د. أروى خميس
المقدمة
الفن لا يجزّأ، في هذا السياق يقول مارتن سالزبيري في كتابه "كتب الأطفال المصوّرة- فن السرد القصصي المرئي": "إن أفضل كتب الأطفال المصورة وأكثرها خلودًا تلك التي تبدو وكأنها معرض لوحات فني مصغّر، تلك الكتب تجمع ما بين المفهوم العميق والحس الفني والتصميم المتميّز والإنتاج المناسب، هذه الكتب تحفّز خيال كل من الصغار والكبار" (Salisbury&Styles، 2020).
في عالمنا العربي لم تبدأ هذه النظرة التي تجمع بين الأدب والفن في كتاب الطفل إلا متأخرًا، خاصة إذا علمنا أن أدب الطفل لم يُنظر إليه بصفته أدبًا في البلاد العربية إلا منذ زمن قصير؛ هذا في أفضل أحواله وأكثرها تطلعًا. وفي كتب الأطفال الحديثة على مستوى العالم لا يُعدّ الرسم شيئًا موضّحًا للنص المكتوب، ولكنه جهد الرسام في تفسير النص بطريقته الخاصة فقط؛ بل هو المشاركة الشخصية للرسام أو الفنان في رواية شيء من تفاصيل القصة. الرسم في هذا السياق هو التأويلات لما سكت عنه النص، أو أشار إليه بطرف خفي، وهذا يعني تجاور العلامات اللسانية مع العلامات البصرية في عمل واحد.
ولطالما كان السؤال: كيف يمكن أن تتجاور هذه العلامات؟ كيف يرى الرسام المشاهد في رأسه، ويعبر عنها بالخطوط، والألوان، والأشكال، والصور؟ خاصة أنه في وقت سابق تشكلت العلامات اللسانية في ذهن الكاتب بالحروف والكلمات المحملة بالمشاعر. وفي هذا السياق هل يمكن أن تضفي رؤى الرسامين والفنانين التي تتشكل عبر العلامات البصرية على المعنى بعدًا وعمقًا آخر غير الذي يغطيه السرد التقليدي بالكلمات؟ خاصة أن أنماط العلامات البصرية وطرق تجاورها لا تُعدّ ولا تحصى في كتب الأطفال واليافعين.
وفي السنوات الأخيرة، نلحظ تطور صناعة أدب الأطفال في المملكة العربية السعودية في جميع مناحي هذه الصناعة، سواء من ناحية النصوص المقدمة للطفل، أو من حيث رسومات الكتب التي تنوعت لتشمل أنماطًا مختلفة وحديثة ومتخصصة من رسومات أدب الأطفال، أو من حيث الإنتاج ومواصفاته. ولعل كتب الأطفال واعتمادها على النص والرسم بشكل خاص في التعبير عن المعنى تشكّل مادة غنية للدراسات السيمائية، خاصة أن الوظيفة السيمائية هي نتاج العلاقة المتبادلة بين التعبير (الدال) والمضمون (المدلول) (الزهراني، 1443هـ)، وفي كتب الأطفال تكون العلاقة المتبادلة بين العلامات البصرية وبين دلالتها في سير الأحداث أو القصة، وقد اختُير المنهج السيميائي بوصفه منهجًا لتحليل القصة موضوع الدراسة؛ لأنه منهج غني يرى أن النص حاملًا لأسرار كثيرة، والدال عليها يستفز القارئ ويدعوه إلى البحث عنها (رضوان وعباس، 2017). وتكمن أهمية هذه الدراسة في تقديم نموذج حديث يوضح العلاقة المتطورة بين العلامات السردية والبصرية، وإلى أي حد يمكن أن تتغير وتتطور أدوات السرد ليصبح الكتاب وحدة أدبية فنية لا تقتصر على أسلوب واحد أو مرحلة عمرية معينة ولا على موضوعات محددة. كما تكمن أيضًا في تقديم نموذج عالمي، وتحليله سيميائيًا للوصول إلى طبيعة هذه العلاقة الملتبسة بين النص والرسم.
مشكلة الدراسة
تتمثل مشكلة الدراسة في الكشف عن العلاقة بين العلامات اللسانية والعلامات البصرية في إيصال المعنى، وهل الرسوم مجرد ترجمة لمعاني النص، أم أن لها دورًا مع الراوي وفي تعاقب الأحداث، ويمكن أن تكون أسئلة الدراسة كالآتي:
1. ما طبيعة العلاقة بين النص والرسم في كتب الأطفال؟
2. هل يمكن أن يكون للرسم دور في إيصال المعنى؟
3. هل يمكن تناول الموضوعات المعقدة في كتب الأطفال عن طريق السرد المرئي؟
أهداف الدراسة
1. الكشف عن طبيعة العلاقة بين النص والرسم في كتب الأطفال.
2. الكشف عن دور العلامات البصرية سيميائيًا في إيصال المعنى.
3. النظر في دور السرد المرئي في تناول الموضوعات المعقدة في أدب الأطفال.
منهج الدراسة
المنهج المتبع في الدراسة هو المنهج السيميائي الذي سيساعد على فهم العلاقة بين النص وبين الرسومات بعدّ كل منهما علامات في النص لها دلالات مختلفة.
حدود الدراسة
ستتناول الدراسة قصة بعنوان The Red Tree أو الشجرة الحمراء للمؤلف شون تان Shaun tan، وتحليلها من حيث العلامات اللسانية، والعلامات البصرية، ثم الربط بينهما ودورهما في بناء المعنى.
الطباعة غيّرت الأدوار
إن أول كتاب مصور نُشر للأطفال كان عام 1658، ولم تكن وقتها العلاقة بين النص والصورة قوية ومحكمة، لكنها كانت لأغراض زخرفة الصفحات أكثر من أن تكون مشاركة للنص المكتوب. وقد عرض الرسام والشاعر وليام بلايك أول تجربة سيميائية بين النص والصورة في كتابه "أناشيد البراءة" عام 1789، الذي طبعه ونشره بنفسه. وكان أسلوبه المرئي متفردًا وأصيلًا في ذلك الوقت (Salisbury&Styles، 2020) حتى عام 1830؛ حيث كانت الكتب وقتها تلوّن يدويًا، ثم جاءت أول مطبعة Paxter prss التي بدأت تطبع بقوالب الطباعة. وبعد اختراع المطبعة تغيرت أمور كثيرة أسهمت في تغيير شكل الكتاب، وأثرت في العلاقة بين النص والرسومات؛ لذا فإن بداية الكتب المصورة كما نعرفها كانت في نهاية القرن التاسع عشر.
وعند الحديث عن الكتب ورسوماتها في العالم الأوروبي لا ينبغي لنا أن نغفل ذكر الكتب في العالم الإسلامي والشرقي وذلك قبل اختراع الطباعة بقرون، ففي ذلك الوقت لم تكن الرسومات مرتبطة بكتب الأطفال، ولكنها ظهرت في كتب تراث كثيرة تشارك فيها النص مع الرسم. مع أن هناك أقوالًا تنفي وجود هذه الرسومات؛ ذلك لأن الكتب العربية لم تكن يومًا مرسومة، أما إضافة الرسومات إليها فقد كان من المستشرقين. من هذه الكتب كتاب أخوان الصفا وخلاّن الوفا 1987 وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي أُلّف في القرن الرابع وأُهدي لسيف الدولة، ثم نُشرت النسخة الأولى منه في أوروبا عام 1868. وهذا يُفسر كونها مرسومة، أي أنها رُسمت مِن مَن طبعوها في أوروبا. هذا الكتاب لم يكن مرسومًا بالمعنى التقليدي؛ حيث لم يضمّن الأصفهاني رسومات أو صورًا مع النصوص، ولكن الكتاب يُعدّ موسوعة أدبية وشعرية، ومع ذلك، يمكن القول إن "الأغاني" كان مرسومًا لفظيًا، بمعنى أنه كان يُقدم صورًا دقيقة للحياة الثقافية والاجتماعية في عصره، غبر وصفه لشخصيات ومواقف وحكايات بأسلوب سردي مليء بالتفاصيل، مما يجعل القارئ يتخيل المشهد كأنه مرسوم أمامه (البهيتي، 1985)، ومما سهّل على المستشرقين رسمه في مرحلة طباعته. ومثله كتاب مقامات الحريري، وأشهر النسخ المرسومة من "مقامات الحريري" هي النسخة التي أُنجزت في القرن الثالث عشر الميلادي بواسطة الفنان يحيى بن محمود الواسطي، وهو من أبرز فناني المخطوطات في العصر العباسي، وقد تميّزت هذه الرسومات بتفاصيلها الدقيقة وألوانها الجذابة، وقد كانت تعرض مشاهد من الحياة اليومية: الملابس، والبيئة الاجتماعية في تلك الفترة، مما جعلها مصدرًا مهمًا لدراسة الفن والثقافة الإسلامية في ذلك العصر (المكتبة الوقفية، 1122).
أما تطوُّر المحتوى المرئي في كتب الأطفال فقد كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي كان يسمى وحتى النصف الأول من القرن العشرين بالعصر الذهبي لتطور كتب الأطفال؛ إذ تطورت الطباعة كثيرًا، كما زاد الاهتمام بفكرة الطفولة، وظهر الكثير من الكتّاب والرسامين الذين طوروا ما كان معروفًا بالتفكير المرئي Visual thinking، مما أدى إلى تطور العلاقة بين أنماط السرد والرسم والتلوين بشكل عام (Lieth،2024).
حين يتجاور النص مع الرسم
السرد المرئي هو السرد الذي تتجاور فيه العلامات اللفظية مع العلامات البصرية. ويقسم جون بيير (2022) مستويات السرد إلى تصنيفات عديدة تندرج أقطابها بين المحتوى المرئي والفعل السردي؛ حيث تكون رواية القصة بعدة طرق. وتشترك كتب الصور في تنوعها وتعدد العلاقات المختلفة بين النص البصري واللفظي، وفي بعض الأحيان يتولى الجانب البصري سرد القصة، وفي أحيان أخرى يسيطر الجانب اللفظي، وفي كل الأحوال، يملأ القارئ الفجوات ويخلق قصة جديدة، وفي السرد المرئي يُنسج النص اللفظي والبصري في وحدة واحدة.
إضافة إلى ذلك، قد تعبر الكلمات والصور عن الأشياء في آنٍ واحد جنبًا إلى جنب، أو قد تتناوب في السرد. وبغض النظر عن طبيعة العلاقة، فإن الرسوم التوضيحية للقصة تضيف دائمًا إلى السرد ومعناه من خلال تقديم معلومات إضافية لا يمكن التعبير عنها بالكلمات وحدها، مثل: التفاصيل حول المكان والزمان والثقافة والمجتمع، وكذلك حول الشخصيات وعلاقاتهم. كما توفر الرسوم التوضيحية خلفية تضع الشخصيات في بيئات ومنازل معينة. وبوجه عام، لا تكون الرسوم التوضيحية مباشرة بشكل كامل، بل إنها دائمًا معقّدة، تكمّل، وتزيد من قيمة السرد النصي. أي بعبارة أخرى، إن العلاقة بين النص البصري واللفظي تتميز بالتداخل، والمرونة، والتعقيد ( Oittinen، 2020).
شجرة شون تان الحمراء [1]
قصة الشجرة الحمراء The red tree-Shaun Tanللكاتب والرسام الأسترالي شون تان، تحكي حكاية فتاة تستيقظ في الصباح فتتساقط عليها من سقف غرفتها أوراق شجرة يابسة، وتهدد بابتلاعها في هدوء. وتبدأ الفتاة يومها وهي تشعر أن الصباح لا يعدها بشيء، وأن كل شيء لسبب مجهول -أو لسبب لم يذكره الكاتب- يسير من سيئ إلى أسوأ، فالظلمة في كل مكان، ولا يبدو أن أحدًا يفهم أي شيء. العالم مظلم وكأنه آلة صماء، تكثر المشكلات ولا يبدو أن هناك أي بصيص لأي أمل. في تلك الأوقات الصعبة –ولسان الخطاب للراوي وهو يتحدث للقارئ- لا تعلم ما المفترض عليك فعله، بل إنك لا تعرف من أنت، أو أين يجدر بك أن تكون حتى ينتهي اليوم كما بدأ.
تنتهي القصة حين تفتح الفتاة باب غرفتها فتجد نبتة صغيرة حمراء، ثم تكبر هذه النبتة كما يجدر بها أن تكون وتملأ غرفتها.
(الشجرة الحمراء) قصة تُقدّم رحلة عبر عوالم خيالية متعددة، من خلال صور مستقلة، تُتيح استنتاج معانيها الخاصة في غياب أي سرد توضيحي لأي أحداث. يعتمد الكتاب كفكرة على ميل الأطفال والكبار للتعبير عن مشاعرهم عبر استعارات؛ كوحوش، وعواصف، وأشعة الشمس، وقوس قزح، وما إلى ذلك؛ حيث تستكشف الإمكانات التعبيرية لهذا النوع من الخيال المشترك، الذي قد يبدو غريبًا وأليفًا في الوقت ذاته. تظهر فتاة شابة بلا اسم في كل صورة، ترمز هذه الفتاة للكل، تمر عبر لحظات مظلمة بلا حول منها، لكنها تجد في نهاية رحلتها شيئًا يدعو إلى الأمل.
ولأن النص في قصة الشجرة الحمراء قصير جدًا في كل صفحة لا يتعدى سطرًا أو سطرين، وكل صفحة تمثل لوحة متكاملة فإن شون تان يقول عن قصته: "بدأتُ الشجرة الحمراء كمشروعٍ سرديٍ تجريبيٍ أكثر من كونه قصة تقليدية؛ كان الهدف إنشاء كتاب بلا حبكة واضحة. لطالما أحببت كتاب كريس فان أولسبرغ الكلاسيكي للأطفال ألغاز هاريس بيرديك (1984)، الذي يُعدّ مثالًا رائعًا على الألغاز بين الكلمات والصور؛ حيث يقدم شذرات من قصص غير مكتملة، مما يتيح للقارئ استخدام خياله. لا يحتوي الكتاب على سرد متسلسل، وهو أمر مثالي في كتاب مصور، إذ يمكنك فتحه على أي صفحة، والتنقل للخلف أو للأمام، وقضاء ما تشاء من الوقت مع كل صورة" (shune tan، 2020).
هذا الكتاب كما أشار شون تان وعدد من مراجعات القصة يتحدث عن الاكتئاب، الذي هو من مخلفات الحضارة الحديثة وإيقاع حياتها السريع.
● العنوان والغلاف بصفته علامة:
حظي العنوان في تصوّر السيميائيين باهتمام خاص حتى وكأنه نص بحد ذاته، وعنوان الكتاب مكتوب بخط أزرق رغم أنه يشير إلى الشجرة التي لونها أحمر! ويصوّر فتاة على زورق من ورق ممتلئ بالكتابات، الفتاة مُطرقة في زورقها تتأمل ورقة الشجر التي تظهر أمامها بلونها الأحمر. والألوان من خلف الزورق تتدرج بدءًا من اللون الأصفر الفاتح الذي يمثل أول النهار، وحتى الحواف السفلية التي تزيد قتامة، كما ينعكس الزورق على صفحة المياه بلون قاتم. والفتاة تظهر في القصة بلا ملامح واضحة تحيلها إلى أي عرق أو بلد، والزورق الورقي الذي تركبه قد يرمز إلى هشاشة الحياة التي نحياها، لذا يتعلق نظر الفتاة بالورقة الحمراء التي تبدو وكأنها أمل ما وإن كان صغيرًا، لكنه لن يكون واضحًا إلا لمن يُمعن النظر. كل ذلك في الغلاف الذي يعمل كإستراتيجية تساعد على النفاذ إلى عمق النص بوصفه تجميعًا مكثفًا لدلالات النص.
يلاحظ أن الكتاب لا ينتمي إلى السرد التقليدي وهذا ما جعله يتناول موضوعات ليس من الدارج أن تُقدّم للأطفال، كالاكتئاب واليأس والأسئلة الوجودية غير المفهومة. ولا يقصد أن الأطفال لا يعيشون هذه المشاعر، بل إنهم فقط يحتاجون لمن يساعدهم على فهمها. ولأن النص لا يخوض في التفاصيل فذلك يساعد كل قارئ -طفلًا كان أو بالغًا- أن يصوغ قصته الخاصة وأن يلقي بحمولاته على النص ويعبئ فراغاته ويفسّر صوره بشكل شخصي. قصص كثيرة في الدول التي تعاني من الحروب والفقر والفقد وغيرها من نوائب الحياة والمشاعر القاسية -غير المحتملة للصغار وغير المبررة للكبار- يمكن أن تنتمي إلى قصة هذا الكتاب. وفيما يأتي عرض لبعض نماذج من صفحات الكتاب تجمع بين النصوص والرسومات في سرد مرئي يؤكد بعض المفاهيم ضمن موضوع الكتاب الرئيس: