السرد المرئي دراسة سيميائية في أدب الأطفال (الورقة الحمراء أنموذجًا)

د. أروى خميس

المقدمة

الفن لا يجزّأ، في هذا السياق يقول مارتن سالزبيري في كتابه "كتب الأطفال المصوّرة- فن السرد القصصي المرئي": "إن أفضل كتب الأطفال المصورة وأكثرها خلودًا تلك التي تبدو وكأنها معرض لوحات فني مصغّر، تلك الكتب تجمع ما بين المفهوم العميق والحس الفني والتصميم المتميّز والإنتاج المناسب، هذه الكتب تحفّز خيال كل من الصغار والكبار" (Salisbury&Styles، 2020).

في عالمنا العربي لم تبدأ هذه النظرة التي تجمع بين الأدب والفن في كتاب الطفل إلا متأخرًا، خاصة إذا علمنا أن أدب الطفل لم يُنظر إليه بصفته أدبًا في البلاد العربية إلا منذ زمن قصير؛ هذا في أفضل أحواله وأكثرها تطلعًا. وفي كتب الأطفال الحديثة على مستوى العالم لا يُعدّ الرسم شيئًا موضّحًا للنص المكتوب، ولكنه جهد الرسام في تفسير النص بطريقته الخاصة فقط؛ بل هو المشاركة الشخصية للرسام أو الفنان في رواية شيء من تفاصيل القصة. الرسم في هذا السياق هو التأويلات لما سكت عنه النص، أو أشار إليه بطرف خفي، وهذا يعني تجاور العلامات اللسانية مع العلامات البصرية في عمل واحد.

ولطالما كان السؤال: كيف يمكن أن تتجاور هذه العلامات؟ كيف يرى الرسام المشاهد في رأسه، ويعبر عنها بالخطوط، والألوان، والأشكال، والصور؟ خاصة أنه في وقت سابق تشكلت العلامات اللسانية في ذهن الكاتب بالحروف والكلمات المحملة بالمشاعر. وفي هذا السياق هل يمكن أن تضفي رؤى الرسامين والفنانين التي تتشكل عبر العلامات البصرية على المعنى بعدًا وعمقًا آخر غير الذي يغطيه السرد التقليدي بالكلمات؟ خاصة أن أنماط العلامات البصرية وطرق تجاورها لا تُعدّ ولا تحصى في كتب الأطفال واليافعين.

وفي السنوات الأخيرة، نلحظ تطور صناعة أدب الأطفال في المملكة العربية السعودية في جميع مناحي هذه الصناعة، سواء من ناحية النصوص المقدمة للطفل، أو من حيث رسومات الكتب التي تنوعت لتشمل أنماطًا مختلفة وحديثة ومتخصصة من رسومات أدب الأطفال، أو من حيث الإنتاج ومواصفاته. ولعل كتب الأطفال واعتمادها على النص والرسم بشكل خاص في التعبير عن المعنى تشكّل مادة غنية للدراسات السيمائية، خاصة أن الوظيفة السيمائية هي نتاج العلاقة المتبادلة بين التعبير (الدال) والمضمون (المدلول) (الزهراني، 1443هـ)، وفي كتب الأطفال تكون العلاقة المتبادلة بين العلامات البصرية وبين دلالتها في سير الأحداث أو القصة، وقد اختُير المنهج السيميائي بوصفه منهجًا لتحليل القصة موضوع الدراسة؛ لأنه منهج غني يرى أن النص حاملًا لأسرار كثيرة، والدال عليها يستفز القارئ ويدعوه إلى البحث عنها (رضوان وعباس، 2017). وتكمن أهمية هذه الدراسة في تقديم نموذج حديث يوضح العلاقة المتطورة بين العلامات السردية والبصرية، وإلى أي حد يمكن أن تتغير وتتطور أدوات السرد ليصبح الكتاب وحدة أدبية فنية لا تقتصر على أسلوب واحد أو مرحلة عمرية معينة ولا على موضوعات محددة. كما تكمن أيضًا في تقديم نموذج عالمي، وتحليله سيميائيًا للوصول إلى طبيعة هذه العلاقة الملتبسة بين النص والرسم.

مشكلة الدراسة

تتمثل مشكلة الدراسة في الكشف عن العلاقة بين العلامات اللسانية والعلامات البصرية في إيصال المعنى، وهل الرسوم مجرد ترجمة لمعاني النص، أم أن لها دورًا مع الراوي وفي تعاقب الأحداث، ويمكن أن تكون أسئلة الدراسة كالآتي:

1. ما طبيعة العلاقة بين النص والرسم في كتب الأطفال؟
2. هل يمكن أن يكون للرسم دور في إيصال المعنى؟
3. هل يمكن تناول الموضوعات المعقدة في كتب الأطفال عن طريق السرد المرئي؟

أهداف الدراسة

1. الكشف عن طبيعة العلاقة بين النص والرسم في كتب الأطفال.
2. الكشف عن دور العلامات البصرية سيميائيًا في إيصال المعنى.
3. النظر في دور السرد المرئي في تناول الموضوعات المعقدة في أدب الأطفال.

منهج الدراسة

المنهج المتبع في الدراسة هو المنهج السيميائي الذي سيساعد على فهم العلاقة بين النص وبين الرسومات بعدّ كل منهما علامات في النص لها دلالات مختلفة.

حدود الدراسة

ستتناول الدراسة قصة بعنوان The Red Tree أو الشجرة الحمراء للمؤلف شون تان Shaun tan، وتحليلها من حيث العلامات اللسانية، والعلامات البصرية، ثم الربط بينهما ودورهما في بناء المعنى.

الطباعة غيّرت الأدوار

إن أول كتاب مصور نُشر للأطفال كان عام 1658، ولم تكن وقتها العلاقة بين النص والصورة قوية ومحكمة، لكنها كانت لأغراض زخرفة الصفحات أكثر من أن تكون مشاركة للنص المكتوب. وقد عرض الرسام والشاعر وليام بلايك أول تجربة سيميائية بين النص والصورة في كتابه "أناشيد البراءة" عام 1789، الذي طبعه ونشره بنفسه. وكان أسلوبه المرئي متفردًا وأصيلًا في ذلك الوقت (Salisbury&Styles، 2020) حتى عام 1830؛ حيث كانت الكتب وقتها تلوّن يدويًا، ثم جاءت أول مطبعة Paxter prss التي بدأت تطبع بقوالب الطباعة. وبعد اختراع المطبعة تغيرت أمور كثيرة أسهمت في تغيير شكل الكتاب، وأثرت في العلاقة بين النص والرسومات؛ لذا فإن بداية الكتب المصورة كما نعرفها كانت في نهاية القرن التاسع عشر.

وعند الحديث عن الكتب ورسوماتها في العالم الأوروبي لا ينبغي لنا أن نغفل ذكر الكتب في العالم الإسلامي والشرقي وذلك قبل اختراع الطباعة بقرون، ففي ذلك الوقت لم تكن الرسومات مرتبطة بكتب الأطفال، ولكنها ظهرت في كتب تراث كثيرة تشارك فيها النص مع الرسم. مع أن هناك أقوالًا تنفي وجود هذه الرسومات؛ ذلك لأن الكتب العربية لم تكن يومًا مرسومة، أما إضافة الرسومات إليها فقد كان من المستشرقين. من هذه الكتب كتاب أخوان الصفا وخلاّن الوفا 1987 وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي أُلّف في القرن الرابع وأُهدي لسيف الدولة، ثم نُشرت النسخة الأولى منه في أوروبا عام 1868. وهذا يُفسر كونها مرسومة، أي أنها رُسمت مِن مَن طبعوها في أوروبا. هذا الكتاب لم يكن مرسومًا بالمعنى التقليدي؛ حيث لم يضمّن الأصفهاني رسومات أو صورًا مع النصوص، ولكن الكتاب يُعدّ موسوعة أدبية وشعرية، ومع ذلك، يمكن القول إن "الأغاني" كان مرسومًا لفظيًا، بمعنى أنه كان يُقدم صورًا دقيقة للحياة الثقافية والاجتماعية في عصره، غبر وصفه لشخصيات ومواقف وحكايات بأسلوب سردي مليء بالتفاصيل، مما يجعل القارئ يتخيل المشهد كأنه مرسوم أمامه (البهيتي، 1985)، ومما سهّل على المستشرقين رسمه في مرحلة طباعته. ومثله كتاب مقامات الحريري، وأشهر النسخ المرسومة من "مقامات الحريري" هي النسخة التي أُنجزت في القرن الثالث عشر الميلادي بواسطة الفنان يحيى بن محمود الواسطي، وهو من أبرز فناني المخطوطات في العصر العباسي، وقد تميّزت هذه الرسومات بتفاصيلها الدقيقة وألوانها الجذابة، وقد كانت تعرض مشاهد من الحياة اليومية: الملابس، والبيئة الاجتماعية في تلك الفترة، مما جعلها مصدرًا مهمًا لدراسة الفن والثقافة الإسلامية في ذلك العصر (المكتبة الوقفية، 1122).

أما تطوُّر المحتوى المرئي في كتب الأطفال فقد كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي كان يسمى وحتى النصف الأول من القرن العشرين بالعصر الذهبي لتطور كتب الأطفال؛ إذ تطورت الطباعة كثيرًا، كما زاد الاهتمام بفكرة الطفولة، وظهر الكثير من الكتّاب والرسامين الذين طوروا ما كان معروفًا بالتفكير المرئي Visual thinking، مما أدى إلى تطور العلاقة بين أنماط السرد والرسم والتلوين بشكل عام (Lieth،2024).

حين يتجاور النص مع الرسم

السرد المرئي هو السرد الذي تتجاور فيه العلامات اللفظية مع العلامات البصرية. ويقسم جون بيير (2022) مستويات السرد إلى تصنيفات عديدة تندرج أقطابها بين المحتوى المرئي والفعل السردي؛ حيث تكون رواية القصة بعدة طرق. وتشترك كتب الصور في تنوعها وتعدد العلاقات المختلفة بين النص البصري واللفظي، وفي بعض الأحيان يتولى الجانب البصري سرد القصة، وفي أحيان أخرى يسيطر الجانب اللفظي، وفي كل الأحوال، يملأ القارئ الفجوات ويخلق قصة جديدة، وفي السرد المرئي يُنسج النص اللفظي والبصري في وحدة واحدة.

إضافة إلى ذلك، قد تعبر الكلمات والصور عن الأشياء في آنٍ واحد جنبًا إلى جنب، أو قد تتناوب في السرد. وبغض النظر عن طبيعة العلاقة، فإن الرسوم التوضيحية للقصة تضيف دائمًا إلى السرد ومعناه من خلال تقديم معلومات إضافية لا يمكن التعبير عنها بالكلمات وحدها، مثل: التفاصيل حول المكان والزمان والثقافة والمجتمع، وكذلك حول الشخصيات وعلاقاتهم. كما توفر الرسوم التوضيحية خلفية تضع الشخصيات في بيئات ومنازل معينة. وبوجه عام، لا تكون الرسوم التوضيحية مباشرة بشكل كامل، بل إنها دائمًا معقّدة، تكمّل، وتزيد من قيمة السرد النصي. أي بعبارة أخرى، إن العلاقة بين النص البصري واللفظي تتميز بالتداخل، والمرونة، والتعقيد ( Oittinen، 2020).

شجرة شون تان الحمراء [1]

قصة الشجرة الحمراء The red tree-Shaun Tanللكاتب والرسام الأسترالي شون تان، تحكي حكاية فتاة تستيقظ في الصباح فتتساقط عليها من سقف غرفتها أوراق شجرة يابسة، وتهدد بابتلاعها في هدوء. وتبدأ الفتاة يومها وهي تشعر أن الصباح لا يعدها بشيء، وأن كل شيء لسبب مجهول -أو لسبب لم يذكره الكاتب- يسير من سيئ إلى أسوأ، فالظلمة في كل مكان، ولا يبدو أن أحدًا يفهم أي شيء. العالم مظلم وكأنه آلة صماء، تكثر المشكلات ولا يبدو أن هناك أي بصيص لأي أمل. في تلك الأوقات الصعبة –ولسان الخطاب للراوي وهو يتحدث للقارئ- لا تعلم ما المفترض عليك فعله، بل إنك لا تعرف من أنت، أو أين يجدر بك أن تكون حتى ينتهي اليوم كما بدأ.

تنتهي القصة حين تفتح الفتاة باب غرفتها فتجد نبتة صغيرة حمراء، ثم تكبر هذه النبتة كما يجدر بها أن تكون وتملأ غرفتها.

(الشجرة الحمراء) قصة تُقدّم رحلة عبر عوالم خيالية متعددة، من خلال صور مستقلة، تُتيح استنتاج معانيها الخاصة في غياب أي سرد توضيحي لأي أحداث. يعتمد الكتاب كفكرة على ميل الأطفال والكبار للتعبير عن مشاعرهم عبر استعارات؛ كوحوش، وعواصف، وأشعة الشمس، وقوس قزح، وما إلى ذلك؛ حيث تستكشف الإمكانات التعبيرية لهذا النوع من الخيال المشترك، الذي قد يبدو غريبًا وأليفًا في الوقت ذاته. تظهر فتاة شابة بلا اسم في كل صورة، ترمز هذه الفتاة للكل، تمر عبر لحظات مظلمة بلا حول منها، لكنها تجد في نهاية رحلتها شيئًا يدعو إلى الأمل.

ولأن النص في قصة الشجرة الحمراء قصير جدًا في كل صفحة لا يتعدى سطرًا أو سطرين، وكل صفحة تمثل لوحة متكاملة فإن شون تان يقول عن قصته: "بدأتُ الشجرة الحمراء كمشروعٍ سرديٍ تجريبيٍ أكثر من كونه قصة تقليدية؛ كان الهدف إنشاء كتاب بلا حبكة واضحة. لطالما أحببت كتاب كريس فان أولسبرغ الكلاسيكي للأطفال ألغاز هاريس بيرديك (1984)، الذي يُعدّ مثالًا رائعًا على الألغاز بين الكلمات والصور؛ حيث يقدم شذرات من قصص غير مكتملة، مما يتيح للقارئ استخدام خياله. لا يحتوي الكتاب على سرد متسلسل، وهو أمر مثالي في كتاب مصور، إذ يمكنك فتحه على أي صفحة، والتنقل للخلف أو للأمام، وقضاء ما تشاء من الوقت مع كل صورة" (shune tan، 2020).

هذا الكتاب كما أشار شون تان وعدد من مراجعات القصة يتحدث عن الاكتئاب، الذي هو من مخلفات الحضارة الحديثة وإيقاع حياتها السريع.

image

● العنوان والغلاف بصفته علامة:

حظي العنوان في تصوّر السيميائيين باهتمام خاص حتى وكأنه نص بحد ذاته، وعنوان الكتاب مكتوب بخط أزرق رغم أنه يشير إلى الشجرة التي لونها أحمر! ويصوّر فتاة على زورق من ورق ممتلئ بالكتابات، الفتاة مُطرقة في زورقها تتأمل ورقة الشجر التي تظهر أمامها بلونها الأحمر. والألوان من خلف الزورق تتدرج بدءًا من اللون الأصفر الفاتح الذي يمثل أول النهار، وحتى الحواف السفلية التي تزيد قتامة، كما ينعكس الزورق على صفحة المياه بلون قاتم. والفتاة تظهر في القصة بلا ملامح واضحة تحيلها إلى أي عرق أو بلد، والزورق الورقي الذي تركبه قد يرمز إلى هشاشة الحياة التي نحياها، لذا يتعلق نظر الفتاة بالورقة الحمراء التي تبدو وكأنها أمل ما وإن كان صغيرًا، لكنه لن يكون واضحًا إلا لمن يُمعن النظر. كل ذلك في الغلاف الذي يعمل كإستراتيجية تساعد على النفاذ إلى عمق النص بوصفه تجميعًا مكثفًا لدلالات النص.

يلاحظ أن الكتاب لا ينتمي إلى السرد التقليدي وهذا ما جعله يتناول موضوعات ليس من الدارج أن تُقدّم للأطفال، كالاكتئاب واليأس والأسئلة الوجودية غير المفهومة. ولا يقصد أن الأطفال لا يعيشون هذه المشاعر، بل إنهم فقط يحتاجون لمن يساعدهم على فهمها. ولأن النص لا يخوض في التفاصيل فذلك يساعد كل قارئ -طفلًا كان أو بالغًا- أن يصوغ قصته الخاصة وأن يلقي بحمولاته على النص ويعبئ فراغاته ويفسّر صوره بشكل شخصي. قصص كثيرة في الدول التي تعاني من الحروب والفقر والفقد وغيرها من نوائب الحياة والمشاعر القاسية -غير المحتملة للصغار وغير المبررة للكبار- يمكن أن تنتمي إلى قصة هذا الكتاب. وفيما يأتي عرض لبعض نماذج من صفحات الكتاب تجمع بين النصوص والرسومات في سرد مرئي يؤكد بعض المفاهيم ضمن موضوع الكتاب الرئيس:

أولًا: البداية واليأس غير المفهوم:

image

"أحيانًا يبدأ يومك دون أن تصبو إلى شيء"

تبدأ القصة بهذا السطر الوحيد الذي يخاطب القارئ هادمًا أي احتمالات غير تلك البداية غير الواعدة التي يفترضها النص كشعور واجه الفتاة حين استيقظت، نافيًا أي تطلعات، مستبعدًا أي احتمالات، وهنا يظهر أن النص يؤدي وظيفة سردية أساسية بينما الرسم يظهر وظائف قد تبدو بعضها ثانوية.

الفتاة في اللوحة كأنها قد استيقظت للتو بمزاج ونفسية قاتمة، ولا يظهر السبب في ذلك فهو غير مهم، ولكن المهم هو الشعور الذي كان يتكثف كأوراق الشجر اليابسة والمتساقطة من السقف. الباب مغلق والستائر منسدلة والغرفة قاتمة وغير مشرقة، الأثاث فيها قليل، كتاب، وكوب، ولوحة على الجدار، ومصباح، وكأن الأمور قد تبسطت واختُصرت إلى أقل ما يمكن.

image

"وتبدأ الأمور في التدهور من سيئ إلى أسوأ"

دون أي تفاصيل في الأحداث أو ذكر لماهية الأمور التي تتدهور، ودون إيراد لأي أسباب، فإن النص يشير إلى أن كل شيء قد تدهور، مع أن الأمور كانت سيئة منذ البداية، منذ أن استيقظت الفتاة ووجدت أن بعض الأوراق تتساقط. وتبدأ الصورة في تكثيف هذه الحالة والمبالغة فيها عبر تراكم أوراق الشجر القاتمة والجافة حتى كأنها تصل إلى حد إغراق الفتاة. تتكوم في جميع الأركان ولا تتوقف عن التساقط، وتبدو الفتاة كأنها تحاول الهروب من كل هذا الذي يحدث، فتفتح الباب وتهم بالخروج.

image

"لا أحد يفهم"

بهذه الجملة النافية القصيرة يبدأ هذا المقطع تاركًا للقارئ مساحة لاستنباط ما قبل حالة عدم الفهم، وماذا يمكن أن تكون مسبباتها.

وبالمقابل، فإن نص الصورة المجاور لا يشرح تفاصيل الأسباب التي أدت إلى عدم وجود أي أحد يفهم بقدر ما ركز على حالة الوحدة والانقطاع، التي يصورها وجود الفتاة في قارورة بها بعض الماء الذي لا يشي بالارتواء أبدًا. الفتاة تلبس قناعًا يفصلها عن كل أحد، قناع من معدن لا يمكّنها أن تسمع أو ترى. الفتاة تجلس بمنتهى الانكسار في مساحة لا أحد يعلم كيف دخلت إليها أو كيف ستخرج، والقارورة ملقاة على أطراف شاطئ وكأنها إحدى تلك الرسائل التي كان يرميها كاتبها في البحر دون أن يتأكد إن كانت ستصل إلى وجهتها أم لا. السماء غائمة وتنذر بعاصفة، كل ذلك تداعيات رسم لجملة "لا أحد يفهم" وتأكيدًا للمعنى الذي لا حدود له.

ثانيًا: الشعور بالضياع وعدم القيمة:

image

"الظلام يكتنفك"

تتكرر الجمل القصيرة المحملة بالكثير، التي تبدو ثيمة هذا الكتاب. النص يشير بكلمتين إلى أن الظلام يأتي بأشكال كثيرة وأنماط عدة، ويفسَّر بمختلف التفسيرات والأسباب التي يصعب حصرها. ويؤكد الكاتب مرة أخرى على أن كل ما سبق من تأويلات ليس مهمًا، ولكن المهم هو تلك الحالة الشعورية المظلمة التي تكتنف الإنسان عند تعرضه لبعض مواقف الحياة.

والرسم يأتي مجاورًا للنص القصير ودالًا على الكثير من المعاني والمشاعر. ويعبر عنه بسمكة ضخمة عالقة في حي صغير، تظهر السمكة بملامح حزينة وكأنها تبكي. وفي الظل المظلم لهذه السمكة تمشي الفتاة منكسرة وكأن السمكة تتبعها وتزيد من شعورها بالضآلة، ويمشي حولها الكثير من الناس لكن لا أحد يأبه بها، أو ربما لا أحد يراها أو يرى السمكة رغم ضخامتها.

image

"أحيانًا لا تدري من كنت أو من ستكون"

في هذه العبارة نفي لعامل الزمن ودوره في معرفة الهوية الحقيقية، فلا أقسى من أن يكون الإنسان بلا ماضٍ ولا مستقبل، وهويته تضيع بين الزمنين. ربما من هول ما يمر به نسي هويته في الماضي وليس بوسعه التنبؤ بالمستقبل.

الفتاة ترسم نفسها بلا ملامح على جدار مليء بالخربشات ولطشات الألوان والرسومات والكتابات، ويمتد تأثير الجدار إلى الأرضية التي تقف عليها الفتاة، التي امتلأت بقوارير وكؤوس الألوان التي تبدو فيها فرشة رسم وحيدة. العصافير الحمراء تحاول البحث عن شيء تأكله، والفتاة ترسم بترددٍ هيكلها كما تقف، الذي يبدو حزينًا ومطرقًا.

image

"ولا مفر من الأقدار الرهيبة"

يؤكد النص على أن الأقدار الرهيبة لا مفر منها مما يغلق الدائرة على الفتاة ويحبسها في مدينة الأقدار التي يصورها الرسم: طينية معدنية حمراء ذات غصنين شجر فقط، لكنهما جافان. المباني مائلة وغير مستوية، طويلة وضيقة بشبابيك قليلة، وأحد المباني يبدو مثل فك مخلوقٍ مفترس ومعدني تفرّ من حوله الطيور. الفتاة تمشي بتثاقل حاملة نردًا لترميه وكأنها في صفحة لعبةٍ ستمشي فيها حسب النرد الذي سترميه في نهاية الممر الطويل. حول مربع اللعبة صورٌ للمربعات التي ستمشي عليها الفتاة -كقدر رهيب- بعد رمي النرد. الصور تتراوح بين أيادٍ وجماجم وبومٍ وعنكبوت وثعابين وساعة رملية وأشياء أخرى، مع وجود ورقة شجر حمراء واحدة وسط كل هذا القفر.

ثالثًا: نهاية الرحلة وبزوغ الأمل:

image

"ويبدو أن اليوم سينتهي بنفس الطريقة التي بدأ بها.. إلا أنها فجأة.. تظهر أمامك هناك.. واضحة بهدوء"

بعد كل الأسى والحزن والسوداوية التي كان السرد يتسمّ بها، تتغير نبرته تمامًا لتصبح أكثر تفاؤلًا.

الجملة الأولى مكتوبة وحدها في صفحة رمادية بدون رسم، وكأنها تود للحظات أن تظل إلى آخر قطرة وتنهي كل المشاعر الحزينة قبل المفاجأة في الصفحة المقابلة التي تتكون من الرسم وتحته النص، النص به كلمات قصيرة لكنها تقلب المشهد: فجأة، تظهر، أمامك، واضحة، بهدوء، كلمات تغير من إيقاع النص.

أما بالنسبة للرسم، فيظهر الباب مفتوحًا، والغرفة لا تزال مظلمة، ولكن يتسرب بعض النور الذي يُظهر نبتة صغيرة حمراء. النبتة لا زالت صغيرة والكوب على حاله فوق الكتاب، والفتاة تبدو نوعًا ما مترقبة. والستائر تظهر وكأن الوقت ليل مما يشير إلى نهاية اليوم، وكأن كل ما فات -رغم ثقله- قد كان خلال يوم واحد فقط. وللمدى الزمني في القصة دلالة واضحة.

image

"كما تتخيلها تمامًا"

عاد النص للجمل القصيرة ليختم بها القصة، وعاد الكاتب لمخاطبة القارئ بشيء من الغموض الذي يفتح باب التأويلات، من هي التي ظهرت؟ وكيف كنت تتخيلها؟ وهل كنت بانتظارها أصلًا حتى تُبشّر بها؟

أما الرسم فيُظهر شجرة حمراء زاهية الاحمرار كبيرة تملأ الغرفة حتى أن نهايتها العلوية لا تظهر. تقف الفتاة مبتسمة ومستسلمة في ظل الشجرة بلا أي انكسار في وقفتها أو ملامحها.

ومن حيث النص والرسم نجد أن كلاهما يعود للبداية، ففي الغرفة نفسها التي بدأ بها اليوم انتهى أيضًا، وتساقطت أوراق الورق الجافة في بداية اليوم، ثم عادت الشجرة كبيرة ومنتصبة ومحمرة الأوراق في نهايته. وكأن الرسام بدأ بالخريف وعاد للربيع بعد شتاء المشاعر على طول اليوم، وكأن الأمر احتاج يومًا فقط كي يتبدل من حال إلى حال، مهما بدا هذا اليوم في حساب الزمن الواقعي طويلًا.

الخاتمة

لم أعرض كل صفحات القصة، ولكن اكتفيت بعدد من المشاهد: مشهدان للبداية ثم التصاعد الدرامي المليء بالعاطفة، الذي عُرض في أربعة مشاهد من 11 مشهدًا، ثم مشهدي الخاتمة. وفي هذه القصة المصورة يلاحظ أن المشاهد في منتصفها هي الأكثر، تلك المشاهد يمكن قراءتها بشكل غير متسلسل، لكنها تبث الشعور نفسه في كل مرة وتصل للفكرة نفسها نصا ورسما، ذلك اللاتسلسل لن يؤثر في سياق القصة. لكن البداية والخاتمة كانتا في مشهدين فقط، وكأن الأمر يبدأ فجأة وينتهي فجأة رغم صخب الأحداث والمشاهد والمشاعر في المنتصف.

ولعل تعدد مشاهد التصاعد الدرامي علامة لأحداث مشابهة دون التفصيل فيها، فالمهم هنا هو البدايات غير الواعدة والمشاعر التي تضطرم لوقت غير قصير، ثم النهايات التي تأتي واضحة وهادئة لكنها ثابتة، ولعلها طريقة أخرى تتجاور فيها العلامات اللفظية مع العلامات المرئية لقول الله تعالى: "إن مع العسر يسرا".

ومن مشاهد القصة نلحظ أن الصورة لا تقل أهمية عن النص في بعض الأعمال؛ بل إنها تأتي محملة بالكثير من التفاصيل التي أيضًا تترك مساحة للقارئ ليتأرجح بينهما مع وجود مساحة له للتأويل الخاص والشخصي، كما تأتي محملة بالثنائيات التي تظهر في بعض المفاهيم كما يظهرها الرسم بشكل واضح، كالتضاد بين مفهوم اليأس والأمل وبين صورة الورق الأسود الجاف والشجرة الحمراء الوارفة، وبين الضوء والظلام ووجه الفتاة الحزين في بداية القصة، ووجهها المبتسم في نهايتها، كما أنه يلجأ للتجريد المطلق في دلالاته اللفظية، ويحول دون تحليل المرجعيات الثقافية والاجتماعية التي تكشف وجه النص ووجه صورة النص، وهذا يتماشى مع موقف السيميائيين الذين يرون أن النص تأليف مفتوح وإنتاج يتخطى حدود الآن متميزًا بقدرته على استيعاب مضامين الحياة لأن النص في مباحث السيميائية مجال للفعل الإنساني الذي يتميز بحركة مستمرة ومتشظيّة (رضوان وعباس، 2017).

ومن الملاحظ أيضًا في هذا العمل أن كاتب النص هو الرسام ويتكرر ذلك مع عدد آخر من الكتّاب الذين يرسمون هم أيضًا نصوصهم، مثل: أوليفر جيفرز، ولورين تشايلد، ووليد طاهر. ولا بد من القيام بدراسة حول هذه الظاهرة حين يكون الكاتب هو الرسام، وهل الأسهل أن يقوم الرسام برسم نصوصه الخاصة حتى تكون معبّرة بكل هذه الاحترافية والتفاصيل والتكامل.

في النهاية، فإن مثل هذه النصوص تكون غير محددة بعمر معين، ويمكن تأويلها وإسقاطها بأشكال مختلفة وفهمها على عدة مستويات، كما أنه يسهل من خلالها التطرق لموضوعات معقدة وإيصالها بشكل سهل. فالاكتئاب كان موضوع هذا الكتاب، وقد طُرحت موضوعات أخرى بنفس طريقة السدر المرئي، مثل: الفقد والموت في كتاب "القلب والزجاجة"، وفلسفة اللغة في كتاب "طفلة من كتب"، وأنواع الشخصيات وتقلباتها في كتاب "سبع أرواح"، وغيرها من الكتب التي تتجاور فيها العلامات اللفظية والبصرية بشكل ثري وحديث للغاية.


    المصادر و المراجع
    ● البهيتي، نجيب محمد. المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين. الطبعة الثانية. دار الثقافة في الدار البيضاء. (1985).
    ● رضوان، ليلى وعباس، سهام. المنهج السيميائي في تحليل النص الأدبي. حولية كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالإسكندرية. المجلد الأول من العدد الثالث والثلاثين (2017).
    ● الزهراني، عادل خميس. من رمضاء الهوية إلى نارها: قلق الأصل والفصل في رواية (رغوة سوداء). كلية الآداب والعلوم الإنسانية: جامعة الملك عبد العزيز (1443).
    ● المكتبة الوقفية (1122).
    ● Oittinen, Ritta. Where the Wild Things Are. Aller au summaries du numero (2003).
    ● Pier, John. Narrative Levels. Wolf Schmid. (2022).
    ● Salisbury, Martin and Styles, Morag. Children’s picture books the art of Visual storytelling. Laurence King Publishing Ltd. London (2012).
    ● Shaun tan. lost and found. Arther and Levine books. Scholastic (2011).
    ● Haunted Wood: A History of Childhood Reading. Sam Leith. Sutherland House Books. Toronto (2024).

  • [1] فاز كتاب "الشجرة الحمراء" بجائزة "باتريشيا رايتسون" ضمن جوائز الكتب التي يقدمها رئيس وزراء نيو ساوث ويلز، كما حصل على جائزة "لو بريس أوكتوغون" من مركز الدراسات الدولية للأدب الشبابي بعد ترجمته إلى الفرنسية. تُرجم الكتاب إلى لغات متعددة، وظهر في الولايات المتحدة ضمن مجموعة "ضائع وموجود" التي نشرتها شركة سكولاستك.