعية عبر الأدب والفلسفة والفن، التي تُعدّ مشكلة عالمية، وهي أهم أسباب مشكلات السلوك الإنساني في مجتمعات العالم المعاصر.
وكما أن النفس تصنع الأدب، وكذلك الأدب يصنع النفس فإن هذه الدراسة تهدف إلى قراءة ديوان الحب كلب من الجحيم قراءة نفسية، مع تسليط الضوء على العلاقة بين الحب والوحدة، وتحليل العلاقة بين الجحيم، والحب والكلب في الرؤية الشعرية للكاتب، كما يسعى إلى الإجابة عن التساؤل الآتي: ما الصراع الذي تواجهه الذات الشاعرة؟
تحلل الدراسة قصيدة (وحيدًا في حضرة الجميع)، وُتطبق المنهج النفسي عليها؛ لاستخلاص الظواهر النفسية والصراعات عند الذات الشاعرة، والأسباب الخفية وراء هذا الصراع عبر استعراض السيرة الذاتية للكاتب والعقدة النفسية، إذ تجسد عزلة بوكوفسكي ورغبته في الهروب من الآخرين وسيلة لحماية نفسه من الألم النفسي الناتج عن العلاقات السلبية، ما يعزز الفجوة النفسية والشعور بالوحدة الذي يرافقه. هذه التجارب توضح كيف أن التجارب القاسية تترك آثارًا عميقة في قدرة الفرد على التفاعل الاجتماعي وتكوين روابط صحية مع الآخرين.
اختُيرت هذه القصيدة لأنها تعكس معاناة الوحدة التي قد يشعر بها الإنسان وسط الازدحام الاجتماعي، بتعبيرها عن الصراع الداخلي الذي يعيشه البعض في مجتمع لا يتفهم دواخلهم. أما اختيار الكاتب، فكان بسبب أسلوبه الفريد في التعبير عن الهامشية والتمرد على القواعد الاجتماعية. فكتاباته تتسم بالصدق القاسي، والمباشرة التي تكشف عن الجوانب المظلمة والمعقدة في النفس البشرية، مما يجعلها تلامس القلب والعقل معًا.
الدراسات السابقة
تناولت عديد من الدراسات كتابات بوكوفسكي، منها دراسة ركزت على الاغتراب الاجتماعي والإدمان في أعماله، حيث يُربط الاغتراب بإدمان الكحول، ويُظهر الخمر والجنون كوسيلتين للهروب من الواقع الاجتماعي والنفسي [1]. وفي سياق آخر، سلطت دراسة الضوء على صراع الذات في روايات بوكوفسكي [2]. في كلا السياقين، قدمت الدراستان صورة قاتمة عن التهميش الاجتماعي والصراع الداخلي؛ حيث تظل الشخصيات عالقة في دوامة من البحث عن الذات دون أن تصل إلى إجابة نهائية.
نبذة عن الديوان
ديوان الحب كلب من الجحيم هو استكشاف خام وشِعري لضرورات الحب، وآلامه، وحدوده.
ما بين القسوة واللطف، الحساسية والشجاعة، يكشف بوكوفسكي[3] عن جوانب لا تُعد ولا تحصى من الحب في أنانيته ونرجسيته، عشوائيته، غموضه، بؤسه، وكل ما فيه من بهجة حقيقية، وتحمل، وقوة تعويضية.
هكذا تصف دار النشر هاربر كولينز الديوان الذي نشرته عام ١٩٧٧م، ويحوي ١٦٠ قصيدة في ٣٠٥ صفحة (HarperCollins, 2024).
نبذة عن الكاتب
هنري تشارلز بوكوفسكي (Charles Bukowski) أمريكي من أصل ألماني، ولد في ١٦ أغسطس ١٩٢٠ في مدينة آندرناخ بألمانيا. وتوفي في ٩ مارس ١٩٩٤. وهو مؤلف أمريكي اشتهر باستخدامه اللغة المباشرة والوصفية المفصّلة في الشعر والرواية، التي تصور النضال من أجل البقاء على قيد الحياة في مجتمع فاسد ومنكوب. وفقًا لـبول كليمنتس، "يُعدّ بوكوفسكي (واقعيًا اجتماعيًا)؛ حيث يرى أن الفقر والقمع والوحشية هي الطبيعة الحقيقية للعالم. وكغريب اجتماعي، كان يعيش في عزلة، ويكتب عن النضال والويلات وعدم الانسجام في المجتمع: (Stupin-Rzońca, 1997).
قصيدة وحيدًا في حضرة الجميع
النص الأصلي بالإنجليزية
Alone With Everybody
the flesh covers the bone
and they put a mind
in there and
sometimes a soul,
and the women break
vases against the walls
and the men drink too
much
and nobody finds the
one
but keep
looking
crawling in and out
of beds.
flesh covers
the bone and the
flesh searches
for more than
flesh.
there's no chance
at all:
we are all trapped
by a singular
fate.
nobody ever finds
the one.
the city dumps fill
the junkyards fill
the madhouses fill
the hospitals fill
the graveyards fill
nothing else
fills.[4]
وحيدًا… في حضرة الجميع
اللحم يكسو العظم
ويضعون عقلًا هناك
و -أحيانًا- روحًا،
والنساء يكسرن المزهريات على الجدران
والرجال يسرفون بالشرب
ولا أحد يجد شريك أحلامه،
لكنهم يواصلون البحث
زاحفين من الأسرة وإليها،
اللحم يكسو العظم
واللحم لا يكتفي باللحم فحسب.
لا أمل لنا.. بتاتًا،
جميعنا غارقون في فخِّ مصيرٍ أوحد.
لا أحد، لا أحد أبدًا
سيجد شريك أحلامه.
امتلأتِ المزابل
امتلأت مكبات الخردة
امتلأت مشافي المجانين
امتلأتِ المستشفيات
امتلأتِ المقابر
لم يبق شيءٌ آخر ليمتلئ [5].
عن القصيدة
شعر مرسل تيمته الوحدة، فكرته الرئيسة تدور حول العزلة الوجودية للإنسان في سياق مجتمعي معاصر؛ حيث يعاني البشر من الافتقار إلى الاتصال الحقيقي رغم كثرتهم المادية. من خلال سلسلة من الأفعال والصور البلاغية التي تحمل معاني العنف، واللا معنى، والفشل المستمر، يرسم الشاعر صورة قاتمة لوجود الإنسان الذي يظل عالقًا في دائرة البحث عن الإشباع العاطفي بينما يواجه فشلًا دائمًا في إيجاد أي علاقة أو هدف يملأ فراغه الداخلي. يأتي ذلك متسقًا مع انفراد شخصية الشاعر في النص، في زمنٍ غير محدد إلا أن الأفعال فيه تبدو مستمرة في الحدوث في أماكن متعددة.
عناصر القصيدة
بدأ الشاعر قصيدته بالإنسان من خلال أبعاده المادية، ممثلة في "اللحم والعظم"، ما يعكس رؤية محدودة للجسد بعدّه مجرد هيكل مادي خالٍ من الأبعاد الروحية أو العقلية. هذه البداية تثير تساؤلات حول دور الجسد في تشكيل الهوية الإنسانية، خاصةً أن الشاعر يشير إلى أن الجسد هو الذي يحرك الإنسان قبل أن يتدخل العقل في توجيهاته أو بحثه عن ذاته. تكرار التركيز على "اللحم والعظم" قد يُفهم على أنه تقليل من قيمة الجسد وتحويله إلى مجرد أداة شهوانية؛ حيث يظل الإنسان محكومًا بالرغبات الجسدية التي تغيب العقل وتغطي على الروح.
هذه النظرة للجسد تتصاعد لتؤدي إلى حالة من التشتت الداخلي؛ حيث يجد الفرد نفسه عالقًا في دورة من الرغبات الجسدية التي لا تفضي إلى إشباع حقيقي. فالبحث المستمر عن الإشباع العاطفي عبر الجسد يظل غير مجدٍ، مما يعكس الفشل المستمر في العثور على معنى أو اتصال حقيقي مع الآخرين. الشاعر بذلك يعكس فكرة أن الذات، وسط هذه الفوضى الجسدية والعاطفية، لا تستطيع أن تجد مكانها أو هويتها الحقيقية، ويظل الإنسان عالقًا في وحدة وعبث دائمين، حتى وإن كان يبحث عن التحقق العاطفي والروحي. وحين يقول "ويضعون عقلًا هناك"، فيمكننا فهم أن العقل ليس جزءًا جوهريًا أو طبيعيًا في تكوين الإنسان، بل هو شيء يتم "وضعه" أو إضافته، كأن العقل هو شيء مفروض أو خارجي عن الذات الحقيقية. هذا التعبير يعكس فكرة أن العقل قد يُعدّ أحيانًا أداة تُستعمل في محاولة فهم الحياة واتخاذ القرارات، ولكنه ليس العنصر الذي يحدد الهوية الحقيقية للإنسان. العقل في هذه الحالة يُوضع في مكان ما، كما لو أنه عنصر يمكن استنساخه أو إضافته عندما يكون الإنسان بحاجة إليه.
وحينما يكمل: "وأحيانًا روحًا"، فإنه يبرز التباين بين الجسد والعقل والروح في حياة الإنسان. الجملة تُعبر عن رؤية الشاعر لكيفية تقليص الإنسان إلى كائن مادي بحت؛ حيث يكون "اللحم يكسو العظم" في إشارة إلى التركيز على الجوانب المادية والظاهرية للوجود. لكن، في بعض الأحيان، يُمنح الإنسان "عقلًا" و"روحًا"، وهذه الإضافة تعكس لحظات تكون فيها الذات أكثر عمقًا واتصالًا بالمعاني والوجود الروحي أو العقلاني.
لكن استخدام "وأحيانًا" يبرز تناقضًا في الحياة البشرية: ففي بعض اللحظات قد يشعر الإنسان أنه متصل بروحه وعقله، أما في أحيان أخرى، فيكون غارقًا في الجوانب المادية والمحدودة لجسده. هذا يعني أن الشاعر يلاحظ حالة تناقض في الإنسان؛ حيث في فترات معينة يكون أقرب إلى ما هو مادي، وفي أخرى قد يلامس أبعاده الروحية والعقلية.
إضافة "وأحيانًا" أيضًا تُظهر عدم الثبات في هذه الحالة الإنسانية، مما يعكس الصراع الداخلي الذي يعانيه الإنسان بين الوجود المادي والتوق إلى الروحانية أو العقلانية. وهذا التباين يمكن أن يكون مصدرًا للشعور بالضياع أو الوحدة، كما يُحس الشاعر في النص؛ حيث يفصل بين الوجود الفعلي والوجود الروحي في صراع مستمر.
يتناول تباين الجنسين، حيث تمارس النساء كسر المزهريات، ويحاول الرجال الهروب إلى الخمر بحثًا عن إشباع معنوي، بحثًا ربما عن راحة للروح وهروبًا من سجن اللحم والعظم الذي تضيق به الروح فتغادر صاحبها فيضيع، إلا أن هذا كله يبقى غير مجدٍ. يعكس الشاعر، عبر تكرار الفشل في إيجاد شريك أحلامه، الوحدة بوصفها حتمية بشرية، وأن البحث المستمر عن الإشباع العاطفي لا يؤدي إلا إلى المزيد من الفراغ. في النهاية، تؤكد القصيدة أن كل محاولات الإنسان لتحقيق معنى أو اتصال حقيقي تؤول إلى اللاجدوى، حيث الامتلاء لا يحقق الإشباع، ويبقى الإنسان عالقًا في دائرة من العزلة والعبث. وبإمكاننا تجزئة عناصر النص كالآتي:
1- العنوان: "وحيدًا… في حضرة الجميع"
العنوان يُحيل مباشرة إلى التوتر بين العزلة والتجمع؛ حيث العزلة الذاتية تقع وسط الكثرة الاجتماعية. هذا التناقض بين الوحشة والوجود الجماعي هو الموضوع الرئيس الذي يستعرضه الشاعر. العنوان يُثير تساؤلًا حول إمكانية العيش في محيط مليء بالناس دون أن يكون هناك تواصل حقيقي بين الأفراد.
2- التمهيد البنائي:
يبدأ النص بتفصيلات عضوية متعلقة بتكوين الإنسان:
● "اللحم يكسو العظم": هذه العبارة تشير إلى التصاق الجسد المادي بمكوناته الأساسية، في حركة متكررة. فالجسد، رغم مظاهره الخارجية، يظل هشًا في جوهره. كما أن التكرار هنا يعبّر عن الدوامة الوجودية التي يتكرر فيها الإنسان في محاولاته لبناء ذاته، لكنه يظل محكومًا بجسده.
● "ويضعون عقلًا هناك وأحيانًا روحًا": العقل والروح هنا هما الوجهان الأعمق للإنسان. العقل، الذي من المفترض أن يمنح الإنسان القدرة على التفكير والتحليل، والروح، التي تمثل الجانب الوجودي والروحي للإنسان. لكن الشاعر يشير إلى أن هذين العنصرين قد يوضعان "هناك"، أي أنهما قد يصبحان جانبًا مكملًا غير فعّال أو مجرد "مضاف" إلى الجسد، مما يعكس الروح العاجزة التي لا تجد لها مكانًا حقيقيًا في هذا الوجود.