النقد الاجتماعي في كتاب (المجتمع الصناعي ومستقبله) من منظور تحليل الخطاب

هند شفيع

المقدمة

في العصر الحديث؛ حيث تهيمن التكنولوجيا على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، أصبح من الصعب تجاهل التأثيرات العميقة التي قد تحدثها هذه التقنيات في الإنسان والمجتمع. فقد دفع التقدم التكنولوجي السريع إلى إعادة تشكيل الهوية الإنسانية، مع فرض ضغوط متزايدة على الأفراد والجماعات فيما يتعلق بحريتهم، ومكانتهم داخل النظام الاجتماعي. في هذا السياق، برزت العديد من الأصوات النقدية التي تناولت الآثار السلبية للتكنولوجيا، ومن أبرز هذه الأصوات كان تيد كازنسكي، المعروف ببيانه الشهير المجتمع الصناعي ومستقبله. لكن على الرغم من أهمية هذا البيان النقدي، فقد تعرضت أفكار كازنسكي لتهميش كبير؛ حيث قُدّمت في كثير من الأحيان كنتاج لحالة نفسية أو اضطراب عقلي، مما أدى إلى غموض في فهم الجوانب السياسية والاجتماعية لانتقاداته.

يتجلى هذا التهميش فيما يُعرف بمفهوم ""The medicalization "طبنة الانحراف" وهي العملية التي تُصوّر من خلالها المشكلات أو السلوكيات أو الظروف الاجتماعية على أنها ناجمة عن مرض أو اعتلال؛ أي أنها تُعرَّف على أنها مشكلات طبية، بدلًا من عدّها قضايا اجتماعية أو سياسية تستحق التحليل النقدي. ووفقًا لعالم الاجتماع كونراد، فإن "المفتاح في عملية طبية الانحراف يكمن في القضية التعريفية. طبية الانحراف تتضمن تعريف المشكلة بمصطلحات طبية، واستخدام اللغة الطبية لوصف المشكلة، وتبني إطار طبي لفهمها" (Conrad. 1992: 211) ما يؤثر في فهم المجتمع للمشكلة وطريقة استجابته لها.

ومن الشواهد على ذلك، كيف قامت وسائل الإعلام، مثل: نيويورك تايمز، بتقديم نقد كازنسكي على أنه مجرد تعبير عن مرض نفسي؛ حيث صُوّر في تقاريرها الأولى على أنه "يهاجم الشياطين" في ذهنه، وهو ما ينزع منه أبعاد الانتقاد السياسي والفلسفي العميق. وفي مقال آخر، بالرغم من ذكر أيديولوجية كازنسكي، جرى تجنب التعاطي الجاد مع دوافعه السياسية، واقتصر على تقديمه كفرد يعاني من صراع داخلي بدلًا من كونه ناشطًا سياسيًا يحمل مشروعًا فكريًا ثوريًا (Long-running Unabom, 1995).

وعلى الرغم من التهميشات التي قوبل بها نقد كازنسكي فإن أطروحات مشابهة تجد لها صدى في أطر نقدية أخرى، خصوصًا في مجال النظرية النقدية الاجتماعية، فمن خلال مقارنة أفكار كازنسكي مع رواد النظرية النقدية الاجتماعية، مثل: ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في كتاب جدلية التنوير يظهر التشابه في التحذيرات من الآثار السلبية للتقدم التكنولوجي في ظل المجتمع الصناعي. فكما أشار هوركهايمر وأدورنو إلى أن التقدم التكنولوجي قد يؤدي إلى تدمير الإنسان من خلال هيمنة العقل الأداتي الذي يُقلص إمكانيات التفكير النقدي والحرية الفردية، (هوركهايمر، أدورنو.2006) فإن كازنسكي يتناول القضايا نفسها، محذرًا من أن التكنولوجيا تمثل تهديدًا متزايدًا للحرية الإنسانية والتنوع الفردي، كما أن نقد كازنسكي لدور التكنولوجيا في مركزة السلطة والسيطرة يتوازى مع أفكار الفيلسوف هربرت ماركوزه، الذي اعتقد أن التقدم التكنولوجي، على الرغم من وعوده بتحقيق "التحرر"، يؤدي في الواقع إلى تقليص الحرية الفردية من خلال زيادة هيمنة الأنظمة التكنولوجية على الأفراد (ماركوزه.1988).

من جهة أخرى، فقد رفض بعض المفكرين محاولة اختزال أفكار كازنسكي إلى مجرد أعراض مرضية. في هذا السياق، نجد أن عالم السياسة جيمس كيو. ويلسون، في مقاله في نيويورك تايمز، يشير إلى أن المجتمع الصناعي ومستقبله لا يمكن عدّه مجرد عمل غير عقلاني أو غير منظم، بل إن لغة البيان واضحة ودقيقة وهادئة، وإن حجته مُنظمة ومتطورة، ولا تحتوي على أي ادعاءات غير عقلانية أو غير منطقية قد يصدرها شخص مريض (Wilson, 1998). ويضيف ويلسون أن العديد من الفلاسفة السياسيين، مثل: جان جاك روسو، وتوماس باين، وكارل ماركس، قد كتبوا أفكارًا قد يُنظر إليها اليوم في بعض السياقات على أنها متطرفة أو غير عقلانية، مما يضع أفكار كازنسكي في إطار نقدي لا يقل عقلانية عن أعمال هؤلاء المفكرين. من خلال هذا المنظور، يمكن رؤية نقد كازنسكي للمجتمع الصناعي كتحدي سياسي عقلاني وليس مجرد رد فعل مريض أو غير منطقي، مما يعزز من أهمية إعادة تقييم أفكاره في سياق نقد اجتماعي وسياسي أوسع.

بناءً عليه، يسعى هذا البحث إلى إعادة طرح أفكار كازنسكي ضمن منظور نقد اجتماعي شامل، مستخدمًا منهجية تحليل الخطاب للكشف عن الثيمات الاجتماعية في تحليله.

مشكلة الدراسة

على الرغم من أن كتابات عديدة تناولت حياة تيد كازنسكي وجرائمه، إلا أن فكره النقدي المتمثل في بيانه المجتمع الصناعي ومستقبله لا يزال بعيدًا عن النقاش الأكاديمي المعمق. ورغم أن البيان يقدم نقدًا لاذعًا للمجتمع الصناعي وتأثيره المدمر في الإنسانية، إلا أن الباحثين من منظّري الفكر السياسي والنقاد الاجتماعيين لم يولوه اهتمامًا كافيًا، تاركين أفكاره حول التبعات الاجتماعية والنفسية للتقدم التكنولوجي غير مدروسة بشكل وافٍ.

ومن هذا المنطلق تهدف هذه الورقة إلى استكشاف الثيمات الأساسية في بيان كازنسكي من منظور نقد اجتماعي، مركزًا على تأثيرات المجتمع الصناعي في الهوية الإنسانية، وفقدان المعنى، وسيطرة النظام على الأفراد نفسيًا وبيولوجيًا. من خلال منهجية تحليل الخطاب، يركز هذا البحث على تحليل لغة النص وأسلوبه في توصيل أفكاره، بغرض الكشف عن أبعاد نقده التي تسعى إلى فضح آثار التكنولوجيا في كينونة الإنسان وحريته.

أهمية الدراسة

تكتسب هذه الدراسة أهميتها من تسليط الضوء على كتاب المجتمع الصناعي ومستقبله لتيد كازنسكي، الذي يُعدّ من أكثر النصوص إثارة للجدل في نقد المجتمع الصناعي الحديث وتأثير التكنولوجيا المتسارع، باستخدام منهج تحليل الخطاب؛ بهدف استكشاف الثيمات الرئيسة التي يعبر عنها الكتاب، مثل: الهوية والمعنى والتنمية غير الصديقة للإنسان، والسيطرة النفسية والبيولوجية للنظام الصناعي على الأفراد.

تمثل هذه الدراسة مساهمة مهمة في فهم كيف يمكن أن تؤدي بعض مظاهر التقدم الصناعي إلى تهديد هوية الإنسان وحرية اختياره، مسلطة الضوء على الكيفية التي تخلق بها الآليات الحديثة أنظمة تحكم تحد من استقلالية الفرد.

كذلك، تُسهم هذه الدراسة في النقاشات المعاصرة حول العلاقة بين التكنولوجيا والهوية الإنسانية، وتوفر رؤى نقدية حول التنمية المستدامة والآثار النفسية والاجتماعية للصناعة الحديثة، مما يساعد على توسيع الفهم لأبعاد التحديات التي يواجهها الإنسان في المعاصر.

الأسئلة والأهداف

● كيف يعبّر النص عن غياب القدرة على تحقيق الذات عند الأفراد في المجتمع الصناعي؟

● كيف يعبّر النص عن فكرة التنمية غير الصديقة للإنسان؟

● كيف يعبّر النص عن فقدان المعنى والقيمة في حياة الإنسان كنتيجة للتقدم الصناعي؟

المنهجية

تحليل الخطاب.

حدود الدراسة

الحدود الزمانية: العصر الحديث.

الحدود المكانية: مختارات من كتاب المجتمع الصناعي ومستقبله.

الهيكل

المبحث الأول: غياب القدرة على تحقيق الذات.

المبحث الثاني: التنمية غير الصديقة للإنسان.

المبحث الثالث: الهوية والمعنى.

النص

"٣٣- يفتقر البشر (استنادًا إلى علم البيولوجيا) إلى ما نسميه بعملية السلطة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحاجة إلى القوة (وهو أمر معترف به على نطاق واسع)، بمستويات متفاوتة. تحتوي عملية السلطة أربعة عناصر: الهدف والجهد وتحقيق الهدف التي تعد العناصر الأكثر وضوحًا. يحتاج كل منا إلى تحديد أهدافه التي يتطلب تحقيقها إلى بذل الجهد، ويحتاج إلى النجاح في تحقيق بعض أهدافه (أما العنصر الرابع فهو الأكثر صعوبة لتحديد ماهيته وقد لا يكون ضروريًا للجميع نسميه الحكم الذاتي أو الاستقلالية، وستناقشه لاحقًا. (انظر الفقرات ٤٢-٤٤).

٥٩ - نقسم دوافع الإنسان إلى ثلاث مجموعات: (1) الدوافع التي يمكن إرضاؤها بأقل جهد ممكن؛ (۲) الدوافع التي يمكن إرضاؤها بعد بذل جهود جبارة متقنة؛ و(۳) الدوافع التي لا يمكن إرضاؤها بغض النظر عن مقدار الجهد الذي يبذله المرء. تًعدّ عملية السلطة تلبية لدوافع المجموعة الثانية. وكلما زادت دوافع المجموعة الثالثة، زاد الإحباط والغضب، إلى أن يصل إلى مستوى الانهزامية والابتئاس... إلخ. في المجتمع الصناعي الحديث، تميل الدوافع البشرية الطبيعية إلى المجموعتين الأولى والثالثة، بينما تتجه المجموعة الثانية إلى أن تتكون تدريجيًا من الدوافع الاصطناعية.

٥٧ - نعتقد أن الاختلاف يكمن في أن الإنسان المعاصر يشعر بأن التغيير مفروض عليه (تبرير مقبول إلى درجة معينة)، في حين أن الأميركي المقيم في المناطق الحدودية في القرن التاسع عشر، يشعر بأنه أوجد التغيير (تبرير مستحسن، عبر اختياراته، حيث استقر السكان الأوائل في منطقة ما واختاروا قطعة أرض وحولوها إلى مزرعة بجهودهم الخاصة في تلك الأيام، وصل عدد المقيمين في ولاية أميركية بأسرها إلى بضع مئات فقط، وكانت أكثر عزلة واستقلالية من أي ولاية حديثة. شارك المزارعون الأوائل في تأسيس مجتمع جديد ومنظم كأعضاء ينتمون إلى مجموعة صغيرة نسبيًا. وقد يتساءل المرء فيما إذا كان إنشاء هذا المجتمع يمثل تغييرًا نحو الأفضل، لكنه على أي حال، استوفى حاجة الرواد الماسة إلى عملية السلطة.

٦٣- أنشئت احتياجات اصطناعية معينة ضمن المجموعة الثانية، وتلبي الحاجة إلى عملية السلطة. كما تطورت تقنيات الدعاية والتسويق التي تجعل الناس يشعرون بأنهم بحاجة إلى أشياء لم يرغب بها أجدادهم أو حتى يتمنوها. وتتطلب جهدًا رصينًا لاستحقاق ما يكفي من المال اللازم لجلب هذه الاحتياجات الاصطناعية، المصنفة في المجموعة الثانية (انظر الفقرات ۸۰-۸۲). ونتيجة لذلك، استوجب على إنسان الحداثة السعي وراء الاحتياجات الاصطناعية الناجمة عن صناعة الإعلان والتسويق والأنشطة البديلة، لتلبية حاجته إلى عملية السلطة.

٦٧- تتعطل عملية السلطة في مجتمعنا من خلال نقص الأهداف الحقيقية، ونقص الحكم الذاتي في متابعة الأهداف. تتعطل أيضًا بسبب الدوافع البشرية في المجموعة الثالثة: أي التي لا يمكن الاستجابة لها بغض النظر عن مقدار الجهد، مثل: دافع الحاجة إلى الأمن. تعتمد حياتنا على القرارات التي يتخذها أشخاص آخرون؛ نحن لا نسيطر على هذه القرارات، ولا نعرف من هم صناعها. ووفقًا لرأي فيليب بهايمان من كلية هارفارد للحقوق، المقتبس من أنطوني لويس في عدد صحيفة نيويورك تايمز الصادر بتاريخ ٢١ أبريل ١٩٩٥: نعيش في عالم يتخذ فيه القرارات المهمة عدد محدود من صناع القرار، يتراوح بين ٥٠٠ و ١٠٠٠ شخص. كما تعتمد حياتنا على مدى اتباع العاملين في محطات الطاقة النووية المعايير السلامة، كمية مبيدات الآفات المسموح بنفاذها إلى طعامنا، كمية تلوث الهواء، مدى مهارة الأطباء أو عدم كفاءتهم؛ ويعتمد حصولنا على وظيفة أو فقدانها على قرارات الاقتصاديين الحكوميين أو مديري الشركات التنفيذيين؛ وهكذا. لا يستطيع معظم الأفراد حماية أنفسهم من هذه التهديدات إلا في نطاق محدود. وبالتالي، يصاب الفرد الباحث عن الأمان بخيبة أمل، مما يؤدي إلى الشعور بالعجز والضعف.

٧٣- لا ينظم السلوك من خلال قواعد واضحة وأوامر حكومية فحسب، بل أيضًا عبر التحكم وممارسة الرقابة القسرية غير المباشرة، والضغط السيكولوجي، والتلاعب والمنظمات غير الحكومية، ومختلف مؤسسات النظام. تستخدم معظم المنظمات الضخمة شكلًا من أشكال الدعاية للتلاعب بالمواقف والسلوك العام. ولا تقتصر الدعاية على الإعلانات التجارية والملصقات، بل أحيانًا تصاغ الدعاية دون وعي من صناعها، فعلى سبيل المثال: يُعدّ محتوى البرامج الترفيهية شكلًا قويًا من أشكال الدعاية. ومثال على الإكراه غير المباشر: لا يوجد قانون ينص على ضرورة الذهاب إلى العمل يوميًا وتنفيذ أوامر المسؤولين. ولا يوجد ما يمنعنا قانونيًا من العيش في البرية مثل البدائيين أو بدء مشروع خاص. لكن من الناحية العملية، فإن المناطق البرية محدودة، والاقتصاد يحدد مجالًا محدودًا لأصحاب المشاريع الصغيرة، وإذن فلا نستطيع العمل إلا كموظفين عاديين (كازنسكي، 2020).

يأتي الخطاب في ثلاث أفكار رئيسة مترابطة كما لو أنه ينطلق من نص نظرية مرورًا بشواهدها وانتهاءً بنتائجها:

غياب عملية السلطة التي تتمثل في القدرة على تحقيق الأهداف والدوافع (غياب القدرة على تحقيق الذات)؛ بسبب التحكم الذي يهدف إلى تكريس النظام على حساب مصلحة الإنسان (التنمية غير الصديقة) مما يسلب من الإنسان شعوره بالحرية والمعنى ويصيبه العجز والاغتراب (غياب المعنى كنتيجة)، وسنتناول كل ثيمة لنجيب عن أسئلة البحث.

(غياب القدرة على تحقيق الذات) كيف يعبّر النص عن غياب القدرة على تحقيق الذات عند الأفراد في المجتمع الصناعي؟

يستهل النص بتوضيح احتياجات الإنسان ودوافعه الأساسية ليُعرِّف نوعًا خاصًا منها تحت مصطلح "عملية السلطة"، والاصطلاح هنا يؤدي وظيفة في تركيز وتوجيه ومحورة الخطاب حول هذه الفكرة، إضافة إلى إضفاء الطابع العلمي والمنهجي، ما يمنحها وزنًا أكبر ويُعزز من حضورها في ذهن القارئ. فبدلًا من الاكتفاء بالإشارة إلى رغبة الإنسان الطبيعية في التحكم، يُصاغ المفهوم ليبدو وكأنه عملية مستمرة ومتكاملة، لها عناصر ومراحل مترابطة: تحديد الأهداف، بذل الجهد لتحقيقها، والنجاح في ذلك. إضافة إلى أن استخدام كلمة "عملية" يُبرز هذا التحكم كمسار ديناميكي وضروري لاستمرار الحياة النفسية والاجتماعية للفرد. بينما يُبرز ارتباطها بكلمة "السلطة" البُعد الغريزي العميق لهذه الحاجة، موحيًا بأنها ليست ترفًا أو خيارًا، بل أساسًا لا يمكن تجاوزه في تكوين الإنسان. هذه الصياغة تُعطي الفكرة طابعًا شاملًا

ومتجذرًا؛ حيث يُظهر النص أن فقدان هذا المسار أو تعطيله، كما يحدث في المجتمعات الحديثة، يؤدي إلى الاضطراب النفسي والشعور بالعجز والاغتراب. وتأتي الإحالة إلى "علم البيولوجيا" للتعزيز من مصداقية النص ولتوجيه القارئ إلى النظر إلى "عملية السلطة" كحاجة فطرية ومتأصلة في الإنسان، وليست مجرد ظاهرة اجتماعية قابلة للتغيير أو التأثر بالبيئة الثقافية فقط، ويعود لتأكيد ذلك حين يقول "معروفة على نطاق واسع"، متكئًا على المعرفة الشائعة كأداة لإضفاء قوة إضافية على النص، بحيث يصبح القبول بهذه الفكرة ليس مجرد مسألة شخصية أو خلافية، بل فكرة موثوقة ومعترف بها من أغلب الأفراد في المجتمع. بهذا الشكل، يتمكن الخطاب من ترسيخ "عملية السلطة" كقضية ذات مصداقية لا تخضع للنقد، بل تمثل حقيقة بيولوجية تُؤكَّد من خلال التوافق العام حولها.

ونلاحظ كيف جاء النص في الفقرة الثانية مباشرًا ومختصرًا على شكل جمل اسمية قصيرة أو فعلية في زمن المضارع، مثل: "نقسم الدوافع" و "تعتبر عملية السلطة" و"كلما زادت" كما لو أنه يقدم حقائق مُسلَّم بها، ويبدأ فقراته بضمير نحن في "نقسّم الدوافع، ونعتقد أن" كوسيلة في بناء السلطة الخطابية أمام القارئ، ليعبر عن تجاوز هذه التحليلات والتفسيرات للرأي فردي، بل هي نتائج تحليل جماعي أو مفاهيم راسخة قد تتفق مع الرؤية السائدة أو مع قناعات المجتمع الأكاديمي أو الثقافي المعني، مما يُسهم في تعميق التأثير النفسي للخطاب، ويستفيد من أسلوب الشرط في "كلما زادت دوافع المجموعة الثالثة زاد الإحباط والغضب" لتوضيح التبعات أو النتائج المتوقعة للفرضية أو النظرية التي جاء بها، ولتدعّم وتؤكد على غياب قيمة مهمة في نظر الكاتب وهي قيمة تحقيق الذات والتي يتأكد حضورها من خلال نواقضها في كلمات، مثل: "ابتئاس، انهزامية، الإحباط، الغضب"، ونلاحظ استخدامه لأسلوب التمثيل التاريخي في الفقرة التي تليها لإبراز الفرق بين الأنظمة الاجتماعية القديمة والحديثة، ولتعميق فهم القارئ للاختلافات بين حالتين تاريخيتين؛ حيث يقارن بين "الإنسان المعاصر" الذي "يشعر أن التغيير مفروض عليه" بـ"الأميركي المقيم في المناطق الحدودية في القرن التاسع عشر" الذي "يشعر بأنه أوجد التغيير عبر اختياراته"، كما تأتي الإشارة إلى كيفية اختيار المزارعين الأوائل "قطعة أرض وحولوها إلى مزرعة بجهودهم الخاصة"؛ بهدف خلق صورة ذهنية للقارئ عن الحرية في التعامل مع تحديات الماضي التي واجهها هؤلاء الأفراد وبسببها استطاعوا إشباع الحاجة لتحقيق الذات أو "عملية السلطة" لديهم، ويأتي صوت المؤلف بين قوسين ليحدد نوع التبرير لدى الإنسان المعاصر مقارنة بإنسان القرن التاسع عشر؛ بهدف إضفاء قيمة أعلى على فكرة "الاختيار الحر" في الماضي مقارنة بواقع "التغيير المفروض" في العصر الحديث.

(التنمية غير الصديقة للإنسان) كيف يعبر النص عن فكرة التنمية غير الصديقة للإنسان؟

يبدأ النص بتقديم تصنيف الـ"احتياجات الاصطناعية" التي تُدرج ضمن المجموعة الثانية من الاحتياجات، وتشير كلمة "اصطناعية" إلى أنها غير طبيعية أو فطرية، بل هي منتجات اجتماعية فرضها النظام الصناعي. كما يعني أنها لا تشبع حاجات الإنسان الأساسية، بل تسكتها، مما يعزز الحجة بأن النظام الصناعي يفرض نمطًا غير طبيعي من الحياة. ويوضح الآليات المتمثلة في أساليب "الدعاية والتسويق" التي تلعب دورًا رئيسًا في تشكيل حاجات الإنسان الاصطناعية، كأداة من أدوات السيطرة. ويدلل على ذلك بمقارنة مبطنة للإنسان المعاصر الذي بات خاضعًا لمنظومة من الإعلانات التي تصنع حاجات لم يكن قد شعر بها من قبل، مقارنة بأجداده. ويأتي تعبير "تتطلب جهدًا رصينًا لاستحقاق ما يكفي من المال" ليشير إلى العلاقة بين العمل المادي والإشباع النفسي؛ حيث يُسهم في تعزيز استعباد الإنسان الحديث. فالمجهود الذي يبذله الفرد في السوق للحصول على المال، الذي يدعم الاقتصاد والنظام الاجتماعي الصناعي، يصبح وسيلة لتلبية "احتياجات اصطناعية" تفرضها دورة الإنتاج والاستهلاك. بهذا، يتحول البشر إلى أسرى لهذه الدورة التي تقيد حريتهم ورفاهيتهم النفسية. ويعود النص إلى مفهوم "عملية السلطة" ليؤكد على الحاجة الغريزية للإنسان في السيطرة على حياته وظروفه، لكن هذه الحاجة تُقيد ضمن إطار المجتمع الصناعي الذي يحدد خياراته ويأطره في حوافز استهلاكية.

تستهل الفقرة التالية بكلمة "تتعطل" في إشارة لحالة سلبية من المجتمع الصناعي الذي يقف أمام قدرة الإنسان وحاجته الفطرية للتحكم في مسار حياته، وينتزع منه القدرة على تحقيق ذاته، فهو يحمل مسؤولية "تعطل عملية السلطة" عند الإنسان، على المجتمع الصناعي، ويتبع هذا التصريح بأمثلة واقعية ملموسة من حياة الفرد في المجتمع الصناعي مثل أنه يعتمد على "القرارات التي يتخذها أشخاص آخرون" فـ"نحن لا نسيطر على هذه القرارات، ولا نعرف من هم صناعها". وينتقل لاستخدام ضمير نحن هنا لسبب مختلف فهي تفيد في هذا السياق خلق حالة من الانتماء وشعورًا بالتضامن مع القارئ فيشعر أنه متصل معه، ويربطه بالواقع الاجتماعي والسياسي المشترك، مما يعكس انتماءً جماعيًا في مواجهة القوى الكبرى التي تتحكم في حياتنا. بهذا المعنى، يصبح ضمير "نحن" وسيلة لتوحيد القارئ مع الكاتب وبقية الأفراد في معاناتهم المشتركة من نقص القدرة على التأثير في القرارات الكبرى. ثم ينتقل النص للاستشهاد بفيلسوف قانوني (فيليب ب. هايمان) من كلية هارفارد للحقوق ليضفي سلطة معرفية، وهي إحالة تهدف للتأكيد على مفهوم الغياب الفعلي للديمقراطية أو المشاركة الشعبية في صناعة القرار، وأن القلة تتحكم في حياة الأغلبية. ويُختتم النص بالتأكيد على العواقب النفسية التي يواجهها الأفراد اليوم، التي تتجلى في "الشعور بالعجز والضعف" وغياب القدرة على تحقيق الأمان والراحة النفسية، ما يعزز الشعور بالاغتراب في العالم المعاصر.

ثم يتطرق إلى كيفية تعطيل النظام الصناعي لهذه الغريزة الطبيعية البيولوجية من خلال آليات السيطرة والتحكم المباشرة وغير المباشرة، سواء من خلال القوانين أو وسائل الدعاية والإعلان، فيظهر من خلال الأسلوب الاستدراكي في جملة "ولا تقتصر الدعاية على الإعلانات"، أن الدعاية لا تقتصر على الإعلانات التجارية المباشرة، بل تُعدّ أيضًا جزءًا من نظام أوسع للرقابة، يتضمن وسائل إعلامية أخرى، مثل: برامج الترفيه التي تؤثر في وعي الأفراد دون إدراكهم لذلك. فهو يحاول لفت الانتباه إلى أن التحكم في الأفراد لا يقتصر على تزويدهم بمعلومات صريحة أو تغييبهم عنها، بل كذلك إغراقهم في محتوى يؤثر في قراراتهم وسلوكهم بشكل غير مباشر، مما يخلق نوعًا من الوعي الموجه الذي عادة ما يخدم أهداف المجتمع.

فـ"التنمية غير الصديقة للإنسان" تعبّر عن علاقة معقدة بين الإنسان والنظام الصناعي الذي يدفع للتقدم؛ حيث يُقيد الأخير القدرة الفطرية للإنسان على تحقيق أهدافه وتحقيق ذاته، ولكون هذه القيود لا تُفرض عبر سيطرة مباشرة أو قوانين ظاهرة فحسب، بل تتخذ أشكالًا خفية ومتعددة، فهي تجعل الإحساس بالعجز والاغتراب أكثر تأثيرًا في الفرد في المجتمع الصناعي، فنلاحظ استخدامه لأسلوب الاستدراك والاستثناء في عدة مواضع، مثل: "لا يوجد ما يمنعنا قانونيًا من العيش في البرية... ولكن من الناحية العملية، فإن المناطق البرية محدودة" للكشف عن أسلوب الإكراه غير المباشر الذي يفرض على الأفراد سلوكًا معينًا دون اللجوء إلى قوانين مباشرة، بل عن طريق تقليل الخيارات المتاحة لهم، كذلك مثال الذهاب للعمل يوميًا أو اختيار المسار المهني، كلها أمثلة يسعى من خلالها إلى إظهار الأساليب الخفية التي تتحكم بالأفراد نتيجة لكونهم جزء من النظام الاجتماعي الصناعي.

ونلحظ تكرار كلمات، مثل: "حكم ذاتي، دوافع بشرية، السلوك" وهي كلها مصطلحات ذات طابع نفسي تأتي لتدلل على القيمة المهدرة والمنسية للإنسان بصفته فردًا في مواجهة النظام الصناعي الذي يسعى إلى تحقيق أهدافه عبر آليات قسرية. واستخدامه لأسلوب استفهامي "وقد يتساءل المرء فيما إذا كان إنشاء هذا المجتمع يمثل تغييرًا نحو الأفضل" يكشف عن بعد فلسفي يحاول الكاتب من خلاله توجيه القارئ إلى تفكير نقدي حول النتائج المترتبة على تلك التغيرات؛ بهدف حثّ القارئ على التفكير في مدى صحة التقدم الاجتماعي والاقتصادي، مما يعزز البعد التفاعلي للنص، فهو مبني على علاقة حوارية غير مباشرة؛ حيث يقدم المرسل حججًا مدعومة بملاحظات علمية ونقدية، مما يجعله يخاطب عقل القارئ واستنتاجاته، ويحفزه على التفكير في تأثير التقنية والحداثة في حياته ومجتمعه.

(غياب المعنى) كيف يعبّر النص عن فقدان المعنى والقيمة في حياة الإنسان كنتيجة للتقدم الصناعي؟

تظهر ثيمة غياب المعنى وفقدانه في حياة الإنسان المعاصر كنتيجة لكل ما ذُكر، ورغم غيابها الظاهر في النص، إلا أنها تظهر ضمنيًا كنتيجة حتمية، وكمرادف، وككل يُعبَّر عنه من خلال أجزائه. فقد تناول النص المعنى بشكل مفصَّل، محاولًا تفكيكه إلى عناصره المكونة، فإضافة إلى تكرار مصطلحات، مثل: "الاحتياجات الاصطناعية" و"الاغتراب" و"العجز"، يعزز النص شعور القارئ بأن الإنسان أصبح أسيرًا لدورة لا تنتهي من الاستهلاك والإنتاج؛ حيث تُفرض عليه احتياجات غريبة لا علاقة لها برغباته الفطرية، وهذا يمثل أحد أشكال غياب المعنى. كما أن أسلوب الاستفهام والاستدراك، مثل قوله: "لكن من الناحية العملية"، يكشف عن التباين بين الأيديولوجيات المثالية التي يُمكن أن يتصورها الإنسان، والواقع المفروض عليه، ليظهر بذلك إحباطًا وشعورًا بعدم التصالح مع الواقع، وهو ما يعبر عن عبثيته ونقص معناه. من الناحية التركيبية، يُسهم التتابع السريع في الجمل ذات المحتوى المكثف في تكوين صورة للواقع المعاصر، الذي يفتقر إلى الخيارات الحقيقية، مما يعزز الشعور بالعجز وفقدان القدرة على التأثير في الحياة. وفيما يتعلق بالدلالات الاقتصادية، مثل: "المال" و"الاقتصاد"، فإنها ترمز إلى اختزال الحياة الإنسانية إلى مجرد سعي مادي متواصل، وارتباط الإنسان بكل ما هو مادي واستهلاكي، مما يقود إلى غياب المعنى العميق في وجوده. من خلال هذه الآليات، يُظهر النص بوضوح كيف أن المجتمع الصناعي يعطل قدرة الفرد على تحقيق ذاته، ويدفعه نحو حياة تفتقر إلى المعنى الحقيقي.


    المصادر و المراجع
    ● Conrad, P. (1992). "Medicalization and Social Control." Annual Review of Sociology 18, 209-232.
    ● Long-running Unabom case continues to perplex the F.B.I." (1995, April 24). The New York Times. Retrieved May 2001, from LEXIS-NEXIS database.
    ● Wilson, J. (1998, January 15). "In search of madness." The New York Times. Retrieved May 2001, from LEXIS-NEXIS database.
    ● هوركهایمر ماكس وأدورنو تیودور، (2006)، جدل التنویر، تر:جورج كتورة، طرابلس ،دار أویا للطباعة والنشر.
    ● هربرت ماركوزه (1988)، الإنسان ذو البعد الواحد، تر: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت.

    ● تيد، كازنسكي (2020)، المجتمع الصناعي ومستقبله، تر: رقية الكمالي، منشورات تكوين.