هند شفيع
المقدمة
في العصر الحديث؛ حيث تهيمن التكنولوجيا على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، أصبح من الصعب تجاهل التأثيرات العميقة التي قد تحدثها هذه التقنيات في الإنسان والمجتمع. فقد دفع التقدم التكنولوجي السريع إلى إعادة تشكيل الهوية الإنسانية، مع فرض ضغوط متزايدة على الأفراد والجماعات فيما يتعلق بحريتهم، ومكانتهم داخل النظام الاجتماعي. في هذا السياق، برزت العديد من الأصوات النقدية التي تناولت الآثار السلبية للتكنولوجيا، ومن أبرز هذه الأصوات كان تيد كازنسكي، المعروف ببيانه الشهير المجتمع الصناعي ومستقبله. لكن على الرغم من أهمية هذا البيان النقدي، فقد تعرضت أفكار كازنسكي لتهميش كبير؛ حيث قُدّمت في كثير من الأحيان كنتاج لحالة نفسية أو اضطراب عقلي، مما أدى إلى غموض في فهم الجوانب السياسية والاجتماعية لانتقاداته.
يتجلى هذا التهميش فيما يُعرف بمفهوم ""The medicalization "طبنة الانحراف" وهي العملية التي تُصوّر من خلالها المشكلات أو السلوكيات أو الظروف الاجتماعية على أنها ناجمة عن مرض أو اعتلال؛ أي أنها تُعرَّف على أنها مشكلات طبية، بدلًا من عدّها قضايا اجتماعية أو سياسية تستحق التحليل النقدي. ووفقًا لعالم الاجتماع كونراد، فإن "المفتاح في عملية طبية الانحراف يكمن في القضية التعريفية. طبية الانحراف تتضمن تعريف المشكلة بمصطلحات طبية، واستخدام اللغة الطبية لوصف المشكلة، وتبني إطار طبي لفهمها" (Conrad. 1992: 211) ما يؤثر في فهم المجتمع للمشكلة وطريقة استجابته لها.
ومن الشواهد على ذلك، كيف قامت وسائل الإعلام، مثل: نيويورك تايمز، بتقديم نقد كازنسكي على أنه مجرد تعبير عن مرض نفسي؛ حيث صُوّر في تقاريرها الأولى على أنه "يهاجم الشياطين" في ذهنه، وهو ما ينزع منه أبعاد الانتقاد السياسي والفلسفي العميق. وفي مقال آخر، بالرغم من ذكر أيديولوجية كازنسكي، جرى تجنب التعاطي الجاد مع دوافعه السياسية، واقتصر على تقديمه كفرد يعاني من صراع داخلي بدلًا من كونه ناشطًا سياسيًا يحمل مشروعًا فكريًا ثوريًا (Long-running Unabom, 1995).
وعلى الرغم من التهميشات التي قوبل بها نقد كازنسكي فإن أطروحات مشابهة تجد لها صدى في أطر نقدية أخرى، خصوصًا في مجال النظرية النقدية الاجتماعية، فمن خلال مقارنة أفكار كازنسكي مع رواد النظرية النقدية الاجتماعية، مثل: ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في كتاب جدلية التنوير يظهر التشابه في التحذيرات من الآثار السلبية للتقدم التكنولوجي في ظل المجتمع الصناعي. فكما أشار هوركهايمر وأدورنو إلى أن التقدم التكنولوجي قد يؤدي إلى تدمير الإنسان من خلال هيمنة العقل الأداتي الذي يُقلص إمكانيات التفكير النقدي والحرية الفردية، (هوركهايمر، أدورنو.2006) فإن كازنسكي يتناول القضايا نفسها، محذرًا من أن التكنولوجيا تمثل تهديدًا متزايدًا للحرية الإنسانية والتنوع الفردي، كما أن نقد كازنسكي لدور التكنولوجيا في مركزة السلطة والسيطرة يتوازى مع أفكار الفيلسوف هربرت ماركوزه، الذي اعتقد أن التقدم التكنولوجي، على الرغم من وعوده بتحقيق "التحرر"، يؤدي في الواقع إلى تقليص الحرية الفردية من خلال زيادة هيمنة الأنظمة التكنولوجية على الأفراد (ماركوزه.1988).
من جهة أخرى، فقد رفض بعض المفكرين محاولة اختزال أفكار كازنسكي إلى مجرد أعراض مرضية. في هذا السياق، نجد أن عالم السياسة جيمس كيو. ويلسون، في مقاله في نيويورك تايمز، يشير إلى أن المجتمع الصناعي ومستقبله لا يمكن عدّه مجرد عمل غير عقلاني أو غير منظم، بل إن لغة البيان واضحة ودقيقة وهادئة، وإن حجته مُنظمة ومتطورة، ولا تحتوي على أي ادعاءات غير عقلانية أو غير منطقية قد يصدرها شخص مريض (Wilson, 1998). ويضيف ويلسون أن العديد من الفلاسفة السياسيين، مثل: جان جاك روسو، وتوماس باين، وكارل ماركس، قد كتبوا أفكارًا قد يُنظر إليها اليوم في بعض السياقات على أنها متطرفة أو غير عقلانية، مما يضع أفكار كازنسكي في إطار نقدي لا يقل عقلانية عن أعمال هؤلاء المفكرين. من خلال هذا المنظور، يمكن رؤية نقد كازنسكي للمجتمع الصناعي كتحدي سياسي عقلاني وليس مجرد رد فعل مريض أو غير منطقي، مما يعزز من أهمية إعادة تقييم أفكاره في سياق نقد اجتماعي وسياسي أوسع.
بناءً عليه، يسعى هذا البحث إلى إعادة طرح أفكار كازنسكي ضمن منظور نقد اجتماعي شامل، مستخدمًا منهجية تحليل الخطاب للكشف عن الثيمات الاجتماعية في تحليله.
مشكلة الدراسة
على الرغم من أن كتابات عديدة تناولت حياة تيد كازنسكي وجرائمه، إلا أن فكره النقدي المتمثل في بيانه المجتمع الصناعي ومستقبله لا يزال بعيدًا عن النقاش الأكاديمي المعمق. ورغم أن البيان يقدم نقدًا لاذعًا للمجتمع الصناعي وتأثيره المدمر في الإنسانية، إلا أن الباحثين من منظّري الفكر السياسي والنقاد الاجتماعيين لم يولوه اهتمامًا كافيًا، تاركين أفكاره حول التبعات الاجتماعية والنفسية للتقدم التكنولوجي غير مدروسة بشكل وافٍ.
ومن هذا المنطلق تهدف هذه الورقة إلى استكشاف الثيمات الأساسية في بيان كازنسكي من منظور نقد اجتماعي، مركزًا على تأثيرات المجتمع الصناعي في الهوية الإنسانية، وفقدان المعنى، وسيطرة النظام على الأفراد نفسيًا وبيولوجيًا. من خلال منهجية تحليل الخطاب، يركز هذا البحث على تحليل لغة النص وأسلوبه في توصيل أفكاره، بغرض الكشف عن أبعاد نقده التي تسعى إلى فضح آثار التكنولوجيا في كينونة الإنسان وحريته.
أهمية الدراسة
تكتسب هذه الدراسة أهميتها من تسليط الضوء على كتاب المجتمع الصناعي ومستقبله لتيد كازنسكي، الذي يُعدّ من أكثر النصوص إثارة للجدل في نقد المجتمع الصناعي الحديث وتأثير التكنولوجيا المتسارع، باستخدام منهج تحليل الخطاب؛ بهدف استكشاف الثيمات الرئيسة التي يعبر عنها الكتاب، مثل: الهوية والمعنى والتنمية غير الصديقة للإنسان، والسيطرة النفسية والبيولوجية للنظام الصناعي على الأفراد.
تمثل هذه الدراسة مساهمة مهمة في فهم كيف يمكن أن تؤدي بعض مظاهر التقدم الصناعي إلى تهديد هوية الإنسان وحرية اختياره، مسلطة الضوء على الكيفية التي تخلق بها الآليات الحديثة أنظمة تحكم تحد من استقلالية الفرد.
كذلك، تُسهم هذه الدراسة في النقاشات المعاصرة حول العلاقة بين التكنولوجيا والهوية الإنسانية، وتوفر رؤى نقدية حول التنمية المستدامة والآثار النفسية والاجتماعية للصناعة الحديثة، مما يساعد على توسيع الفهم لأبعاد التحديات التي يواجهها الإنسان في المعاصر.
الأسئلة والأهداف
● كيف يعبّر النص عن غياب القدرة على تحقيق الذات عند الأفراد في المجتمع الصناعي؟
● كيف يعبّر النص عن فكرة التنمية غير الصديقة للإنسان؟
● كيف يعبّر النص عن فقدان المعنى والقيمة في حياة الإنسان كنتيجة للتقدم الصناعي؟
المنهجية
تحليل الخطاب.
حدود الدراسة
الحدود الزمانية: العصر الحديث.
الحدود المكانية: مختارات من كتاب المجتمع الصناعي ومستقبله.
الهيكل
المبحث الأول: غياب القدرة على تحقيق الذات.
المبحث الثاني: التنمية غير الصديقة للإنسان.
المبحث الثالث: الهوية والمعنى.
النص
"٣٣- يفتقر البشر (استنادًا إلى علم البيولوجيا) إلى ما نسميه بعملية السلطة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحاجة إلى القوة (وهو أمر معترف به على نطاق واسع)، بمستويات متفاوتة. تحتوي عملية السلطة أربعة عناصر: الهدف والجهد وتحقيق الهدف التي تعد العناصر الأكثر وضوحًا. يحتاج كل منا إلى تحديد أهدافه التي يتطلب تحقيقها إلى بذل الجهد، ويحتاج إلى النجاح في تحقيق بعض أهدافه (أما العنصر الرابع فهو الأكثر صعوبة لتحديد ماهيته وقد لا يكون ضروريًا للجميع نسميه الحكم الذاتي أو الاستقلالية، وستناقشه لاحقًا. (انظر الفقرات ٤٢-٤٤).
٥٩ - نقسم دوافع الإنسان إلى ثلاث مجموعات: (1) الدوافع التي يمكن إرضاؤها بأقل جهد ممكن؛ (۲) الدوافع التي يمكن إرضاؤها بعد بذل جهود جبارة متقنة؛ و(۳) الدوافع التي لا يمكن إرضاؤها بغض النظر عن مقدار الجهد الذي يبذله المرء. تًعدّ عملية السلطة تلبية لدوافع المجموعة الثانية. وكلما زادت دوافع المجموعة الثالثة، زاد الإحباط والغضب، إلى أن يصل إلى مستوى الانهزامية والابتئاس... إلخ. في المجتمع الصناعي الحديث، تميل الدوافع البشرية الطبيعية إلى المجموعتين الأولى والثالثة، بينما تتجه المجموعة الثانية إلى أن تتكون تدريجيًا من الدوافع الاصطناعية.
٥٧ - نعتقد أن الاختلاف يكمن في أن الإنسان المعاصر يشعر بأن التغيير مفروض عليه (تبرير مقبول إلى درجة معينة)، في حين أن الأميركي المقيم في المناطق الحدودية في القرن التاسع عشر، يشعر بأنه أوجد التغيير (تبرير مستحسن، عبر اختياراته، حيث استقر السكان الأوائل في منطقة ما واختاروا قطعة أرض وحولوها إلى مزرعة بجهودهم الخاصة في تلك الأيام، وصل عدد المقيمين في ولاية أميركية بأسرها إلى بضع مئات فقط، وكانت أكثر عزلة واستقلالية من أي ولاية حديثة. شارك المزارعون الأوائل في تأسيس مجتمع جديد ومنظم كأعضاء ينتمون إلى مجموعة صغيرة نسبيًا. وقد يتساءل المرء فيما إذا كان إنشاء هذا المجتمع يمثل تغييرًا نحو الأفضل، لكنه على أي حال، استوفى حاجة الرواد الماسة إلى عملية السلطة.
٦٣- أنشئت احتياجات اصطناعية معينة ضمن المجموعة الثانية، وتلبي الحاجة إلى عملية السلطة. كما تطورت تقنيات الدعاية والتسويق التي تجعل الناس يشعرون بأنهم بحاجة إلى أشياء لم يرغب بها أجدادهم أو حتى يتمنوها. وتتطلب جهدًا رصينًا لاستحقاق ما يكفي من المال اللازم لجلب هذه الاحتياجات الاصطناعية، المصنفة في المجموعة الثانية (انظر الفقرات ۸۰-۸۲). ونتيجة لذلك، استوجب على إنسان الحداثة السعي وراء الاحتياجات الاصطناعية الناجمة عن صناعة الإعلان والتسويق والأنشطة البديلة، لتلبية حاجته إلى عملية السلطة.
٦٧- تتعطل عملية السلطة في مجتمعنا من خلال نقص الأهداف الحقيقية، ونقص الحكم الذاتي في متابعة الأهداف. تتعطل أيضًا بسبب الدوافع البشرية في المجموعة الثالثة: أي التي لا يمكن الاستجابة لها بغض النظر عن مقدار الجهد، مثل: دافع الحاجة إلى الأمن. تعتمد حياتنا على القرارات التي يتخذها أشخاص آخرون؛ نحن لا نسيطر على هذه القرارات، ولا نعرف من هم صناعها. ووفقًا لرأي فيليب بهايمان من كلية هارفارد للحقوق، المقتبس من أنطوني لويس في عدد صحيفة نيويورك تايمز الصادر بتاريخ ٢١ أبريل ١٩٩٥: نعيش في عالم يتخذ فيه القرارات المهمة عدد محدود من صناع القرار، يتراوح بين ٥٠٠ و ١٠٠٠ شخص. كما تعتمد حياتنا على مدى اتباع العاملين في محطات الطاقة النووية المعايير السلامة، كمية مبيدات الآفات المسموح بنفاذها إلى طعامنا، كمية تلوث الهواء، مدى مهارة الأطباء أو عدم كفاءتهم؛ ويعتمد حصولنا على وظيفة أو فقدانها على قرارات الاقتصاديين الحكوميين أو مديري الشركات التنفيذيين؛ وهكذا. لا يستطيع معظم الأفراد حماية أنفسهم من هذه التهديدات إلا في نطاق محدود. وبالتالي، يصاب الفرد الباحث عن الأمان بخيبة أمل، مما يؤدي إلى الشعور بالعجز والضعف.
٧٣- لا ينظم السلوك من خلال قواعد واضحة وأوامر حكومية فحسب، بل أيضًا عبر التحكم وممارسة الرقابة القسرية غير المباشرة، والضغط السيكولوجي، والتلاعب والمنظمات غير الحكومية، ومختلف مؤسسات النظام. تستخدم معظم المنظمات الضخمة شكلًا من أشكال الدعاية للتلاعب بالمواقف والسلوك العام. ولا تقتصر الدعاية على الإعلانات التجارية والملصقات، بل أحيانًا تصاغ الدعاية دون وعي من صناعها، فعلى سبيل المثال: يُعدّ محتوى البرامج الترفيهية شكلًا قويًا من أشكال الدعاية. ومثال على الإكراه غير المباشر: لا يوجد قانون ينص على ضرورة الذهاب إلى العمل يوميًا وتنفيذ أوامر المسؤولين. ولا يوجد ما يمنعنا قانونيًا من العيش في البرية مثل البدائيين أو بدء مشروع خاص. لكن من الناحية العملية، فإن المناطق البرية محدودة، والاقتصاد يحدد مجالًا محدودًا لأصحاب المشاريع الصغيرة، وإذن فلا نستطيع العمل إلا كموظفين عاديين (كازنسكي، 2020).
يأتي الخطاب في ثلاث أفكار رئيسة مترابطة كما لو أنه ينطلق من نص نظرية مرورًا بشواهدها وانتهاءً بنتائجها:
غياب عملية السلطة التي تتمثل في القدرة على تحقيق الأهداف والدوافع (غياب القدرة على تحقيق الذات)؛ بسبب التحكم الذي يهدف إلى تكريس النظام على حساب مصلحة الإنسان (التنمية غير الصديقة) مما يسلب من الإنسان شعوره بالحرية والمعنى ويصيبه العجز والاغتراب (غياب المعنى كنتيجة)، وسنتناول كل ثيمة لنجيب عن أسئلة البحث.
(غياب القدرة على تحقيق الذات) كيف يعبّر النص عن غياب القدرة على تحقيق الذات عند الأفراد في المجتمع الصناعي؟
يستهل النص بتوضيح احتياجات الإنسان ودوافعه الأساسية ليُعرِّف نوعًا خاصًا منها تحت مصطلح "عملية السلطة"، والاصطلاح هنا يؤدي وظيفة في تركيز وتوجيه ومحورة الخطاب حول هذه الفكرة، إضافة إلى إضفاء الطابع العلمي والمنهجي، ما يمنحها وزنًا أكبر ويُعزز من حضورها في ذهن القارئ. فبدلًا من الاكتفاء بالإشارة إلى رغبة الإنسان الطبيعية في التحكم، يُصاغ المفهوم ليبدو وكأنه عملية مستمرة ومتكاملة، لها عناصر ومراحل مترابطة: تحديد الأهداف، بذل الجهد لتحقيقها، والنجاح في ذلك. إضافة إلى أن استخدام كلمة "عملية" يُبرز هذا التحكم كمسار ديناميكي وضروري لاستمرار الحياة النفسية والاجتماعية للفرد. بينما يُبرز ارتباطها بكلمة "السلطة" البُعد الغريزي العميق لهذه الحاجة، موحيًا بأنها ليست ترفًا أو خيارًا، بل أساسًا لا يمكن تجاوزه في تكوين الإنسان. هذه الصياغة تُعطي الفكرة طابعًا شاملًا