أمجاد بنت عبد الله الغامدي
المقدمة
يُعدّ الرمز أداة تمكّن الشاعر من التعبير عما بداخله بلغة غير مباشرة، فالرمز طريقة الشاعر للتعبير عن مكنونات نفسه باستخدام رموز معينة، ثم يترك للقارئ حرية خوض التجربة الشعرية بشكل أعمق، والرمز يتيح للشاعر استخدام دلالات معروفة، ولكن يوظفها بطريقته ورؤيته الخاصة، مثل: استخدام الرصيف دلالة للانتظار، فالشاعر قد يستعمله بغرض التعبير عن الوحدة والضياع والتهميش، وفي دلالة البحر أنه إشارة للهدوء والسكون والشاعر قد يعبر عن البحر بالأسرار والغموض وكل هذا ينعكس على زاوية الرؤية والأبعاد التي يتصورها، كما كَثُر استعمال الرمز عند شعراء العصر الحديث وتفننوا في استخدامه حتى أصبح مذهبًا فنيًا.
الرمز والأسطورة في الشعر الحديث
من أبرز الظواهر الفنية التي ظهرت في الشعر ظاهرة (الرمز والأسطورة) التي كثر استعمالها وخاصة في الشعر الحديث، فاستُعملت بصفتها أداة للتعبير "وقد يلجأ الشاعر إلى الأسطورة للتعبير عن قيم إنسانية محددة أو لأسباب سياسية بأن يتخذ الأسطورة أو الشخصية الأسطورية قناعًا يعبر من خلاله عما يريد من أفكار ومعتقدات تجنبًا للملاحقات السياسية والدينية" [1] فالشعراء اتخذوا الأسطورة كأداة وقائية للتعبير عن ذواتهم، ولكي يفهم النص الشعري المتضمن للأسطورة أو الرمز، على القارئ معرفة كل رمز وما يشير إليه، فاستخدام الإشارة أسهل على الشاعر "وليس غريبًا أن يستخدم الشاعر الرموز والأساطير في شعره، فالعلاقة القديمة بينهما وبين الشعر ترشح هذا الاستخدام، وتدل على بصيرة كافية بطبيعة الشعر والتعبير الشعري، ولكن التأمل في طبيعة الرموز والأساطير التي يستخدمها الشعراء المعاصرون وطريقة استخدامهم لها يدعو دعوة ملحة إلى الاهتمام بهذه الظاهرة إجمالًا وتقويمها [2]
[3] قصيدة سفر أيوب
لكَ الحـَمدُ مهما استطال البـــلاء
ومهمــا استبدَّ الألـم
لكَ الحمدُ إن الرزايـا عطـــاء
وإنٌ المَصيبــات بعض الكـَـــرَم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام؟
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجـِـــراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
ولكنّ أيّوب إن صاح صــــــاح
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمٌ إلى الصدر باقتــها
هداياكَ في خافقي لا تَغيــب
هاتها ... هداياكَ مقبولــةُ
الرمزية في قصيدة (سفر أيوب)
يطبق الرمز الديني الذي استلهم أبعاده من النص القرآني وقصصه في المقام الأول؛ حيث استحضر الشاعر قصة النبي أيوب -عليه السلام- من القرآن الكريم رمزًا ودلالة على الصبر، والتجلد والإيمان بقضاء الله، والحمد والشكر لله، فمن العنوان تظهر لنا الرمزية ويؤكدها من خلال مقدمة القصيدة التي جاءت بقوله:
لكَ الحـَمدُ مهما استطال البـــلاء
ومهمــا استبدَّ الألـم
لكَ الحمدُ إن ٌ الرزايـا عطـــاء
وإنٌ المَصيبــات بعض الكـَـــرَم
فالشاعر هنا يطبق الرمز الديني من مطلع القصيدة فهو يحمد الله على استطالة البلاء، ويُعرف عن نبي الله أيوب أنه استطال بلاؤه، فدام لسنوات طويلة والشاعر هنا لا يعترض أو يقنط، بل يحمد الله ويُعدّ ذلك البلاء بعضًا من كرم الله، ولم يمثله بالكرم الكامل، بل بعضًا من الكرم ويكمل القصيدة بالتساؤل:
ألم تُعطني أنت هذا الظلام؟
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟ [2].
فيستمر باستعمال دلالات الرموز الدينية، لكن الدلالات هنا متقاربة (الظلام، السحر) والتساؤل الثاني: هل تشكر الأرض قطر المطر؟ من بعد الجفاف والقحط ستشكر الأرض ذلك المطر الذي أخرجها من حالة الجفاف إلى حالة الخضرة، والشاعر هنا لم يستوضح ما أراد قوله وإن كان مفهومًا من خلال السياق، فهو يعبر عن نفسه بتلك الأرض لأنها راضية عن حالة الشدة والرخاء طالما أنها جاءت من ربٍ كريم، ومن بعد هذا التساؤل يعود لذكر الدلالات الرمزية من خلال قصة نبي الله أيوب في قوله:
شهور طوال وهذي الجـِـــراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
استلهم الشاعر الجروح وتمزق الجنب والداء الذي لا يهدأ من قصة نبي الله ومعاناته في العزلة والمرض الذي مزقه، فهنا تأكيد على الدلالة الرمزية التي يستدعي فيها الصبر ما استطاع، فالشاعر هنا يعبر عن نفسه بين ثنائية الألم والأمل، ففي آخر قصة نبي الله ينعم ويستعيد ما فقده، فكانت هذه هي المكافأة الإلهية لمن يواجه الشدائد بالصبر، فالشاعر يسلي نفسه باستخدام الرمزية وبعد الصبر هناءٌ وأمل، فرمزية القصيدة ظهرت من خلال عنوانها، ثم في باقي أجزائها.
والرمز من أهم الأدوات الفنية التي تمكّن الشاعر من التعبير، وفي النص الشعري استطاع الشاعر أن يحرّك دلالات البعد النفسي في القصيدة من آلام وأحاسيس تبوح بها، فقد تحققت الرمزية الدينية في معظم القصيدة، ويمكن أن تتحقق الرمزية كذلك بوجود التشبيه، فقد وظف الرمز للإيحاء بمعانيه مستخدمًا الصور المركبة التي تتحقق في التشبيه، مثل في قول الشاعر:
تحجّبُ وجه السماء
بعينيّ حتى تغيب النجوم
وتتحقق رمزية الزمان والمكان، في قول الشاعر:
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
جميل هو الليل: أصداء بوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
فوظيفة الرمز تنبثق من عنوان القصيدة ثم في القصيدة، وهي مركز ومصدر للإدهاش والتأثير، وتجسيد لجماليات النص الشعري، كما يُسهم في الارتقاء بشعرية القصيدة وعمق دلالتها وشدة تأثيرها في نفس المتلقي، فالشاعر استلهم تجربة النبي أيوب في محنته المرضية، فأيوب دلالة على الصبر والإيمان في المحن والرضا التام بقضاء الله وقدره؛ حيث نرى أن السياب قد عانى من تقلبات نفسية وجسمية حاملة دلالات الصبر والحمد، وتحمل المصائب، جاعلًا ما ابتُلي به النبي أيوب اختبارًا بين العبد وربه، نزوعًا إلى إيمان راسخ بالقدر الذي لا يُرد.
الخاتمة
بعد تحليل الرمزية الشعرية للصبر في القصيدة؛ نتج عن ذلك الآتي:
● استخدم الشعراء المعاصرون الرمز، فتفننوا في توظيفه واستثماره.
● تجلّت الرمزية الدينية في قصيدة (سفر أيوب) بشكل واضح.
● الرمز بمعطياته يُعدّ من أفضل أدوات الشاعر الدلالية لتحقيق ما يصبو إليه؛ لأنه يحمل التكثيف والإيجاز والتلميح تارة، وتعدد دلالاته ومعانيه ومراميه تارةً أخرى.
● وظّف الشاعر الرمز في قصيدة (سفر أيوب) للإيحاء بمعانيه، مستخدمًا الصور المركبة التي تتحقق في التشبيه، وكذلك تتحقق رمزية الزمان والمكان في القصيدة[4].
- [1]رمضان الصباغ، في نقد الشعر العربي المعاصر دراسة جمالية (مصر: دار الوفاء للطباعة والنشر، ١٩٩٨) ٣٤٤.
- [2]عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر وقضاياه ط٣ (بيروت: دار الفكر العربي، ١٩٩٥) ١٩٦.
- [3]بدر السياب، ديوان بدر شاكر السياب (بيروت: دار العودة، ٢٠١٦) ٢٩٧.