محمد عبد الجبار
مستخلص الدراسة
تتناول هذه الدراسة ما يمكن لنا تصنيفه كإعادة قراءة لمفهوم الحدث التاريخي، مُنطلقين من أن النص التاريخي قائم على الوقائع والأحداث المجردة التي تصف فعلًا بعينه أو حدثًا يؤسس لمرحلة ما في تاريخ إحدى الأمم، ويمكن لهذا الحدث أن يتفاوت في أهميته من عدمه تبعًا للمعطيات التي تُرافقه، ولما يمكن تسميته بالمناخ العام للأحداث، وكل هذا يمكن لنا التمكّن من الوصول للإطار الشامل له من خلال كتب التاريخ القائمة على ذكر الوقائع كحالة وصفية مرافقة للحال العام لهذا الحدث، وما يحمله من ركائز سردية ينطلق من خلالها.
وفي مُقابل كتب التاريخ التي تتناول الأحداث بوقائعيتها نجدُ كتب السيرة الذاتية حالًا مُرافقًا لكتابة التاريخ يُشبه ما يمكن أن نصطلح على تسميته بالمسار الموازي، لتلكم العملية السردية، ولكنه ليس تاريخًا صِرفًا يمكن الرجوع إليه بوصفه مُنطلقًا من العملية المنهجية للكتابة التاريخية، ولكن في الوقت نفسه هو لا يخرج عن كونه عملية توثيقية للإطار العام للحالة التاريخية، ولنقُل عنها أنها تقوم بوصف الحدث الذي يصفه المؤرخون، ولكن من منظورِ ما يقع في النفس البشرية من أثر لهذا الحدث عليها، وتُركز على هذا التأثر أكثر من تركيزها على الصورة العامة لمُعطيات التاريخ، بل يُمكن عدّها كاميرا شخصية تدخل داخل البيوت لتُصوّر انعكاسات الحدث على الناس و ما صنعه من خلال عمليات الحفر التشكيلي فيهم، بينما المؤرخ يظل ناظرًا للتأثير السياسي والتأثير في الحالة العامة وترتيبه وسط العملية السردية للوقائع، فعنده أن الحدث ما هو إلا عملية تراتبية تنشأ عنه حالة ما يقوم برصدها وتحديد أسبابها و تداعياتها، ويمكن لك قياس هذا في كل عملية تأريخية للأحداث، ويمكن لنا تطبيقه على المثال الذي سنطرحه في دراستنا هذه، الذي يُعدّ واحدًا من أهم أحداثها وهو حصار المدينة المنورة، الذي حدث في الفترة المرافقة للحرب العالمية الأولى، فهو حصار له مُسبباته ومدته وأشخاصه، ثم أنه مثل أي حدث سينتهي لأسباب سيطرت على الحالة العامة ويقف المؤرخ عند ذلك، ولكن في مُقابله مؤكدًا على التأريخ الموازي يقوم المُعاصر الذي يُقرر كتابة سيرته خلال الواقعة نفسها بأن يصف صدى الحدث الكبير خلف الجدران و دويّ كلمة "أطلق الرصاص"، التي أمر بها القائد العسكري في صدور الناس وهم يسمعون طلقات الرصاص وزخم المدافع، وهو وسط هذا لا يقوم بوصفها من منظور المراقب الذي يُعاين خط الزمن وحسب فيقول: "دخلت سنة كذا، وتوفي فُلان عام كذا"، بل هو يقوم على ما يصنعه هذا الدويّ وتلكم الرصاصات في النفس البشرية وما تتركه من متغيرات في المكان والزمان، وما ينطبع داخل صاحب السيرة من أركان وزوايا وأشخاص ومشاهد في الطرقات، مشاهد يمكن لك أن تراها لدى المؤرخ عابرة، ولكن قرارات في حياة صاحب السيرة قد تكون بُنيت على هذه العابرة، حتى يجعلك جزءًا من تلكم الأحداث تعيش تفاصيلها وتصاويرها فتخاف مع خوفه، وتترقب مع ترقبه وأنت في ترقب بعده ترقب لتعرف ما سيحدث له فيما بعد رغم اطلاعك على الأحداث التي ستصير لاحقًا، فأنت في مثال حصار المدينة، تعرف أن المدينة سينفك حصارها، وستعود آمنة، وسيعيش أهلها في رخاء كما كانوا من قبل، وستنتهي كما هي كل سنوات الحرب، وسيعود الناس لبيوتهم حقيقة حتمية أقرّتها السنة الكونية.
وقد اخترنا لهذه المقاربة بين هذين المسارين: السيرة الذاتية لعزيز ضياء والمسماة حياتي مع الجوع والحب والحرب. [1]. وقد كانت منهجية اختيارها من منظور أنها تُعاصر عدة أحداث تاريخية يُمكن تلمّسها من خلال مُفارقات الأحداث الشخصية التي مرّت بها، ويأتي ذلك تباعًا من خروجه أيام السفر برلك [2] من المدينة المنورة مُهاجرًا منها إلى الشام ومعه عشرات العائلات من خلال سكة الحجاز [3] لتصير المدينة صِفرًا خاليًا من الناس، ولم يعد فيها سوى المئات القليلة مرورًا بالمجاعات التي صارت في الشام والحروب التي دخلت فيها المنطقة. ولقد كانت رحلته هذه أشبه ما تكون بتسجيل الانطباعات لما كان أثناء الحرب العالمية الأولى، وأثرها في الناس وفي حيواتهم في دمشق وحلب، ثم ما تلا ذلك من عودة له إلى المدينة المنورة، ثم ذهابه فيما بعد إلى مكة المكرمة، وكل هذا كان يعاصر من خلاله أكثر من واقعة تاريخية يُمكن إجمالها اختصارًا بما يأتي: (حصار الأشراف للمدينة المنورة [4] ، هجرة أهل المدينة وقت سفر برلك، انسحاب الجنود في دمشق ومناوشات الحرب العالمية الأولى، تأثير حزب الاتحاد والترقي في الشام [5] ، توحيد الملك عبد العزيز للمملكة ودخول المدينة المنورة في حُكمه، بداية تحول مكة المكرمة والمنطقة للمدنية الحديثة).
مشكلة الدراسة
تركز الكتابات التاريخية الصِرفة على الحدث التاريخي بوصفه حدثًا يبدأ بفِعل معين، أو حدث ما، و من ثم يُتتبع هذا السياق من خلال الشخوص التي قامت به، حتى يصل المؤرخ للمرحلة الأخيرة في تأريخ هذه المرحلة و هو ما يمكن النظر له بكونه جامدًا إذا ما قارنّاه بالسيرة الذاتية التي تُكتب من المنظور الشخصي لانعكاس الحدث نفسه في ذات الكاتب، ويحضرنا هنا مثال يمكن من خلاله تتبع هذه الفكرة حين تقوم بتأريخ ولنقل إسلام سلمان الفارسي مثلًا ستقول إنه كان في حاضرة مجوسية وأبوه كان من قيّمي النار، و اختلط بالنصارى حتى اعتنق دينهم، ثم خرج في الترحال بعد أن هرب من قيود أبيه و ارتحل بين أكثر من مدينة، حتى انتهى به المطاف ليثرب قبل أن تستحيل للمدينة المنورة، وهناك بقي فيها حتى أطل رسول الله عليها -صلى الله عليه وسلم- وأسلم معه، لنا أن نتخيل هذا السياق من منظور تأريخي كما ذكرناه، ولكن لننظر لمنظور رواية سلمان نفسه لقصة إسلامه، ولنأخذ جزءًا من ذلك "( كُنْتُ رَجُلا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ (أي رئيسها)، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، أَيْ مُلازِمَ النَّارِ، كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ (أي خادمها) الَّذِي يُوقِدُهَا لا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً، قَالَ وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ (أي بستان) عَظِيمَةٌ، قَالَ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمً ... إلخ "، لاحظ هنا الفرق بين السياقين وكيف أن تفاصيل السيرة الذاتية جعلت من منظور القصة أكثر تشبعًا و تفصيلًا، وهو ما سنتطرق له خلال دراستنا.
أهمية الدراسة
يُمكن إفراد أهمية الدراسة أنها تقوم على فهم البُعد الذي يحمله المؤرخ من خلال كتابته، والإطار العام الذي ينطلق من خلاله، ومُقارنته بالإطار العام للسيرة الذاتية، وتحديد أهم المُحددات العامة لكلا النمطين، وكيف يُمكن أن ينعكس ذلك على ذهن المتلقي في فهمه وتقويمه العام للأحداث، وما يكون مُقاربًا منهما لواقع الحال، ويُمكن الاستناد إليه بوصفه مادة يُعوّل عليها في البناء المنهجي للفهم التاريخي وما يتصل به.
1- تحديد أثر منظور قراءة التاريخ من خلال السيرة الذاتية على فهم المنظور العام للحال المحيط بالحدث.
٢- تحديد أوجه ضعف السردية التاريخية القائمة على سرد الأحداث دون التطرق لتفاصيل المجتمعات ودواخلها.
٣- فهم انطباع المدينة في نفس الراوي للسيرة الذاتية، ومدى توصيفها لحالة المدينة بصورة تفصيلية للصورة العامة.
تساؤلات الدراسة
1- هل تقوم السيرة الذاتية بتأطير الحالة التاريخية بشكل يتوافق مع اتجاه الكاتب أو أن تأطيره لها يكون محايدًا؟
٢- كيف يمكن التوفيق بين المنظور الشخصي الخاص بأثر الحالة التاريخية في الكاتب وبين حقيقة الحالة نفسها؟
منهجية الدراسة
تقوم هذه الدراسة على المنهج التحليلي من خلال تفكيك الوقائع التاريخية والقيام بتحليلها من خلال كلٍّ من المسلك الذي سلكه المؤرخ في كتابته، وفي مقابله ما قام به كاتب السيرة، وتكون نقطة الأصل التي ننطلق منها هي تجريد الحدث التاريخي بصورة عامة مُجملة، ثم النظر لما اتصل بها عند كل واحد، وتطبيق ذلك على أمثلة متعددة على كامل الدراسة. حدود الدراسة الزمان: فترة الحرب العالمية الأولى، المكان: المملكة العربية السعودية (مكة، المدينة، جدة)، سوريا (دمشق، حلب)، الموضوع: سيرة حياتي مع الجوع والحب والحرب لعزيز ضياء.
الزمان: فترة الحرب العالمية الأولى، المكان: المملكة العربية السعودية (مكة، المدينة، جدة)، سوريا (دمشق، حلب)، الموضوع: سيرة حياتي مع الجوع والحب والحرب لعزيز ضياء.
الكلمات المفتاحية
سفر برلك، حياتي مع الجوع والحب والحرب، الحرب العالمية الأولى، المدينة المنورة، الاتحاد والترقي، حصار المدينة.