د. آلاء رفعت حسن النعيم القرشي
المقدمة
يرى المؤرخون أن السينما مزيج من عناصر أدبية سابقة كالمسرحية الهزلية، والميلو دراما الشعبية، فضلًا عن المحاضرة التوضيحية، كل هذه الفنون صهرت في وعاء واحد أخرج المنتج السينمائي، الأمر الذي عبر عنه أ. د. عادل الزهراني أستاذ النقد الحديث بـ"منذ القدم شغلت صورة الظل وانعكاس الضوء عقول العلماء والفنانين، منذ الصيني موزي، وظل شجرة ابن الهيثم في سجنه، وغرفة ليوناردو دافنشي المظلمة، حاولت البشرية الاستفادة من هذه الأبعاد الفيزيائية لتطوير تقنية تسمح بالتقاط الصور كما هي، بعد أن كان الاعتماد التام على الرسم اليدوي، وكان من نتائج هذه المحاولات اختراع آلات التصوير بداية القرن التاسع عشر، أعني تلك التي قدمها الفيزيائي والفوتوغرافي الفرنسي نيسيفور نييبس، من أولى التطبيقات نحو عالم الصور المتحركة"، كتاب في نقد السينما: تقاطعات السينما والأدب والفلسفة، 2023. وعن السينما الإفريقية، فإن تاريخها يعود إلى أوائل القرن العشرين. خلال الحقبة الاستعمارية، لم تظهر الحياة الإفريقية إلا من خلال عمل صانعي الأفلام البيض أو الاستعماريين أو الغربيين، الذين صوروا السود بطريقة سلبية، على أنهم «آخرون» غريبون. وهناك اختلافات بين سينما شمال إفريقيا وسينما جنوب الصحراء، وبين دور السينما في دول القارة. وفقًا لسوزان هايوارد في كتابها سينمات العالم الثالث: السينما الإفريقية، 2006.
يعود تاريخ بداية السينما السودانية إلى العام 1912م في ظل قوات الاحتلال البريطاني، التي عرضت أول فيلم وثائقي قصير في مدينة الأُبيض، التي تبعد 588 كيلو مترًا جنوب غربي الخرطوم، وكان حينها يوثق لافتتاح السكة الحديدية لربطها بالعاصمة، في حين شهدت بعد ذلك مراحل متغيرة، فمن بدايات استعمارية اتخذت منها سبيلًا لتمرير أجندتها، إلى تعثرات وطنية لاحقة تماهت فيها مع الناس حينًا وغيّبت بإرادة من السلطات حينًا آخر، ظلت السينما السودانية غضة تواجه قيودًا مجتمعية، وبيروقراطية، وسياسية في الثلاثين عامًا من فترة نظام الحكم السابق، حتى صار تصوير فيلم سينمائي جرمًا قد يوجب الاعتقال والتنكيل. مع ذلك، صار حاضر السينما السودانية الآن أصبح مختلفًا بإنجازات سينمائية صاعدة خلال السنوات الأخيرة، وحصولها على أرفع الجوائز العالمية السينمائية المرموقة، ما يبشر بمستقبل مشرق لها. يُعدّ فيلم (وداعًا جوليا) للمخرج والمؤلف محمد كردفاني، والمنتج أمجد أبو العلا، وطاقم التمثيل: المسرحية والمغنية إيمان يوسف (في دور منى)، وعارضة الأزياء سيران رياك (في دور جوليا)، ونزار جمعة (في دور أكرم) وغيرهم، الذي عرض في مطلع 2023، من أبرز الإنتاجات السينمائية السودانية الحديثة؛ حيث يقدم رؤية فنية جريئة ومؤثرة تسلّط الضوء على تعقيدات الهوية والثقافة في سياق اجتماعي وسياسي مشحون. الفيلم يروي حكاية إنسانية عميقة تُبرز تجارب نسائية تكافح في وجه واقع مليء بالتحديات، ما يجعله عملًا غنيًا بالرمزية والمضامين التي تستحق التوقف عندها.
تركز هذه الدراسة على تحليل الساعة الأولى من الفيلم، وهي الفترة التي تُبرز الشخصيات الرئيسة وتُمهّد للسرد الدرامي المكثف. يتناول التحليل موضوع الهروب كعنصر محوري، ليس فقط كوسيلة للهروب من الواقع، بل كرمز يعبر عن الحاجة إلى التحرر والخلاص النفسي. كما تستكشف الدراسة طبيعة الصراع بين رقة الهوية النسائية وما تواجهه من ضغوطات مجتمعية، ما يُظهر تداخل الأبعاد الفردية والجماعية في حياة الشخصيات النسائية. تكتسب هذه الدراسة خصوصيتها في هذا التوقيت؛ حيث يشهد السودان حربًا أهلية مستمرة منذ عامين، وهي أزمة ألقت بظلالها على الواقع الإنساني والاجتماعي للبلاد، وكان للنساء فيها النصيب الأكبر من الظلم والعدوان، الأمر الذي وصفته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مقالتها التي تناولت الانتهاكات الجنسية لخمسة نساء سودانيات نشرتها على موقعها الإلكتروني في 17 أبريل 24، بأن النساء السودانيات يشهدن وبشكل غير مسبوق مستويات مروعة من العنف. في ظل هذا السياق، يبدو الفيلم وكأنه نافذة تتيح للجمهور فرصة للتأمل في القضايا المرتبطة بالهوية والانتماء والتعايش في ظل التوترات والصراعات. إن تحليل هذا العمل في ظل هذه الظروف يُبرز كيف يمكن للسينما أن تعبر عن الأزمات المجتمعية وتعيد صياغتها بطريقة تتسم بالعمق الإنساني، الأمر الذي أشار إليه مخرج الفيلم ومؤلفه محمد كردفاني بعد نجاح الفيلم في صالات العرض المصرية في لقاء مع صحيفة العرب في تاريخ 19/4/2024 وفي عددها 13096 "تمنيت أن يعرض الفيلم في السودان ولديّ شعور غير مفهوم أن تكون هذه الحرب التي أكرهها وأنادي بوقفها من أسباب تأثير الفيلم على الناس"، ويضيف كردفاني "لا يجب أن يتوقف الفن أو يؤجل أو يُلغى فنحن نحتاجه في الظروف الحالكة أكثر من حاجتنا إليه في الظروف العادية".
تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على طريقة معالجة الفيلم لقضايا، مثل: الهوية، والجندر، والبحث عن الذات، وذلك من خلال استكشاف البناء الدرامي للشخصيات والعلاقات التي تجمع بينها. يُقدم الفيلم فرصة فريدة لفهم كيف يمكن للسينما أن تعبر عن قضايا إنسانية محلية مع أبعاد تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية، ما يعكس تطور السينما السودانية وقدرتها على إيصال رسائل عالمية بأسلوب فني مميز. من خلال هذا التحليل، تسعى الدراسة إلى تقديم فهم أعمق كعمل فني يتجاوز دوره الترفيهي؛ ليصبح مرآة تعكس صراعات إنسانية واجتماعية مركبة، لا سيما في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها السودان.
أهمية الدراسة
يرى البروفيسور ويليام كوستانزو الناقد والمنظر السينمائي، أن السينما تمثيل حي وعملي لمقولة العولمة: العالم قرية صغيرة. ويكمل: كما أن النظر إلى التوجهات والقضايا والتيارات الداخلية لهذه الأفلام يفضي إلى ثقافة العالم الذي صدرها، والثقافة التي أنتجتها، فيطلع الجميع على العادات والتقاليد والصراعات والقضايا المؤرقة في أجزاء مختلفة من العالم، ما يمكنهم من تطوير تصوراتهم عن المجتمعات والأفكار وراء هذه الأفلام، وبالتالي توسيع رؤيتهم للعالم، وزيادة احتمال انغماسهم في تنوعهم الغني. إضافة إلى ما قدمت به أهمية السينما كفن حديث، فإن دراسة وتمحيص ما يحمله هذا الفن يحمل أهمية كبيرة تعود بالإثراء المعرفي والفني الكبيرين. بالتالي فإن دراسة ثيمة الهروب في فيلم (وداعًا جوليا) للمخرج محمد كردفاني دراسة مهمة؛ حيث إنها تسلّط الضوء على ثيمة متكررة وعميقة في السينما، وتمثل حاجة الإنسان إلى التحرر من ضغوط الواقع، أو البحث عن الذات، أو الهروب من القيود المجتمعية. دراسة هذه الثيمة تُسهم في الكشف عن أبعاد متعددة، وكيف يمكن للهروب أن يكون وسيلة تعبيرية للاحتجاج والرفض أو حتى البحث عن الأمان في ظل الأحداث السياسية والاجتماعية المعقدة، والتناوش بين الأفراد والأنظمة، في ظل ظروف مضطربة تناولها الفيلم.
وفي تناولي للهروب كموضوع مركزي لهذه الدراسة سأحاول أن أعكس الأبعاد النفسية والجسدية للشخصيات التي تسعى للتحرر، سواء أكان ذلك من خلال الهروب الداخلي أم الخارجي. أهدف في هذه الدراسة إلى تقديم قراءة نسوية تحلل هذه الثيمة في إطار أحداث الفيلم في ساعته الأولى، وكيف يعكس الهروب دور النساء في المجتمع السوداني وصراعهن من أجل إيجاد صوتهن وهويتهن، وكذلك لأضيء معكم مثالًا جديدًا حول قدرة السينما على التعبير عن قضايا النوع الاجتماعي في سياق عاصف ثقافيًا واجتماعيًا. كذلك، فإنه لا يمكن النظر إلى الفيلم كعمل سينمائي عادي؛ فقد نجح في حصد عشرات الجوائز المرموقة على المستويين المحلي والدولي، ما يعكس تميزه في معالجة قضايا إنسانية وسياسية معقدة بأسلوب سينمائي فريد، ويجعله أنموذجًا جيدًا لدراسة هذه الثيمة بمنهج نسوي.
تتشكل مشكلة هذه الدراسة في تفسير دور الهروب كأداة سردية في الفيلم، الأمر الذي لم يحظ بالكثير من الاهتمام والتعمق من النقدين السوداني والعربي. هذه الورقة تهدف إلى ملء الثغرة المعرفية المتعلقة بتفسير الهروب، ليس من أجل الهروب من الظروف الاجتماعية الخانقة وحسب، ولكن كإستراتيجية مقاومة للضغط الاجتماعي والسياسي على النساء في العصر الحديث. ومن خلال منظور نسوي، ستتناول هذا الورقة كيف أن الهروب في الفيلم يعكس صراع الشخصيات النسائية في مواجهة القمع الاجتماعي المرتبط بالهوية الجندرية والعرقية.
أسئلة الدراسة
وهما سؤالان رئيسان:
ما صور الهروب في الساعة الأولى من الفيلم؟
وما الآليات والأساليب السينمائية التي استخدمها المخرج للتعبير عن هذه الصور؟
المنهج
المنهج النسوي.
حدود الدراسة
الزمان: 2005م قبيل انفصال الجنوب.
المكان: الخرطوم.
الهيكلة
المبحث الأول: تأثير الأوضاع السياسية في الشخصية النسائية في بيئة ذكورية (أول 15 دقيقة من الفيلم).
الأفكار:
- التوترات السياسية وتأثيرها في النساء: في بداية الفيلم، يُسلط الضوء على الظروف السياسية والاجتماعية الصعبة في الخرطوم عام 2005، في المنزل الفاخر للزوجين الشمال سودانيين منى وأكرم، يبدأ الفيلم في الدقيقة الأولى بمشهد مظاهرة احتجاجية أعقبتها أعمال شغب وتخريب قام بها جنوب سودانيين في الخرطوم، وبعد خبر مقتل زعيم الحركة الشعبية د. جون غرنغ، الأمر الذي كان شرارة لانفجار الغضب الجنوب سوداني، بينما وجدت جوليا نفسها وزوجها سانتينو وابنها دانييل بلا مأوى بعد طردهم من منزلهم باتفاق من أعضاء الحي، في موقف متعصب من الجيران الشمال سودانيين ضدهم بعد الأحداث، يمكن استكشاف كيف تؤثر هذه التوترات في حياة الشخصيات النسائية في الفيلم؛ حيث يعبر المخرج عن تأثير القمع الاجتماعي والسياسي في الأفراد، يعكس المشهد الأول منذ بدايته الإقصاء السياسي ضد النساء في تلك الفترة من حكم السودان الذي أدى لجهلهن بأبسط معلومات الصراع بسؤال منى زوجها عما يجري، وهو الأمر الذي أشار إليه زوجها لاحقًا في أكثر من مشهد في الفيلم بتلميحات وأقوال أكثرها وضوحًا:" أنتي بتعرفي شنو عن الجنوبيين؟". نرى كيف أن المرأة في هذا السياق تجد نفسها محاصرة بين التوقعات المجتمعية والضغوط السياسية. ويمكننا تحليل كيف تُقدّم الشخصيات النسائية السودانية في إطار ضيق جدًا من المجتمع.
- دور النساء في المجتمع: قدمت الشخصيتان النسائيتان الرئيستان منى وجوليا دورًا تقليديًا للمرأة في المجتمع السوداني آنذاك، كلاهما ربتا منزل، لا تعملان خارج المنزل، منى مقتصرة على دورها زوجة، وجوليا زوجة وأم، تظهر منى في أول لقطاتها تحرق البيض وتخفيه عن زوجها إشارة إلى شعورها بالخزي من هذا الإخفاق البسيط، بينما تظهر جوليا وهي تصنع الشاي، ويظهر موقد جوليا في مشهد رأسي قريب مليئًا بأعقاب أعواد الثقاب، وهي رمزية سينمائية للخيبات المتكررة التي لم تُعالج. تظهر كذلك أشول الفدادية (صانعة الخمور البلدية) في لفتة موفقة من المخرج، وهي أخت سانتينو التي كان لها دور في إيواء سانتينو وأسرته في منزلها بعد طردهم من منزلهم، ودور أشول بائعة الخمور الجنوبية هو دور أصيل تقليدي شائع في المجتمع السوداني، يظهر بصورة واسعة في الأدب، بينما هو قليل الظهور في السينما.
- الهروب كأداة مقاومة: تظهر منى مقاومة، هاربة من دورها الاجتماعي المفروض قسرًا عليها، وهو دور الزوجة ربة المنزل الكلاسيكية، التي تتخلى عن موهبتها في الغناء لإرضاء أكرم زوجها، وتظهر في لباس ديني (عباءة ونقاب)؛ لإخفاء هويتها، بينما تزور المقهى الثقافي الذي كانت تمارس نشاطها الغنائي فيه لحضور حفل غنائي. تظهر جوليا كذلك بعدما انتقلت إلى منزل ذويها المتواضع، وتزعزع حياتها المستقرة بصورة غير متوقعة بعد الانفلات السياسي، ما جعلها نافدة الصبر ومتوترة من هذا الحال الصعب كما وصفته: "لا مويه لا كهرباء لا غاز"، الأمر الذي جعلها في حالة مقاومة عبرت عنها بالهروب من دورها الحميمي تجاه زوجها.
يمكن ملاحظة كيف تبدأ النساء في التفكير في الهروب من الواقع القمعي والظروف الحياتية الرديئة على مستوى العلاقات الاجتماعية، هذا الواقع الذي يلاحق المرأة السودانية حتى اليوم، وهو الأمر الذي أشارت إليه الناقدة ليزا نيلسون كتبت عبر موقع سكرين دايلي: إنه رغم أن أحداث الفيلم قبل 15 عامًا تقريبًا، فإنها ما تزال واقعًا حاضرًا حتى الآن. وأضافت: نجد في الفيلم العديد من الآفات المجتمعية منغمسة في الحياة اليومية السودانية بشكل اعتيادي ومترسخ، مثل: العنصرية، والتمييز الجنسي، وشخصيات مثيرة للاهتمام تثقلها المآزق المعقدة في الحياة.